آية الله الشهيد مرتضى مطهري
تختلف التربية عن الصناعة شكل عام في أمر، يمكن للإنسان من خلاله أن يتعرف على ماهية التربية. فالصناعة عبارة عن تركيب وتنظيم شيء أو أشياء أو إيجاد ارتباط بين الأشياء وقوى الأشياء، بالقطع والتوصيل. فلنفرض أننا نريد أن نصنع من الذهب خاتماً أو عقداً فما نقوم به هو إعطاؤه شكلاً ليتحول إلى شيء مصنوع.
ولكن التربية عبارة عن تنمية، فالقابليات الكامنة تخرج إلى الفعلية والتحقق. ولهذا فإن التربية لا تصدق إلا في مورد الكائنات الحية كالنبات والحيوان والإنسان، وإذا استعملنا هذه الكلمة في مورد غير الكائنات الحية فهذا من باب المجاز وليس استعمالاً للمفهوم الواقعي، فالفلزات أو الأحجار لا يمكن تربيتها أو تنميتها.
ومن هنا يعلم أن التربية ينبغي أن تتبع الفطرة وهي طبيعة وجبلة الشيء. وإذا تقرر تربية شيء ما ينبغي السعي لأجل إظهار وإبراز تلك الاستعدادات الكامنة فيه. فإذا لم يكن فيه ذلك الاستعداد فمن البديهي أن هذا الشيء غير الموجود لا يمكن تربيته وتنميته. فالدجاجة لا تملك قابلية الدرس والقراءة ولهذا لا يمكننا أن نعلمها الرياضيات والحساب والهندسة. ومن هنا يعلم أيضاً أن الإرعاب والتخويف والتهديد لا تكون عوامل تربوية للإنسان (بمعنى التنمية)، كما أن البراعم لا تتفتح بالقوة. وإنما فقط بالطرق الطبيعية حيث تتضافر قوى الحرارة والماء والتراب لتربيتها.
* رعاية حالة الروح
في نهج البلاغة في باب قصار الكلمات يوجد ثلاث جمل بهذا المعنى: "إن للقلوب شهوة وإقبالاً وإدباراً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي".
وفي الحكمة 188 يقول عليه السلام: "إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة".
وفي الحكمة 304 ـ حيث يتضح أن الكلام هنا مقصود منه العبادة ـ يقول عليه السلام: "إن للقلوب إقبالاً وإدباراً فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل وإذا أدبرت فاقتصروا ما بها على الفرائض".
وكل هذه تشير إلى ضرورة ملاحظة حال الروح حتى في العبادة. فالعبادة إذا حملت على روح الإنسان بالقوة تؤثر أثراً سلبياً.
* تعبير راسل
كان راسل أديباً قبل أن يكون فيلسوفاً وشاعراً، وكانت تكثر في كلماته التعابير الشعرية والأدبية، وله حديث في كتابه "الزواج والأخلاق" يذكر فيه أن أنواع التربية المبنية على التخويف والإرعاب هي "تربيات الدببة" يقول:
"إن الشعور بالخطأ والندم والخوف لا ينبغي أن يستولي على حياة الطفل. ينبغي أن يكون الأطفال سعداء مسرورين، لا يصدون عن معرفة الأمور الطبيعية. وما أكثر أولئك الذين اعتبروا التربية مثل تدريب الدببة في السيرك. فنحن نعلم كيف يعلمون الدب الرقص حيث يحمون قطعة من الحديد ويضعونها أمامه فيضطر للوقوف والرقص لأنه إذا أنزل قدميه الأماميتين أحرقهما. ويحدث مثل هذا الأمر للأطفال الذين يتعرضون للتوبيخ من قبل الكبار بسبب بعض المسائل مما يؤثر عليهم في المستقبل ويجعل حياتهم مضطربة".
