آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
"يُؤمن الناس من العظائم ويهوّن كبير الجرائم"(1).
يعمل العالم الفاسد على أن يطمئن الناس إلى الأخطار التي تهدّدهم في مسير العبودية لله بدل أن يلفت انتباههم. كما أن هذا العالم يصغّر الذنب الكبير في أعين الناس ما يؤدي بدوره إلى انتشار الفساد في المجتمع.
*استصغار الذنوب والبدع
الواضح أنّ هذا السلوك مغاير بالكامل لسلوك أنبياء الله عليهم السلام، هؤلاء المرسلين الذين كانوا ينذرون الناس، وكان من أول أهدافهم الكبيرة إبعاد الناس عن المفاسد، وعن المعاصي والأمور التي تحرمهم من السعادة الدنيويّة والأخرويّة. هؤلاء الأنبياء يُذَكّرون الناس، باستمرار، باليوم الآخر، وبالأحداث العظيمة التي ستقع فيه وذلك بهدف أن يقف الناس على عمق الضرر الذي يشكّله الانحراف والطغيان. يتحدث الله تعالى حول عظمة موقف القيامة:
﴿إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾ (الحج: 1 - 2).
ويقول الإمام عليه السلام: "يقول [العالم الفاسد] أقفُ عند الشبهات، وفيها وَقَع. وأعتزل البدع وبينها اضطجع". هو يروّج الشبهات بين الناس، ثم يُخرج نفسه من بين الأشخاص الذين ذمّهم الله لدخولهم في الشبهات، وهدفه من ذلك أن لا يفقد الناس. كما أنه يعمل على الابتداع في الدين وفي الوقت عينه يتبرّأ من ذلك.
*السيرة الحيوانية للعلماء المغرورين
"فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه، فذلك ميت الأحياء".
هذا الشخص، إنسان في الظاهر والصورة إلّا أنه حيوان من حيث القلب والباطن. القلب، مركز الإدراك والشعور والفهم والمحبة والإرادة. والقلب طبق ثقافة القرآن والسنّة، مركز الإيمان والهداية. فالذي يمتلك قلباً حيوانياً، تكون أفكاره وميوله حيوانية، بدل أن تكون أفكاره ميولاً متعالية وإنسانيّة. حتى أن سلوك هذا الشخص واختياره يكون حيوانياً. ومما لا شك فيه أن الضالّين من هؤلاء العلماء يقدّمون أنفسهم على أنهم أكثر الناس تهذيباً وتقوىً، لكنهم يشكّلون سداً كبيراً أمام الناس من طالبي الحقيقة الذين لا يتمكّنون من التفريق بين الصورة والمعنى، والظاهر والباطن.
لم يستخدم الإمام علي عليه السلام كلمات ذم بحق الآخرين كما استعملها بحق هؤلاء العلماء. ولعل عبارات الإمام عليه السلام شبيهة إلى حدّ بعيد بكلام الله تعالى: ﴿أوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (الأعراف: 179).
*علماء غارقون في الغفلة
يصف الإمام عليه السلام هؤلاء المسمّين بالعلماء الفاسدين، الذين يروّجون للضلال من خلال الشبهات والأفكار الباطلة، بأنهم غارقون في الغفلة، فلا يمكنهم معرفة قوانين الصلاح والفلاح، وبالتالي ليس بمقدورهم الاستعانة بها للوصول إلى السعادة. هؤلاء عاجزون عن معرفة مسير الباطل أيضاً؛ وبالتالي، ليس بإمكانهم النجاة من الضلال والعمى.
