لقاء مع عائلة الشهيد القائد علي كركي
هيئة التحرير
ترابيّ عتيق من أرض عامل، نهل من خصالها ما استعان به على صلف الحياة، وطوّع كينونته على حبّ الأرض، وما استلزمه هذا الحبّ من دفاع عن الشرف والعزّة والكرامة، حتّى بات اسمه مقترناً بملاحم الجهاد والإباء منذ الطلقة الأولى.
لا يكاد يُذكر اسمه في محضر من عرفه وعرف أخلاقه حتّى تلهج ألسنة العجائز بالدعاء له كعربون حبّ لمن أمضى عمره متنقّلاً بين ثنايا الجنوب وفي فيء زيتونه. هو ابن بلدة عين بوسوار الجنوبيّة، القائد الجهاديّ الكبير الشهيد علي عبد المنعم كركي، الذي حدّثتنا عائلته عن مسيرته العابقة بالعطاء والجهد والإنجازات.
* كثيرون من يعرفونه بـ "الحاج أبي الفضل"، من هو القائد علي كركيّ؟ وكيف كانت بداياته؟
بدايةً، ولد الشهيد القائد الحاج علي كركي في العاشر من أيّار من عام 1962م في منطقة المصيطبة، وهو حاصل على شهادة الإجازة الجامعيّة.
كان محبّاً للعلم والثقافة، وملتزماً بدينه، ومحافظاً على صلاته، وحريصاً على المشاركة في النشاطات الاجتماعيّة والكشفيّة والرياضيّة. أسّس القائد الشهيد ومعه الشهيد الشيخ نبيل قاووق والحاج وفيق صفا، فوج مصعب بن عمير الكشفيّ، كما كان له الفضل بتأسيس ما يُعرف اليوم بنادي العهد الرياضيّ، والذي سُمّي حينها باسم "نجمة العهد الجديد".
بالتوازي، شهدت فترة شباب القائد الشهيد كركي العديد من الأحداث التي غيّرت الواقع في لبنان، ومنها قيام الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر بتأسيس حركة المحرومين عام 1974م، فسارع الحاج الشهيد مع جمع من إخوانه أبناء الرعيل الأوّل، كالقائد الجهاديّ الكبير الشهيد الحاج عماد مغنية والشهيد القائد السيّد مصطفى بدر الدين، للانضمام إليها.
عام 1982م، وأثناء التصدّي للاجتياح الإسرائيليّ في معركة خلدة البطوليّة، أصيب الحاج علي كركي إصابة بالغة، فكانت أوّل وسام شرف نُقش على جسده الطاهر.
ومع تمادي العدوّ الصهيونيّ في الجنوب اللبنانيّ، انتقل الشهيد إلى العمل في القرى الجنوبيّة، حيث كُلّف حينها من قيادة حزب الله، الذي كان حديث النشأة في تلك الفترة، بتشكيل مجموعات جهاديّة واستشهاديّة وتدريبها وتسليحها، لتبدأ مرحلة جديدة من مقارعة الاحتلال، ومن أولى تباشيرها تفجير مقرّ الحاكم العسكريّ في منطقة صور عام 1982م، التي خطّط لها الشهيدان القائدان مغنيّة وكركي، ونفّذها الاستشهاديّ أحمد قصير.
* ما أبرز المحطّات الجهاديّة للشهيد القائد؟ وما كانت مسؤوليّته؟
عُيّن الشهيد كركي منذ عام 1992م قائداً عسكريّاً مركزياً في حزب الله، وكان لقيادته بصمة في تحرير القرى المحتلّة عام 2000م، ثمّ عيِّن مسؤولاً للقوة الجوية، وكان حاضراً في المواقع القياديّة في إدارة الجبهات في عام 1996م وعام 2006م.
أمّا في الحرب الكونيّة على سوريا، فقد شارك الشهيد كركي في كلّ المعارك تقريباً من حيث التخطيط والإشراف، فكانت بصماته واضحة في مواجهات القصير، والزبداني، والقلمون، ودمشق وريفها، والبادية، وتدمر، والبوكمال، فيما برز دوره في حلب وريفها كقائد لمقرّ سيّد الشهداء عليه السلام، إلى جانب قائد فيلق القدس الشهيد الحاج قاسم سليماني، حيث أثمر جهادهم نصراً على الجماعات الإرهابيّة المدعومة من قوى الاستكبار العالميّ، وتحريراً للمنطقة.
* ما الجهود التي بذلها القائد في معركة طوفان الأقصى، والتي استشهد في سبيلها؟
مع انطلاقة معركة طوفان الأقصى واتّخاذ القرار بفتح جبهة الإسناد لغزة، تصدّى القائد كركي للمهمّة، فقاد العمليّات بعزم وثبات. ورغم اشتداد القصف وتعذّر الحركة، إضافة إلى تعرّضه لمحاولات اغتيال عدّة، لم يترك الجنوب، وحرص على قيادة وحدات مقرّ سيّد الشهداء عليه السلام.
وبعد استشهاد عزيزيه القائدين الحاج «أبو طالب» و«أبو نعمة»، ورغم الأثر الكبير الذي تركه هذا الفقد في نفسه، إلّا أنّه لم يهن ولم يلن، بل بقي جبلاً صلباً كعادته، فأكمل الطريق مع باقي إخوانه في معركة الإسناد.
ومع اشتداد المعارك وكثرة الاغتيالات، انتقل الشهيد علي كركي إلى بيروت ليتابع عمله واصلاً ليله بنهاره، حريصاً على الإعداد والتجهيز والتخطيط والتنسيق لأيّ تطوّر في المعركة. وهذا ما حصل، ففي صبيحة الثالث والعشرين من أيلول، أعلن العدوّ الصهيونيّ عن بدء عدوانه الغاشم على لبنان تحت عنوان معركة «السيوف الحديديّة»، وتوالت الغارات على البقاع وتوسّعت في الجنوب لتدفع بالعوائل والأهالي إلى النزوح. ومع اقتراب ساعات المغيب، تعرّض القائد الشهيد لمحاولة اغتيال في أحد أحياء الضاحية الجنوبيّة، لكنّها باءت بالفشل.
وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه، صبّت طائرات الغدر الصهيونيّة مجدّداً جام حقدها، مستهدفة مكان تواجد الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله خلال اجتماعه بعدد من الشخصيّات ومنهم القائد الحاج علي كركي، بأكثر من ألفي طنّ من المتفجّرات الخارقة للتحصينات ما أدّى إلى استشهادهم جميعاً.
ارتقى إلى جانب "الحبيب" كما يسمّيه، رفيق دربه وعزيز روحه الشهيد الأسمى السيّد حسن نصر الله، ملاقياً ربّه مخضّباً بدمه، ناصراً للحقّ، مقارعاً للباطل، فقد أحبّ فلسطين كثيراً، وحلم بالصلاة في المسجد الأقصى، وها هو قد مضى شهيداً على طريق القدس.
* كثيراً ما بنى القادة علاقتهم بالميدان من خلال المسجد، كيف لاحظتم أثره في حياة الشهيد؟
كان للشهيد «أبو الفضل» علاقة حبّ خاصّة بالمساجد، فلطالما تردّد إليها وبذل جهده لتأمين الأموال لإعمارها، خاصّة في قرى الجنوب، فأشرف على بناء مسجد الإمام الحسين عليه السلام في قريته عين بوسوار، وإعادة إعمار مقام النبيّ صافي، لترتفع هذه الأماكن بصوته ودعواته، وتظلّ حيّةً شاهدةً على عطائه.
كان يحرص كذلك على السكن بالقرب من المساجد حتّى يكون جاراً لها، فيقيم صلاته فيها. لذا، كان يصطحب أبناءه منذ الصغر إلى المسجد بالرغم من حساسيّة وضعه الأمنيّ.
لم يكن الشهيد أبو الفضل يرى في المسجد مكاناً للصلاة فحسب، بل كان يعدّه ركناً في حياة الإنسان. وكان أيضاً يعتكف فيه في كلّ عام في شهر رمضان، ولم ينقطع عنه إلى حين استشهاده. وفي كلّ مرّة كان يدخل مسجداً، كان يصلّي ركعتين تحيّة له.
* العمل يرافقه الغياب، كيف كان له الحضور النوعيّ في العائلة الذي يعوّض الغياب؟ وكيف كانت توصياته وتوجيهاته ومتابعته لشؤون العائلة؟
كان الشهيد يغيب كثيراً عن البيت، فكنّا دائماً ما ندعو له بالحفظ، إلّا أنّ قلبه لم يغب يوماً عنّا. كان شديد الحرص على التواصل اليوميّ بأفراد الأسرة، يتابع أخبارهم وأحوالهم. كان كثير النصيحة بالصلاة في أوّل وقتها، والصيام، والمحبّة والمساندة، وهذا ما أوصانا به أيضاً يوم شهادته. أمّا وصيّته الأخيرة، فقد كانت تفوح إيماناً، إذ دعا إلى الاهتمام بزيارة عاشوراء وقراءة دعاء علقمة بعدها.
إضافة إلى ذلك، كان يذكّرنا بالمناسبات الدينيّة، إذ كان يُوقظنا بيديه الحنونتين لصلاة الفجر، ويحثّنا على القيام بمستحبّات اليوم المذكور.
