مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: العباس عليه السلام أبو الفضل والفضائل

مريم محمود

 



أبو الفضل العباس عليه السلام المشتمل بالوفاء، والمتسربل بالإيثار، مثّل كل الفضائل فتمثلت فيه بدورها، واحتل قلوب العظماء، لما قام به من تضحية وإيثار تجاه أخيه الحسين عليه السلام. ظهرت عليه صفات حميدة كثيرة كالإباء ونبل الأخلاق والكرم ودماثة الخلق، والعطف على الفقراء والضعفاء، فضلاً عن أنه كان من العلماء الزهّاد. وعن هذه الخصال الحميدة والأخلاق العالية، نظم أحد الشعراء يقول:
 

لَهُ الجودُ والإقدامُ والحلمُ والتُقَى‏

وَقَدْ زَانَهُ الإيمانُ والحكمُ والعِلمُ(1)


* الشجاعة:
العباس ورث شجاعتين: إحداهما هاشمية وهي الأرقى، وقد جاءته عن طريق والده الإمام علي عليه السلام، والأخرى ورثها عن طريق أمه أم البنين، عبر آبائها من شجعان العرب. وعن هذه الشجاعة يقول السيد جعفر الحلي:
 

بطلٌ تورّث من أَبِيهِ شجاعـةً

فيها أنوفُ بَنِي الضَلاَلةِ تُرْغَمِ(2)


وقد أبدى من الشجاعة يوم الطَّفِّ ما صار مضرب المثل على امتداد التاريخ وفي ذلك قال:
 

علمٌ للجهادِ فِي كُلِّ زحفٍ‏

علمٌ فِي الثَبَاتِ عِنْدَ اللقاءِ

قَدْ نَمَا فِيهِ كُلُّ بَأْسٍ وعزٍّ

مِنْ عليّ بنجدةٍ وإبـاءِ(3)


ولقد وصف أحد زعماء جند يزيد شجاعة العباس وإخوته والأصحاب، فقال: "ثارت علينا عصابة، أيديها على مقارض سيوفها كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي بنفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في مال، ولا يحول حائل بينها وبين حياض المنية أو النصر، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها"(4).

* الإيمان:
وهو الذي تربى في بيت الإيمان والتقوى، الذي غذّاه به أبوه زعيم الموحدين، فكان من عظيم إيمانه الذي لا يحد أن يقدم نفسه وإخوته قرابين لوجه الله تعالى.

* الإباء:
امتاز العباس بصفة تعتبر من أسمى صفاته، وهي الإباء وعزة النفس(5)، التي تجلّت في رفضه أمان الشمر يوم العاشر من المحرم. وما ذلك إلاَّ لاتصافه بالإيمان والطاعة، والانقياد لأوامر الله ونواهيه، وطاعة أوليائه، أهل البيت عليهم السلام.

* الصبر على المحن:
قال الشاعر العلوي السيد راضي القزويني الذي هام بشخصية أبي الفضل عليه السلام، في حقه:
 

أبَا الفضلِ يَا مَنْ أسَّسَ الفضلَ والإِبَا

أبَى الفضلُ إلاَّ أنْ تكونَ لَهُ أبَا(6)


والميزة التي اتصفت بها شخصية العباس العظيمة الصبر، فالمصائب التي ألمت به يوم الطف لم تجزعه ولم تجعله يتفوه بأي كلمة تدل على غضبه وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته، مقتدياً بأخيه سيد الشهداء عليه السلام.

* الوفاء:
وهو من أنبل الصفات، التي تمتع بها أيضاً، ومنها: الوفاء لدينه، المدافع عنه مجاهداً في سبيله جهاد المخلصين. والوفاء لأمته التي كانت ترزح تحت نير العبودية والظلم، لتحريرها مع سيد الأحرار من ربقة الظالمين، وإعادة الحياة الكريمة لها. والوفاء لأخيه: وقف مع أخيه إمام الحق في أحلك الظروف وأشدها محنة وقسوة، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته.

* الرأفة والرحمة:
صفتان برزتا في كربلاء حينما احتلت جيوش بني أمية حوض الفرات لحرمان أهل البيت عليهم السلام من الماء. ولما رأى أطفال أخيه قد ذبلت شفاههم من شدة الظمأ، انفطر قلبه حناناً وعطفاً، فاقتحم الفرات وحمل الماء إليهم وسقاهم.

* الإيثار:
في اليوم العاشر من المحرم عندما سمع استغاثة الأطفال ينادون العطش العطش، تفتت كبده رحمة ورأفة. حينها وقف أمام الإمام عليه السلام، قائلاً: "أبا عبد الله، هل تأذن لي في القتال؟". قال له الحسين عليه السلام بصوت حزين العبرات: "أخي أنت صاحب لوائي...". كان العباس يتصدى للمفاوضات مع العدو في مختلف الشؤون، وها هو الحسين ينتدبه للمرة الأخيرة للدخول في المفاوضات معهم، من أجل الحصول على الماء للأطفال العطاشى. ولكن الجواب كان كما توقعه العباس عليه السلام، فقد قال له الشمر:

