تحقيق: فاطمة خشاب درويش
من يدخل القفص الذهبي يظنّ أن التّربية أمر فطري وطبيعي يتعلّمه الأهل بالمراس ويكتسبه الطّفل بالتّكرار. ومع تقدُّم التّجربة يكتشف الأهل أن التّربية مهمّة شائكة تتطلب لنجاحها اعتماد قواعد سليمة تجنّبهم بالحدّ الأدنى التّأثيرات السّلبية على الطفل وشخصيّته. يتحير الأهل كيف السبيل للتعامل مع أولادهم خاصة في ظلّ معرفتهم المحدودة بعالم الطفل، ومتطلبات كلّ مرحلة عمرية، وفي ظل ثقافة غالباً ما تكون مكتسبة من المحيط العائلي والمعتقدات الشائعة في المجتمع.
الأهل يطمحون لتربية أبنائهم أحسن تربية، ولكن كيف السبيل؟
في هذا التحقيق سنعالج إشكالية تربية الأولاد انطلاقاً من المعتقدات الشائعة في مجتمعنا... نستعرض قول الإسلام في مجال التربية، ونتعرف أكثر إلى ما توصلت إليه أساليب التربية الحديثة.
*تجارب واقعية
نبدأ مع الأهل ومع تجارب واقعيّة تعكس حجم المأزق الذي يعيشه الأهل مع أولادهم.
1. ابني عنيد جداً
تتحدث السيدة (ميسم. م) عن تجربتها، وهي أم لطفلين فضل ومهدي، فتشير إلى أنها تستخدم أسلوب التخويف مع ولدها الأصغر (فض)" لأنه عنيد جداً وهو يعتمد أسلوب البكاء لتحصيل ما يريد. وتعتبر السيدة ميسم أن المشكلة تكمن في الأب الذي يعتبر أن كل شيء مسموح للطفل وليس هناك ممنوعات.
2. أضربُ ابني عندما يتجاهلني
السيدة (سماهر. ح) بدورها تؤكد على صعوبة عملية تربية الأولاد، وهي أم لثلاثة أولاد علي ومصطفى وجاد، خاصة مع تفاوت الطباع بين ولد وآخر، مشيرة إلى أنها تبدأ بالضرب من عمر سنة لأن أسلوب التهديد والمنع يفشل، وغالباً لا تستطيع أن تلزم أولادها بما تريد.
3. كل شيء مسموح للحفيد الأول
تجربة السيدة (غنى) مع ابنتها يارا البالغة من العمر عامين تتشابه مع قصص الكثيرين من الأهل، فيارا، الطفلة المدللة والحفيدة الأولى، مسموح لها كل شيء. توضح السيدة غنى أنها لا تلبي رغبات ابنتها بالمطلق مشيرة إلى انزعاجها من التعاطي المفتوح مع الولد، دون قيود، بحجة عدم ازعاجه، خاصة من قبل الأب والأجداد.
*مفهوم التربية
يعتبر مدير عام المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم -مدارس المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف- سماحة الشيخ مصطفى قصير أن المشكلة في موضوع التربية ناتجة عن غياب المعرفة بأساليب التربية لدى الزوجين ويرى أنّ الرؤية الإسلامية للتربية تنطلق من نظرة الإسلام للإنسان وفلسفة وجوده في هذه الحياة (من أين؟ وإلى أين؟). هذا المسار المتضمن لجملة من الأهداف التربوية التي تصلح لأن تكون اتجاهاً إسلامياً في التربية. لذا فإن المناهج التربوية تلحظ بناء شخصية الإنسان الإسلامية بطريقة تخدم حياته الدنيوية، باعتبارها مزرعة للآخرة التي تجسد الحياة الباقية للإنسان. وفيما يتعلق بالوسائل التربوية التي تستخدم، فهي وسائل تراعي تحقيق هذه الأهداف، فلا تنمي جانباً على حساب جانب آخر.
