آية الله ناصر مكارم الشيرازي
إن أولئك الذين لم يعتنقوا الإسلام أو لم يعترفوا به كدين إلهي ورسالة سماوية، لم يكن لديهم أدنى شك في أن نبي الإسلام كان قائداً عظيماً قد قاد جنوده إلى الانتصارات العظيمة في أقل وقت ممكن وأدنى خسائر متوقعة.
ومن الناحية الإدارية فقد حول ذلك المجتمع الجاهلي المتمزق إلى مجتمع متمدن عظيم وشكّل أمة كبرى من قبائل العرب المتفرقة المشتتة. ولا شك في أن بناء أمة واحدة من قبائل عاشت ردحاً طويلاً من الزمن في نزاعات دموية وهجومات وحشية وسفكٍ للدماء، وفي مدة قصيرة جداً، يعد عملاً عظيماً ومعجزة اجتماعية لم يوجد نظير لها عبر التاريخ، بالإضافة إلى أنه لا يخفى على أحد حجم تأثيرها على مسار البشرية. ولهذا، فإن حياته صلى الله عليه وآله وسلم مهما كان النظر إليه، يمكن أن تكون مصدراً عظيماً وملهماً لاستكمال بحثنا الذي نحن بصدده في كافة الأبعاد. وسوف نرى في الأبحاث المقبلة كيف أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحرك في إدارته وقيادته في كل المسائل وبصورة دقيقة بمقتضى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ (الأحزاب - 21). وهو لنا أسوة وقدوة في هذه القضية المهمة أيضاً.
* نظرة سريعة إلى حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في نظرة سريعة إلى حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة نجد أنه يمكن تقسيمها إلى مرحلتين متمايزتين:
1 - المرحلة المكية (مرحلة الإعداد والتهيئة).
2 - المرحلة المدنية (مرحلة العمل وإجراء البرامج).
ففي المرحلة المكية كان كل هم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم متجهاً نحو البناء العقائدي والفكري حتى تنقى وتصفو قلوب المسلمين الجدد من رواسب الشرك بصورة كاملة، ويتم إعدادهم في حركة عظيمة توجّههم نحو الدين الإلهي لإجراء وإقامة الحكومة الإنسانية المقتدرة ومن أجل تحقيق الأهداف الرسالية العظيمة.
في هذه المرحلة التي استغرقت 13 سنة، كان المسلمون يخضعون بصورة دائمة للبرامج والتعاليم والتربية والتثقيف، ولهذا نجد أن القسم الأكبر من السور القرآنية نزل في هذه المرحلة. لماذا؟ لأن أفضل وسائل التعليم والتربية والتهذيب والتزكية هي الآيات الإلهية.
كان المسلمون في هذا المقطع الحساس من تاريخ الإسلام مكلفين بالإضافة إلى إقامة الصلاة في خمسة أوقات يومية بالقيام في الليل بقدر الإستطاعة لكي يقرأوا القرآن ويطبّقوا تعاليمه في أنفسهم وحياتهم.
﴿إنّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن﴾ (المزمّل - 20).
وكان اختيار الليل بشكل خاص لأن الثورة الإسلامية كانت قد بدأت لتوها وينبغي أن تبقى لمدة من الزمن بعيدة عن أنظار الأعداء، لتترسخ وتنمو أغصانها فلا يقدر بعدئذٍ أحدٌ على اقتلاعها ولا تتمكن العواصف والزلازل من هزّها.
* القمع في مكة والتضييق وبداية الهجرة
لم تعد مكة، بسبب النفوذ الشديد لأشراف قريش والضغط الشديد الذي مارسه مشركوها، قادرةً على استيعاب الحركة الإسلامية. وكان لا بد أن يهاجر المسلمون تدريجياً إلى المدينة التي أعلن أهلها الوفاء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث الجو المساعد. وبالفعل تمت الهجرة التي التحق بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في النهاية متخفياً وغدت تلك المدينة حصناً مناسباً لحماية الدين. لقد أجريت هذه المرحلة بشكل دقيق رغم المخاطر العظيمة التي أحاطت بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي أنجاه الله تعالى ليكون ذخراً لنشر دينه العظيم ولو كره المشركون.
ولكن في الوقت الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يزال قاطناً في مكة، قام بخطوات إدارية أخرى مؤثرة ودقيقة من أجل تبليغ الدين الجديد وإقامة الحكومة الإسلامية، من جملتها:
1 - كانت مراسم الحج في عصر الجاهلية تقام رغم اختلاطها بالخرافات الكثيرة، لأن الحج كان جزءاً من دين إبراهيم عليه السلام الذي بقي منه ما بقي عند عرب الجاهلية رغم التحريفات الكثيرة التي وردت عليه. وقد استغل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه المواسم للقاء الفئات المختلفة القادمة من الجزيرة العربية ودعوتهم إلى الإسلام. وفي أحد هذه المواسم تمت البيعة العظيمة لهصلى الله عليه وآله وسلم من أهل المدينة.