"يا ابن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كله ماء، وهو تحت أيدينا، لما سقيناكم منه قطرة إلاَّ أن تدخلوا في بيعة يزيد..."(7). عاد إلى أخيه وأخبره بمقالة القوم. وهنا، ارتفعت أصوات الأطفال مجدداً قائلين العطش، العطش... التقط قربة خاوية وامتطى متن جواده واندفع في قلب الجند باتجاه الفرات، حتى كشفهم عنه. مد يده اليمنى وغرف غرفة من الماء الذي كان يجري في عذوبة ورقة، وقربها إلى فمه لكي يشرب لكنه رمى الماء على الماء وصاح:
 

يَا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُونِي‏

وبَعْـدَه لاَ كُنْتِ أنْ تَكُونِي‏

 وتَشْـرَبِيـنَ بَـاردَ المَعِيـنِ‏

هَـذَا حُسَيْنٌ شَارِبُ المَنـُونِ‏

 تَالِلَّهِ مَـا هَذَا فِعَـالُ دِينِي‏

وَ لاَ فِعَالُ صـادقِ اليَقِيـنِ(8)


يقول الشاعر حول الموضوع:

أبيتَ التذاذَ الماءِ التذاذَه‏

فَحسنُ فعالِ المرءِ فرعٌ مِنَ الأصلِ‏

فَأَنْتَ أخوُ السِبْطين فِي يوم مَفْخرِ

وَفِي يومِ بذلِ الماءِ أنْتَ أبو الفضلِ(9)


هذا الموقف أدهش أعداءه الذين كانوا ينظرون إليه من بعيد، حيث قال أحدهم: "إنه لم يشرب، هل هذا معقول؟". وقال آخر متهكماً: "هكذا هم هؤلاء، إنهم ليؤمنون بأن الإيثار والوفاء أعظم من الثأر"(10). إنّ هذا الإيثار كان من أبرز الذاتيات في خلق سيدنا أبي الفضل. فلم تألف عواطفه المترعة بالولاء أن يشرب الماء قبل أخيه، فأي إيثار أنبل وأصدق من هذا الإيثار؟ وخشية أن يوصل العباس عليه السلام القربة إلى المخيم عمد العدو إلى الحيلة والغدر. فقد اختفى بعضهم وراء النخيلات، بينما هجم عليه آخرون وأخذوا يقاتلونه وهم ينسحبون باتجاه المكان الذي اختفى فيه زملاؤهم، وهو يتعقبهم حتى أوقعوه في كمينهم. وهنا، هجم عليه من خلفه زيد بن الرقاد الجهني وكان يعاونه حكيم بن الطفيل، فضربه زيد بالسيف على يمينه فقطعها، فتلقف السيف بيساره، وهو يصرخ فيهم:
 

وَالَلَّهِ إِنْ قَطَعَتُـم يَمِينِي‏

إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي

وَعَنْ إِمامٍ صَـادِقِ اليَقِينِ‏

نَجْلِ النَبِيِّ الطَاهِرِ الأَمِينِ(11)


كان العباس سريع الحركة يعرف فنون القتال، وهو الذي قاتل مع أبيه في حروبه وكان يحارب فيها شجعان العرب. كان هم العدو عدم إيصال الماء إلى المخيم، على عكس العباس عليه السلام الذي كان همه الأوحد الوصول إلى المخيم ليروي ظمأ الأطفال والنساء. ومرة أخرى، عمد العدو إلى الغدر والحيلة، فكمنوا له حتى قطعت يده اليسرى. وبعد كثرة النبال والسهام التي أصابته، سقط على الأرض مودعاً أخاه الحسين بقوله: "عليك مني السلام يا أبا عبد الله". وفي رثائه نظم الشاعر الفضل بن الحسين يقول:
 

أَحَقُّ النَاسِ أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ‏

فَتَى أَبْكَى الْحُسَينَ بِكَرْبَلاَءِ

أَخـوهُ وَابْنُ وَالِدِهِ عـَلِيّ‏

أَبُو الفضلِ المُضَرَّجِ بِالدِمَاءِ

وَمَنْ وَاسَاهُ لاَ يَثْنِيهِ شَي‏ء

وَجَادَلَهُ عَلَى عَطَشٍ بِمَاءِ(12)


الخاتمة:
العباس رمز للإنسانية، رمز كل تضحية، إنه المثل والرمز في الإقدام والنخوة والإيثار، يقتدي به الآخرون ويتأسى به المجاهدون.


(1) يوسف الأشيقر، محمد علي (السيد): العباس رجل العقيدة والجهاد، تصحيح وتنقيح الشيخ محمد صادق تاج، ط1، مؤسسة محبين للطباعة والنشر، 1422هـ.ق، ص35.
(2) القرشي، باقر الشريف، العباس بن علي رائد الكرامة والفداء في الإسلام، ط10، إنتشارات مهدية، قم، 1420هـ 2000م.
(3) القرشي، م.ن، ص‏58.
(4) هادي، محمد: العباس بطولة الروح وشجاعة السيف، ط2، دار الهادي، بيروت، 1419هـ 1998م، ص‏81.
(5) العاملي، عبد الحسين إبراهيم، (السيد): سفينة النجاة، صححه ورتبه محسن عقيل، ط2، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1416هـ 1995م، ص‏61.
(6) القرشي، مرجع سابق، ص‏49.
(7) القرشي، م.ن، ص 221.
(8) القرشي، م.ن، ص‏222.
(9) الأشيقر، مرجع سابق، ص‏42.
(10) محمد هادي، مرجع سبق ذكره، ص 42.
(11) القرشي، مرجع سابق، ص‏223.
(12) القرشي، مصدر نفسه، ص‏49.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع