أثبتنا في الحلقة الماضية أن الناس لا يمكن لهم أن يستغنوا عن الأنبياء، فهم الأدلاء على الطريق الموصل إلى السعادة الحقيقية، وبدونهم سوف يبقى الناس في حيرة وضلال. وقد يشتغل البعض هذه الحاجة الضرورية، فيدعي النبوة ليستميل إليه قلوب البسطاء والسذج من عوام الناس، وعليه فلا بد من وجود وسائل لمعرفة النبي الصادق من الكاذب المفتري.
* وسائل معرفة النبي
يوجد طرق متعددة لمعرفة النبي الصادق من الكاذب. هذه الطرق تتفاوت فيما بينها سعة وضيقاً وحجية تبعاً لتفاوت أحوال الناس وخاصة النضج الفكري عندهم. فبعضها (الطرق) يختص بالمتدينين. وبعضها بالعلماء، والبعض الآخر يصلح لجميع الناس، وهي على التوالي:
1- إخبار الأنبياء السابقين.
2- النظر في سيرة الشخص (المدعي للنبوة) ودعوته.
3- المعجزة.
1- الطريق الأول
إذا أخبر نبي من الأنبياء بوجود نبي آخر، أو بشر بقدوم نبي يتصف بمزايا وخصائص معينة. فإن هذا الإخبار حجة على قومه المؤمنين به وكاف لإثبات نبوة ذلك الشخص وصدقه. وأبرز مثال على ذلك بشارة موسى وعيسى عليهما السلام برسول الاسم العظيم. حيث ورد في الآية 157 من سورة الأعراف ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾. ويحكى القرآن عن عيسى عليه السلام قوله ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾. وكان أهل الكتاب قبيل ظهور الإسلام يستفتحون على المشركين بظهور نبي يخضع لدينه العرب والعجم. وهذه حجة بالغة وخاصة على علمائهم ﴿أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الشعراء، 197).
يروى أن سلمان الفارسي بعدما آمن بالمسيحية لازم حبراً من أحبارها يتعلم منه أحكام الدين: ولما دنت منه الوفاة، أخبره أن نبياً سوف يخرج من شبه الجزيرة العربية يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة.
ولما التقى سلمان رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قباء في السنة الأولى للهجرة قدّم إليه رطباً على أنها صدقة. فلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزعها على أصحابه دون أن يطعم منها شيئاً. ثم التقى به صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة. فقدم له رطباً على أنها هدية، وإذا بالنبي يشارك أصحابه في الأكل منها. ثم راح سلمان يدور خلف رسول الله باحثاً عن العلامة الثالثة. ففهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مراده وكشف عن ظهره ليريه خاتم النبوة، فانكب سلمان عليه يقبله ويبكي ثم أسلم وأخبره بقصته.
هذا هو الطريق الأول. إلا أنه كما ذكرنا لا يصلح إلا للمتدينين والمؤمنين بالنبي السابق، وإلا فما هو الدليل على صدق النبي السابق وصحة ادعائه؟
2- الطريق الثاني
يتبع العلماء عادة طريق النظر في مسيرة النبي ومطالعة الدعوة التي يدعو الناس إليها، فإذا كان معروفاً بالصدق والأمانة وحسن السيرة وكانت شريعته تشتمل على المعارف الحقة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتحلّ الطيبات، وتحرم الخبائث ولا يوجد فيها ما ينافي العقل السليم برسالته ويؤمنون به، والقرآن الكريم يدعو في كثير من آياته إلى التدبر والتفكر لاستكشاف صدقه وحقانيته ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ (النساء، 82).
ورد في سيرة الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه أنه كان في الجاهلية عابداً لصنم. فقدم له اللبن يوماً، وإذا بثعلب يشرب اللبن ويبول على الصنم، ويمضي، فدهش أبو ذر من هذه الحادثة، إذ كيف يبول الثعلب على الإله الذي يدبر شؤوني ويؤمن رزقي ويدفع عني الخطر والضرر!.
فترك عبادة الأصنام منذ ذلك الحين وأنشد قائلاً:
أربِّ يلول الثعلبان برأسه | لقد خاب من بالت عليه الثعالب |
ولما التقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه إلى الإيمان بالإله الواحد القهار ونبذ عبادة الأصنام آمن بالدين الجديد دون تردد وأعلنه على رؤوس الأشهاد في الكعبة المشرفة دون أن يخشى بأس قريش وغطرستها.
وهذا كان شأن الكثيرين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، كانوا يكتفون بالمنطق السليم والحجة الدامغة والسيرة الحسنة، بل إنّ منهم من لم ير النبي مطلقاً كأويس القرني رضي الله عنه.
لكن هذا الطريق غير كاف أيضاً. إذ يبقى الكثير من الناس ممن لا يحسن استخدام عقله، بل يتبع الوساوس والأضاليل ويقلد الآباء والزعماء والكثرة من الناس، كقوم إبراهيم عليه السلام الذين يحدثنا القرآن عنهم عندما كسر أصنامهم وطلب منهم أن يسألوا كبير الآلهة عن الفاعل شعروا بسفاهة رأيهم ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ *أُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ﴾ (الأنبياء، 65).
من هنا تظهر ضرورة وجود وسيلة تشكل صدمة قوية وتقطع الطريق على الطواغيت والمعاندين لاستضعاف الناس، فكان لا بد من المعجزة.
3- الطريق الثالث
المعجزة وهي فعل خارق لعادة البشر. ولها ميزتان:
1- أنها منحة إلهية، فلا يمكن للبشر الإتيان بمعجزة من خلال التدرب على بعض الأعمال أو الرياضات الخاصة، بل هي قدرة خاصة يمنحها الله تعالى للنبي إثباتاً لصدقه وتأييداً لدعوته. وأما ما يقوم به بعض المرتاضين فهو ليس بمعجزة ولا يدل على صدق ادعائهم.
2- أن لا يوجد عامل آخر في قبالها يعطلها ألا يتغلب عليها. فهي دائماً الغالبة، لأنها مؤيدة بإرادة الله وإذنه وقدرته، وإذا قام بعض المرتاضين أو السحرة بأمر يعجز البشر العاديون عن مثله تتدخل القدرة الإلهية لتبطل عملهم حتى لا ينخدع الناس بمكرهم. كما حصل مع مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، فطلب منه أن يمسح بيده على رؤوس بعض الصبيان فتساقط شعرهم. وتفل في بئر ماء فنضبت، وهكذا تبين للناس كذبه.
أما الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لما طلب منه المشركون أن يشق القمر، أشار إليه بإصبعه فانفلق نصفين ونزلت الآية ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر، 1) ولما لم يعارض هذه المعجزة أي عامل آخر، دل ذلك على أنها بإرادة الله وأن النبي صادق. وأن النبي صادق وقد كان للرسول صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الآيات والمعاجز من تسبيح الحصاة بين يديه. وتسليم الشاة عليه بالرسالة، واستجابة الشجرة لدعوته، وغير ذلك مما ذكر في كتب السيرة والتاريخ، إلا أن أعظم معاجزه على الإطلاق هي القرآن الكريم موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
يبقى أن نشير إلى مسألتين ضروريتين، الأولى: وهي أن الفعل الخارق لعادة البشر لا يختص بالأنبياء فقط، بل هو يصدر عن الأولياء والأئمة أيضاً دون أن يكون مقروناً بدعوى النبوة ويطلق عليه عندئذ الكرامة.
الثانية: وهي أن "المعجزة لا تتناقض مع قانون العلية، فقد يتوهم البعض أن فرض تحقق المعجزة يعني فرض تحقق معلول من دون علية، وهذا مستحيل بالبداهة العقلية. فيُقدم على إنكار تحقق المعجزة فعلاً. معتبراً كل ما ورد في القرآن الكريم عن معجزات الأنبياء من باب المجاز، ولا يخفى ما في هذا القول من تهافت: إذ أن تصريح القرآن بالمعجزات الواقعية في الكثير الكثير من الآيات الكريمة لا يمكن تأويله بالمجاز بأي وجه فالقرآن يصرح بوقوع المعجزة فعلاً ولكن هذا لا يعني تحقق معلول من دون علة، وإنما يعني التسليم بوجود علة للظواهر المادية، لكنها علة معنوية غير معروفة للبشر تتحقق في نفس النبي بإذن الله وهي ليست قابلة للتعلم والتعليم. وليس هذا ممكناً فحسب، بل هو ثابت ومحقق في العلوم العقلية بشكل قطعي.