فقد التقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بممثلي أهل المدينة في أحد شعاب "منى" حيث بايعوه بالنبوة والقيادة. وقد اشتهرت وعرفت هذه البيعة "ببيعة العقبة الأولى".
وفي حج آخر قدم 73 نفر من وجهاء المدينة - كان من بينهم عدة نساء - مجدداً إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة وبايعوه ببيعة "العقبة الثانية".
هذه الهيئة هي التي قامت بعد رجوعها إلى المدينة بالإعداد لمقدمات هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة الإسلامية. وهكذا تم التخطيط لتلك المرحلة العظيمة والمصيرية قبل سنتين من بدئها.
2 - هجرة مجموعة من المسلمين الأوائل إلى الحبشة، والتي عرفت هجرتهم "بالهجرة الأولى" أو "الصغرى" كانت جزءً من هذا البرنامج، لأنها أدت إلى رفع صوت الإسلام العظيم في فضاء أفريقيا وجعلت من المهاجرين ذخراً عظيماً لمستقبل الحكومة الإسلامية بسبب اطلاعهم على وضع الدولة هناك واكتساب التجارب المتعددة منها.
3 - أثناء مرض "أبي طالب" المدافع العظيم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قرر مشركو مكة وزعماؤها الذين كانوا يكنّون له الاحترام أن يجتمعوا عنده لإمضاء "مشروع وقف النار" مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه المتحمسين حتى لو كلفهم ذلك تقديم العطايا الجليلة لهم.
وقد طلب أبو طالب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الاشتراك في ذلك المجلس والاستماع إلى اقتراح رؤساء قريش، وهناك قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله المشهور:"يا عم! كلمة واحدة يعطونيها يملكون بها العرب، ويدين لهم بها العجم".
فسال لعاب أحدهم عندما سمع هذه الكلمة وقال: "نعم وأبيك وعشر كلمات".
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه".
ولكن عندما فهم المشركون أن الكلمة هي لإقرار العبودية الواحدة وخلع الأنداد وهدم نظام الشرك، قالوا: "أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن أمرك لعجب!".
أين ستذهب شخصياتهم ومقاماتهم التي أسست على الشرك؟
وأين ستذهب تلك المنافع العظيمة التي كانوا يحصلون عليها من جرّاء تبوّئهم لمركز الصدارة عند العرب ومن خلال سيطرتهم على الكعبة التي يحج إليها كل الناس؟!
في هذه الحادثة يمكننا أن نلاحظ بشكل واضح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في ذلك الوقت مشغولاً في الإعداد للحكومة العالمية العظيمة ومهتماً بهذا الأمر اهتماماً عظيماً: "وهذا الأمر من الأصول المهمة في الإدارة".
4 - بعد دخوله المدينة قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل فعل أي شيء "بتشكيل الحكومة"، وكما قلنا سابقاً من أن الإسلام بدون شك لا يجعل الحكومة هدفاً، بل هي وسيلة. ولكن لننظر إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يهيء شروط الحكومة الإسلامية، ماذا أسس في البدء؟ بيت المال، الجيش، المحكمة أو...
لقد قام صلى الله عليه وآله وسلم، قبل كل شيء ببناء المسجد، لأن المسجد كان أساس كل التشكيلات الأخرى، وبتعبير آخر إن جميع التأسيسات لهذه الحكومة تلخصت في المسجد.
(*) كان المسجد الجامعة الإسلامية الكبرى.
(*) كان المسجد مركزاً لتربية النفوس وتزكيتها.
(*) كان المسجد قاعدة لجند الإسلام.
(*) كان المسجد محكمة يرجع إليها المسلمون لحل قضاياهم.
وأخيراً كان المسجد إضافة إلى أنه القاعدة الأصيلة في بعث الروحانيات والارتباط بالله وتقوية روح الإيمان، مركزاً لتنظيم الأجهزة الإسلامية في كافة المجالات. فمع وجود الأعداء الألداء والمتربصين بالدين لم يكن نشر الدين ممكناً بدون هذا التنظيم الدقيق.
ولأجل إحكام هذه الأصول والقواعد المتينة للحكومة الإسلامية، تولّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه إدارة الأمور وتنظيمها وتحريكها.
كل هذا يحكي عن الإدارة الفريدة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وصحيح أن كل هذه البرامج كانت نابعة من الوحي الإلهي، إلاّ أنها كانت تؤدى بصورة دقيقة جداً.