* الخوف عامل يمنع من الطغيان
هنا يلزم أن نقدم توضيحاً: هل تعتبر مسألة الخوف والإرعاب سواء في التربية الفردية للطفل أم في التربية الاجتماعية للكبار إحدى عوامل التربية؟ وهل أن الخوف يمكن أن يربي روح الإنسان؟
كلا لا يمكن أن يكون الخوف عاملاً للتنمية. وإنما يوجد كلام آخر في كون الخوف عاملاً تصح الاستفادة منه في تربية المجتمع أو الطفل ولكن ليس لتربية الإنسان وتنمية قابلياته، بل لأجل المنع من الطغيان. فهو يلعب دور الإخماد والوقوف بوجه الاستعدادات السافلة.
* ضرورة اطلاع الطفل على سبب الترغيب أو التهديد
ولهذا ينبغي الاستفادة من عامل التخويف في بعض الأحيان، ورغم أننا لا نعتبره عاملاً إيجابياً في التربية التنموية ولكنه عامل ضروري، أما في خصوص تربية الطفل فيجب اطلاعه على سبب التخويف أو الترغيب. فالطفل إذا لم يعرف سبب تهديده، فإنه سوف يعيش الاضطراب. وقد التفتوا اليوم إلى أن أكثر الأمراض النفسية تعود إلى تلك الحالات التي عاشها الإنسان في طفولته بالرعب والضرب والتهديد.
وأقدم مثالاً يوجد نظيره في أحاديثنا الشريفة. لنفرض أن أماً كانت حاضرة في مجلس وكان طفلها جالساً في حضن رفيقتها، وهذا الطفل لا يعي أنه لا ينبغي أن يبول. فالتبول عنده مثل الشرب، وأيضاً لا يفرق ما بين حضن أمه أو حضن رفيقتها. ثم قام بهذا الفعل الذي يجعل أمه في حالة عصبية وغضب شديد فتضربه.
من البديهي أن هذا الطفل لا يعلم هذا الضرب. وما يفهمه هو أنه لا ينبغي له أن يبول، وتكون النتيجة أنه كلما أراد أن يبول يصاب بحالة اضطراب وقلق، ويدخل الخوف إليه من جراء هذا الفعل، ومن الممكن أن يؤدي هذا الأمر إلى إيجاد عوارض جسمانية وعصبية وعقد نفسية. هذا التخويف لا منطق له في هذه الحالة وإن كان في رأي الأم صائباً. ولهذا نحن نرى من خلال أحاديث متعددة أنه يصادف أحياناً إحضار أطفال إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لكي يدعو لهم وعندما يضعهم في حضنه يبول أحدهم، فيصاب والده أو أمه بحرج شديد ويغضبون فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزرموا" يعني أن لا تمنعوه من التبول. وأحياناً كان يقول لا تزرموا على ابني. نعم عندما يصل الطفل إلى تلك المرحلة التي يمكنه معها من فهم هذا الأمر فإنه لن يعود إليه وسوف يعلم أن التبول على الفراش ليس جيداً. فإذا فعل هذا فإنما يكون ناتجاً عن حالة من الطغيان، ويمكن حينها أن تكون الخشونة مفيدة نوعاً ما.
في المجتمع الكبير الواضح أن عامل الخشونة ضروري خاصة أن الإنسان المدرك يعلم أنه لا ينبغي أن يقوم بهذا الفعل.
* مرحلة تفتح الروم (النضج)
الأمر الآخر هنا أن أساس تربية الإنسان ينبغي أن يقوم على تفتح الروح. هل تختلف مراحل العمر فيما بينها بالنسبة لهذا الأمر؟ هذا من المسلّمات. فبعض مراحل العمر لها دور خاص ومناسب لتفتح الاستعدادات والطاقات الكامنة. وهي مرحلة ما بعد السنوات السبع التي اعتنت الروايات الإسلامية بها كثيراً وتمتد حتى الثلاثين حيث تنمو كل الاستعدادات العلمية والدينية والأخلاقية. وعند طلاب العلم تعتبر هذه المرحلة من أجمل ذكريات حياتهم رغم أنهم لاقوا فيها الكثير من الصعاب والمشاكل المادية. إنها مرحلة السمو، إذا حرم الإنسان من الاستفادات العلمية والمعنوية فيها فمن الصعب جداً أن يجبر تلك النقائص في السنوات اللاحقة.