عندما تقرّر أمّة من الأمم أن تبني مستقبلها وتتقدّم فليس لها إلاّ طريق واحد وهو إعداد وبناء الأطفال والأحداث. وليس ذلك إلاّ لنقاوة ضمائرهم وعظمة استعداداتهم.
وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام: "وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها شيء قبلته..".
وإذا كان القرآن قد اعتبر أن عملية التغيير إنّما تبدأ بالنفوس:
إذ قال تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " فإنّ أصدق مصداق يمكن أن يتجلّى بالأحداث حيث من السهل تنزيه نفوسهم الطرية والمستجيبة، ولكي لا نستغرق في المقدّمة فمن الأفضل أن ندخل إلى الموضوع مباشرةً.
* مع الولادة
يؤكّد القرآن الكريم أنّ الإنسان بكامل استعداداته الفطرية قال تعالى في سورة المتقين: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وتسوية القوام إنّما يكون في جميع الجهات ولا يقدر بفعل الله غير ذلك والسياق اللغوي يساعد على هذا المعنى. وعندما يقول تعالى: ﴿ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ فإنّما يكون هذا الخلق الآخر بهذه الخاصّة الفطرية وهي ذات الخاصية التي سجد لها الملائكة في آدم وبهذا كرم الله سبحانه بني آدم بقوله جلّ وعز ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ..﴾
وعن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة وأبواه إمّا يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". ومع ذلك فإنّ من غير الخفي كم هناك من اختلاف بين المواليد أناثاً وذكراناً سواء كان هذا الاختلاف في البنية الجسدية، القوة والجمال. أم في قوّة العقل وصفاء القلب ونجابة الطباع.
والأجيال تتوارث النبوغ وتتوارث الحمق. وقد تتوارث الحكمة والأدب وكذلك فإنّها تتوارث الجمال والصحّة وتتوارث سحنة الزنج أو الصفر.. إلى غير ذلك.
.. ولكن ثمّة وراثيات ثابتة ووراثيات تربوية بمعنى أنّها وبفعل التربية عبر الأجيال تكون وراثيات عائلية فالتربية السيئة وإهمال التربية البدنية تؤدي إلى أمراض في مواليد السلالة والعكس صحيح. وهذا الأمر يتماثل على مستوى التنمية الفعلية وتهذيب النفس.
أي أنّنا نستطيع عبر الأجيال أن نحسن الوراثيات فتتحسن المواليد وبالخلاصة فإنّ تهذيب العقول والنفوس بالإضافة إلى العناية الصحيّة يؤدّي إلى تغيير اجتماعي هائل لعدّة أجيال وقد يستمرّ إلى ما شاء الله فيما إذا استمرّ توفّر ذات الشروط.
ولكن تبقى هناك إستثناءات فقد يلد العقيم أو الكهل نبياً وقد وقد.. فهناك هبات إلهية نادرة وأخرى استثنائية خارقة. كما في قصة ضيف إبراهيم التي حدثنا عنها القرآن إذ دخلت امرأته وهم يبشرون إبراهيم بغلام عليم وكانت عجوزاً عقيماً فقبضت وجهها مستهجنة يقول القرآن عن ذلك: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾"الذاريات/29".
ومن الاستثناء ابن نوح الذي قال تبارك وتعالى في القرآن الكريم: "إنّ ابنك ليس من أهلك" ومن هذا وذاك وغيرهما كثير.
عن الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام قال: "العقل حباء من الله والأدب كلفة فمن تكلّف الأدب قدر عليه ومن تكلف العقل لم يزدد بذلك إلاّ جهلاً".
وقال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: "العقول مواهب والآداب مكاسب".
* متى تبدأ التربية؟
لا يكون المولود مولوداص إلاّ حين يولد في رحم أمّه وهذا أمر لا جدال فيه إلاّ أنّ مرحلة التكون في رحم الأم هي أيضاً مرحلة في غاية الأهمية إذ ليس إبن الحلال كإبن الحرام وليس غذاء الأبوين من الحلال كغيره من الحرام. وأيضاً في المجال النفسي والأخلاقي. فالحب والانسجام والإيمامن لقاح الطمأنينة لهذا الجنين فضلاً عن الأمور العبادية الخاصة وآثارها كمستحبات الجماع والمستحبات أثناء الحمل لكلّ شيء في هذا آثارها الهامّة. وكذلك تربية الأبوين الاجتماعية والثقافية لها آثارها الهامّة وما نريد قوله إنّ التربية تبدأ بعد الولادة إلاّ أنّ الخصائص البدنية والروحية تبدأ قبل الولادة وهي بالتالي تحدّد تأثير التربية والعناية بهذا المولود.
* المدى الزمني للتربية
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد سيد سبع سنين وخادم سبع سنين ووزير سبع سنين فإن رضيت مكانته لإحدى وعشرين وإلاّ فاضرب على كتفه قد أعذرت إلى الله فيه".
والذي يظهر في هذا الحديث وغيره أنّ للتربية ثلاث مراحل السبعة الأولى والسبعة الثانية والسبعة الثالثة.
ويظهر أيضاً أنّ مرحلة التربية المباشرة هي المرحلة الثانية أمّا المرحلة الأولى فيغلب عليها الحرية والمرحلة الثالثة فيغلب عليها الصداقة والمؤاخاة.
من حيث المبدأ سنعكف على الاهتمام بالمرحلة الأولى.
* قابليات الطفل وحاجاته
نستطيع أن نعرف قابليات الأطفال من نوع وحجم التكليفات المطلوبة كما أنّن نستطيع أن نستبطن الحاجات من نوع الأهداف المقصودة من هذه التكاليف.
يستحب للمولود عند الولادة الآذان بالأذن اليمنى والإقامة في اليسرى.
أترى أنّ المولود لا يتأثّر وإذا تأثر نراه لا يحتاج إليه وأيضاً أليس في ذلك بيان لهدف الخلق نعم إنّ قابليات الطفل أوسع وأكبر من أن نتصور.
إنّ الطفل منذ اللحظة الأولى للولادة يبحث عن ثدي أمّه ليرتوي منه وليسمع دقات قلبها وليشعر بالدفء والحنان في حضنها. وعندما نرى طفلاً يتيماً ترعاه امرأة غير أمّه أو ترعاه مؤسّسة نرى في عينيه لون الحسن والفتور إن في ذلك دلالة واضحة كم يحتاج الطفل إلى ذاك وكم هي استعداداه لأخذ كلّ هذا الغذاء المعنوي والعاطفي بحيث لو فقده تغير كلياً.