* الوراثة والبيئة
يعتبر مسؤول دائرة الإشراف التربوي في مدارس المصطفى د .السيد محمد رضا فضل الله أن الهدف الكبير الذي يجب أن يطمح له كل مربّ هو تنمية كامل شخصية الولد، بمختلف أبعادها، انطلاقاً من رؤية عقائدية يؤمن بها، بحيث ينمو هذا الولد سليماً جسدياً، ومستقراً نفسياً ومتوازناً عقلياً. ويرى د. فضل الله أنّ ما يساهم في بلورة هذا النمط من الشخصية عاملان: الوراثة والبيئة. ولعل الحقل الذي يملك فيه المربي بعض الحرية في التصرف هو البيئة بحيث يستطيع توفير الأجواء التربوية الصالحة التي تحوّل القوى الوراثية الكامنة إلى إمكانات فعلية مناسبة. والأجواء البيئية هذه يمكن أن نختصرها بميادين ثلاثة: البيت (الأسرة) والمدرسة والمجتمع بكل تنوعاته. وكل واحدة من هذه البيئات تخضع الولد إلى نمط خاص من التربية ينطلق من ثقافة وقيم ومزاج الشخص المربي سواء أكان أباً أم أماً أم معلما،ً فكل واحد من هؤلاء له إرثه الثقافي وعقليته وقناعاته وخلفياته وأخلاقه ومزاجه.
ويرى الاختصاصي في مجال علم النفس الأستاذ هشام شحرور أنّ الطفل مفطور على جملة من الأمور وهو يحاول منذ مراحل طفولته الأولى أن يتحرّر من كلّ ما يقيّده. فالتربية تكون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فالطفل يتعلم سلوكيّاته، وكلما كبر كلما ازدادت قدرته على التأثر بسلوكيات وتصرفات الآخرين. ويعتبر شحرور أن المشكلة تكمن في أن الأهل يحدّدون أوقاتاً لتعليم الطفل فيما يخضع الطّفل للتّربية من خلال سلوكيّات وتصرفات الأهل. لذا على الأهل مراقبة أنفسهم في كل الأوقات.
*العنف الأسلوب الشائع
يؤكّد الشيخ مصطفى قصير أنّ العنف بشكل عام ليس وسيلة تربية، بل وسيلة ردعٍ. والجهل بالأساليب التربويّة الصحيحة يدفعنا إلى استخدام وسائل الردع التي يعتبر أحد أبرز أشكالها الضرب، إلى جانب استخدام العنف الجسدي أو النفسي. وهذه الوسائل على اختلافها تحقق نتيجة مؤقتة مرحلية فيرتدع الطفل عن القيام بفعل معين. وعندما يأمن على نفسه ويخرج من دائرة الخوف لا يجد مانعاً في ممارسة ما منع عنه. فالعقاب في العملية التربوية ضرورة في بعض الأحيان لتحقيق الالتزام بالنظام العام بعيداً عن العنف الغائب عن سلّم أولوياتنا التربوية.
ومن وجهة نظر نفسية يشير الأستاذ هشام شحرور إلى أن الضّرب وسيلة سهلة بالنسبة للأهل وبعض المعلّمين، إلاّ أن هذا الأسلوب يترك تأثيرات نفسيّة خطيرة على الطفل، وسلوكه، ويربي لديه القناعة بأن القويّ يضرب الضعيف فيمثل الضرب له وسيلة للتواصل مع الآخرين ويتعزز السلوك العنيف عنده.
وفي نظرة تربوية تحليلية يرى د. فضل الله أن الأهل وبفعل تراكم الضّغوط المعيشيّة والاجتماعيّة، يفقدون ملكة الصبر فيستسلمون لانفعالاتهم التي تتّسم أحياناً بالعنف والعشوائية، والتي قد تفاجئ الولد، وتجعله يعيش في حيرة بين ما يتعلمه ويشاهده ويعيشه. لذا، علينا أن لا نتصرف من موقع الهيمنة على حياة الطفل. فللتربية أصول وقواعد لا بد من اعتمادها حتى نستطيع حفظ توازن شخصية الولد وفعاليتها. ويتابع د. فضل الله قائلاً: "على المربي أن يمتلك ثقافة تربوية واعية وأن يتطلّع دائماً إلى مستقبل الطّفل ومتطلّباته انطلاقا من القيم التي يؤمن بها بهدف تحصيل الهدوء النّفسي والتوازن العقلي، والسلام العقدي، والانسجام الروحي، والعمق العلمي. فيكون ولدنا ابن عصره والمُغيِّر لمساره نحو ما يريد الله سبحانه وتعالى ويرضى عنه".
*التربية على العفة
يرى الشيخ مصطفى قصير أن التّربية الإسلامية لأولادنا تبدأ من بناء المرتكزات الفكريّة والعقائديّة، والقيم الإنسانية. فبناء الإنسان يتطلّب من الأهل بناء الملكات الفاضلة. وهناك توجيه في الروايات عن الأئمة عليهم السلام إلى سلوك معيّن في التّربية. فالوسيلة لها تأثير على بناء شخصة الطفل، وهناك وسائل وقائيّة كالفصل بين الذكور والإناث في الفراش، إضافة إلى التأكيد على تربية الأبناء على مفهوم العفة، فعفة البطن تدرب الطفل على مبدأ التحمل وتدفعه للتقيد بالأعراف والتقاليد الاجتماعية ويساعده ذلك فيما بعد على تهذيب النفس، والتحكم بغرائزه وشهواته.
*خطوات عملية للتربية
يشدِّد الأستاذ هشام شحرور على ضرورة أن يضع الأهل منذ البداية جملة من القواعد التربوية. فليس هناك تربية عشوائية تنطلق من ردات الفعل المفاجئة والمتسرعة، ومن أبرز القواعد التي يمكن اتّباعها في التربية:
1- التحاور مع الولد، لأنّ الحوار يعزّز، لاحقاً، عند الطفل ملكة الحوار، والتواصل الاجتماعي، وأيضاً ملكة الانتقاء وتفعيل العقل.
2-اعتماد الأسلوب التّبريري بمجرد أن يبدأ الولد بالإدراك والابتعاد عن الزجر والنهي المستمر.
3-التعامل بحبّ مع الطفل وعدم المبالغة في استعمال السلطة.
4- التعاون والتنسيق بين الأم والأب، فوحدة القرار بينهما تدفع الطفل للالتزام بما يقرّرانه. وعلى الأهل عدم التّراجع عن القرارات. لأن تراجع الأهل مرة يدفع الطفل للضغط حتى ينال ما يريد.
5- التخفيف من الممنوعات، وعدم تقييد حركة الطّفل الذي يمتلك الكثير من الطاقة.
6-التّحفيز الإيجابي للطفل يعزّز سلوكه الإيجابي وينمّيه.
7-اختيار الألعاب للطفل بطريقة سليمة وتربوية إلى جانب التركيز في اختيارات الأهل على الألوان الزاهية منها وأفضلها اللون الأزرق، إذ إن الألوان الحامية كالأحمر غير ملائمة للطفل لأنها تؤثّر سلباً على شخصيته.
8- أخيراً، عدم إعطاء الطفل كلّ ما يريده، لأنّ ذلك يُفقد الأهل عُنصر المساومة معه.
*بالحوار نربي
في الخلاصة يمكن القول: إن النظريات الإسلامية والمفاهيم التربوية تلاقت حول مفصل أساس هو الحوار مع أولادنا منذ الصغر. فالمسألة تحتاج إلى صبر من الأهل، وإرادة وقدرة على التحمل، خاصة، في ظل الحياة المليئة بالضغوطات والتحديات. وليكن التحدي الأكبر لدينا كأهل هو كيف نصنع إنساناً متوازياً وفاعلاً في المجتمع يمتلك الكثير من الملكات والطاقات.