ومن بين عادات الشهيد التي لا تُنسى، حبّه لقراءة الدعاء والقيام بالمستحبّات مع عائلته، ففي ليالي الجمعة مثلاً، كان يوكل أحدنا بقراءة دعاء كميل، وفي ليالي الأربعاء نقرأ معاً دعاء التوسّل.
كان الشهيد حريصاً جدّاً على رضى والديه ومراعاتهما في كلّ ما يقوم صبه. وكان يحاول أن يزورهما كلّ أسبوع بالرغم من مشاغله الكثيرة. كما كان يسأل عن إخوته جميعاً وأولادهم وعن جميع أقاربه، ولا يردّ صاحب حاجة خائباً.
كان يعشق الأطفال ولا يرضى أن تُساء معاملتهم، بل كان حريصاً على إسعادهم وإعطائهم ما يحبّون، خصوصاً أحفاده الذين كان يحبّهم كثيراً، وهم أيضاً كانوا يعشقونه ويحبّون وجوده بينهم، وكانوا يتنافسون للسلام عليه واللعب معه وإطلاعه على ما يقومون به، وهو كان يستمع إليهم بكلّ سعة صدر.
* أخبرنا بعض الإخوة أنّ له علاقة مميّزة بالقرآن الكريم، هلّا حدّثتمونا عن ذلك؟
بدأ الشهيد منذ صغره بقراءة القرآن بشكلٍ يوميّ حتّى صار يستأنس بها. كان يدعونا إلى حفظ أجزاء منه ويعدنا بالهدايا والجوائز مقابل ذلك.
أمّا بالنسبة إلى حفظه القرآن، فلم يعطنا الشهيد جواباً صريحاً، فكلّما سألناه عن حفظه القرآن كاملاً تبسّم ولم يجب. نحن نعتقد أنّه كان حافظاً للقرآن، فلست أذكر يوماً أنّ ثمّة آية قرآنيّة ذُكرت ولم يكملها مع معرفته من أيّ سورة وجزء هي وشرحها. وكنّا نعرف أنّه عاد إلى البيت في آخر الليل من صوت ترتيله وتلاوته. وكان يختم القرآن مرّة كلّ ثلاثة أيّام في شهر رمضان.
* ما السمات الأخرى التي تميّزت بها شخصيّة الشهيد؟
كان الشهيد أبو الفضل قدوة في التواضع والإيمان، عزيز النفس، سهل المعاشرة، صلباً في الحقّ، لا تلهيه الدنيا بمالٍ أو بنين عن واجبه وعمله. كان الجبل الذي نتّكئ عليه.
كان الشهيد يهتمّ بأداء المستحبّات، فيقوم للصلاة المستحبّة في أوقات متعدّدة من النهار، وكان كثير الصيام في معظم أيّام السنة، ودائم الوضوء في معظم وقته، وكثير الذكر لله، وكان حافظاً لمعظم الأدعية والأذكار الدينيّة المستحبّة، لا ينام في ليله، بل يقضيه قائماً يُصلّي صلاة الليل.
* كيف كان الشهيد يتعاطى مع الضغوطات من حوله؟
كان خفيف الظلّ لا يحبّ أن يربك بوجوده أحداً. كان قنوعاً لا يحبّ التكلّف ويرضى بأقلّ قدر ممكن من أيّ شيء في هذه الدنيا، من مأكل ومشرب وملبس.
دائم الحمد والشكر لله، لا يشتكي من أيّ أمر، حتّى عندما كنّا نسأله عن حاله حين المرض الشديد، يقول: «أنا جيّد جدّاً، ليس بي شيء». كان لا يشكو لأحد من أيّ ألم أو تعب. حتّى عندما كان في بعض الليالي لا يأخذ قسطه الوافر من النوم، تجده يحاول أن يراعي الموجودين ولا يُشعرهم بتعبه.
* هل من كلمة أخيرة بحقّ هذا القائد الجهاديّ الكبير؟
برغم حزننا، فإنّ فخرنا بجهاده وعطائه وشهادته في سبيل الله، أكثر ما يواسينا. ما رأينا إلّا جميلاً، لقد كان الحنان والدفء من هذا العالم، الذي سنظلّ نشتاقه حتّى نلقاه مجدّداً، سنحنّ لرؤية أثره في المنزل.
كان عند شهادة أصحابه يقول: «أحبب من شئت فإنّك مفارق». ونحن نقتدي بهذه المدرسة المحمّديّة الفاطميّة الكربلائيّة الزينبيّة التي يمتثل بها كلّ الشهداء وأهلهم.
لقد أوصانا أن لا نترك هذا الدرب ولا نحيد عن الخطّ، ونحن نقول له: «إنّا على العهد يا والدي».