القرآن هو المصدر الكامل والجامع للهداية. والشخص الذي يمتلك استعداد قبول معارفه بإخلاص وتواضع، يجد طريق الهداية ويكون قد هيّأ الأجواء لسعادته. أما الذي يهوى الموقع والشهرة وجمع الناس بكلامه الخادع، فلا يمكنه الاستفادة من معارف القرآن، ولا يستطيع قراءة القرآن، ولا يواجه القرآن بذهن خالٍ من الأهواء والشبهات، بل يُقْبل إليه حاملاً أحكاماً مسبقة ويعمل على تطبيق معارف القرآن وفق ميوله ورغباته وأفكاره الشيطانيّة. وقد يجد أيضاً لشبهاته دليلاً من النص فتكون بذلك سريعة النفوذ إلى قلوب غير العارفين.
هؤلاء الأشخاص مَثَلُهم كمثل الأموات بين الأحياء، لا بل هم أموات خطرون، تخرج من أفكارهم روائح العفونة فتؤذي مشام الذين يرغبون في الوصول إلى الفكر الخالص. قد يكون الجاهل الضالّ قليل الخطر لأنه لا يُضلّ الآخرين، أما العالم الضال فيؤثّر عليهم؛ يشعل في داخلهم نار الانحراف والضلال ويبعدهم عن طريق الحق. طبعاً يُثقل هذا الإنسان بعمله كاهله من المعاصي والذنوب، لا بل هو شريك الآخرين في معاصيهم وانحرافاتهم: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِم﴾ (العنكبوت: 13).
*شريك الآخرين في أعمالهم
إذا عمل الشخص على هداية الناس نحو طريق السعادة والصلاح، فسيكون شريكاً لهم في أعمال الخير. وبالمقابل إذا ساهم الشخص من خلال كلامه وقلمه في ضلال وانحراف الآخرين، فهو سيكون شريكاً لهم في العذاب ما دام الفكر والسلوك الباطل فيهم.
يجب أن يلتفت أصحاب العلم والفكر إلى ذلك وأن يعملوا على اقتباس المعارف الإلهية من القرآن وأهل البيت عليهم السلام. عليهم أن يعملوا بما تلقَّوه من المصادر الإسلامية عبر الطرق الصحيحة. وعلى هؤلاء الأشخاص أن لا يجعلوا دين الله ألعوبة بأيديهم، وأن لا يفسروا آيات القرآن كما يرغبون ويحبون هم أن تكون.
*الإسلام لا يقبل المنحرفين
كان أحد المنحرفين يفتخر بكونه يقدم الإسلام للشيوعيين الإيرانيين في ألمانيا بحيث يكونون مسرورين بما يسمعون، فيقولون: "إذا كان الإسلام على هذا النحو فنحن مسلمون"! مما لا شك فيه أن الإسلام الذي ليس فيه أي تكليف أو قيد أو حدود، والإسلام الذي يسمح للناس بالحديث بكل ما يشاؤون والقيام بما يريدون والذي يجيز الفساد والفحشاء وبيع الأوطان، هو إسلام مقبول عند أعداء الإسلام. أما الإسلام الذي لا يرضى للناس الحرية التي لا حد ولا حدود لها، والذي قدم قوانين وتعاليم لكافة جزئيات سلوك الإنسان، والذي لا يجيز للإنسان التحدث بكل كلام أو سماع أي كلام، هو إسلام غير مقبول عند الرافضين لعبودية الله.
وعلى هذا الأساس، فعباد الله المخلصون المستسلمون بالكامل للأوامر والتكاليف الإلهية والذين يرغبون في التقرب من الله، هم قليلون. وعلى عكس ذلك، كثيرون هم المتّبعون لأهوائهم الشيطانية، والذين يرجحون مصالحهم الشخصيّة على المصالح الواقعيّة والغافلون عن الحق. كذلك كثيرون هم الأشخاص الذين وضعوا علمهم في خدمة ميولهم، ورغباتهم، واستعملوا العلم وسيلة للوصول إلى المواقع الاجتماعية، وتأمين الحياة المرفهة. يقول الله تعالى في ذلك: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 23).
ومن النماذج البارزة لهؤلاء الأشخاص، بلعم بن باعوراء الذي يقول الله تعالى فيه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ...﴾ (الأعراف: 175 - 176).
1.نهج البلاغة، خطبة (87).