آية الله الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الأسرة هي الملاذ الأوّل لسموّ الإنسان وسكينته، ما يجعل مهمّة المحافظة عليها وصيانتها مسؤوليّة خطيرة وثقيلة، لأنّ في ذلك خلاصه من الآلام والعذابات الدنيويّة والأخرويّة.
* أهميّة الأسرة في القرآن والسنّة
لقد اعتنت الآيات القرآنيّة والأحاديث والروايات الشريفة عناية خاصّة بالأسرة، وجاءت بجمهرة من الأحكام والتعاليم لرفعتها ورشادها، وتحقيق رفاهيّتها واستقرارها وسموّها.
عندما هاجر النبيّ إبراهيم عليه السلام مع زوجته وولده إلى مكّة امتثالاً لأمر ربّه، رفع يديه متضرّعاً إلى الله بالدعاء قائلاً: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلوةَ فَاجعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيهِم وارزُقَهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَشكُرون﴾ (إبراهيم: 37)؛ وكذلك النبيّ لوط عليه السلام الذي دعــا قـومــه ليلاً ونهاراً ليؤمنوا، ولكن لم يفلح في إنقاذهم من العذاب، فدعا ربّه لنجاة المؤمنين من أسرته قائلاً: ﴿رَبِّ نَجِّنِي وأهلي مِمَّا يَعْمَلُون﴾ (الشعراء: 169)، والنبيّ يعقوب عليه السلام، من أجل تأمين حاجة أسرته، أرسل أبناءه إلى عزيز مصر لأخذ ما يسدّ رمقهم من القمح ليجتازوا محنة القحط التي حلّت بهم، حتّى أنّه في المرّة الثانية أرسل معهم ولده الأثير على قلبه بنيامين ليعودوا إلى أهلهم بالقمح.
أمّا بالنسبة إلى الروايات، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «وَكُلُّ مَا أَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَأَهْلِهِ، كُتِبَ لَهُ بِهَا، صَدَقَةً وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ صَدَقَة»(1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَاشْتَرَى تُحْفَةً فَحَمَلَهَا إِلَى عِيَالِهِ، كَانَ كَحَامِلِ صَدَقَةٍ إِلَى قَوْمٍ مَحَاوِيج»(2). وعن الإمام الرضا عليه السلام: «مَنْ طَلَبَ هَذَا الرِّزْقَ مِنْ حِلَّهِ لِيَعُودَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وعِيَالِهِ كَانَ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ غُلِبَ عَلَيْهِ فَلْيَسْتَدِنْ عَلَى اللهِ وعَلَى رَسُولِهِ مَا يَقُوتُ بِهِ عِيَالَهُ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَقْضِهِ كَانَ عَلَى الإِمَامِ قَضَاؤُه»(3).
وينبغي أن يتناسب الإحسان إلى الأسرة مع قدرات المرء وطاقته؛ وفي ذلـك يقول الإمام الرضا عليه السلام: «صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْسِعَةُ عَن عِيَالِهِ»(4).
* مشاركة الرجل عياله في تناول الطعام
ينبغي للمؤمن أن يُشرك أسرته في جميع ملذّاته ونعمــه، بما في ذلك تناول الطعام. قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضُلُوا بِرادِّي رِزْقِهِم عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُم فِيهِ سَواء﴾ (النحل: 71).
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في التمثيل لهذه الآية الكريمة: «لا يجوز لِلرَّجُلِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَأْكُولِ دُونَ عِيَالِهِ»(5).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعدّ تناول الرجل الطعام مع عيالــه مــن ســمات التواضع، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم عنه: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَمْسٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَلَيْسَ بِمُتَكَبِّرِ: اعْتِقَالِ الشَّاةِ، وَلُبْسِ الصُّوفِ، وَمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ، وَأَنْ يَرْكَبَ الْحِمَارَ، وَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مَعَ عِيَالِهِ»(6).
* أولويّة الأسرة على غيرها
طبقاً للثقافة الإسلاميّة، فإنّ أولويّة الأسرة على غيرها تعدّ مبدأً رئيساً، وقد دلّت روايات كثيرة على ذلك. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَعطَى اللَّهُ أَحَدَكُمْ خَيْراً فَلْيَبْدَأَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِ بيته»(7)، وكذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ابْدَأَ بِمَنْ تَعُولُ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى»(8). وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: «لَأَنْ أَدْخُلَ السُّوقَ وَمَعِي دَرَاهِمُ أَبتاعُ بهِ لِعِيَالِي لَحْماً وَقَدْ قَرِمُوا(9) أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ نَسَمَةٌ»(10).
* تخصيص يوم الجمعة للأسرة
إنّ الاهتمام بالأسرة مطلوب دائماً، غير أنّ تخصيص يوم الجمعة لغرض الإحسان إليها والتفرّغ لشؤونها أمر يحظى بأهميّة خاصّة ليتسنّى الوقوف على عظمة هذا اليوم من الأسبوع وخلق أجواء مفعمة بالروحانيّة لأفراد الأسرة والتوجّه إلى الله. وفي هذا السياق يأتي الحديث الشريف للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: «أَطْرِفُوا أَهَالِيَكُمْ فِي كُلِّ جُمعَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَاكِهَةِ أو اللَّحْمِ حَتَّى يَفْرَحُوا بِالْجُمُعَةِ»(11).
* وقاية الأسرة
عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام، في قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قوا أَنفُسَكُم وأهليكم ناراً﴾ (التحريم: 6)، قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أقيهِم؟ «قالَ: تَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَتَنْهَاهُمْ عمَّا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنْ أَطَاعُوكَ، كُنْتَ قَدْ وَقَيْتَهُم، وَإِنْ عَصَوْكَ، كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ»(12).
* ثواب الإحسان إلى الأسرة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: «يَا عَلِيُّ، خِدْمَةُ الْعِيَالِ كَفَّارَةٌ لِلْكَبَائِرِ، وَيُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَمُهُورُ حُورِ الْعِينِ، وَيَزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ وَالدَّرَجَاتِ. يَا عَلِيُّ، لا يَخْدُمُ الْعِيَالَ إِلَّا صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(13).
وكما أنّ للإحسان إلى الأسرة ثواباً أخرويّاً، فإنّ له أيضاً آثاراً طيبة في هذه الدنيا. فعن سيّد الكائنات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «وَسَلّمْ فِي بَيْتِكَ، يَزِيدُ اللهُ فِي بَرَكَتِكَ»(14).
وقال الإمام زين العابدين عليه السلام في أهميّة ذلك: «إِنَّ أَرْضَاكُمْ عِنْدَ اللهِ أَسْبَغُكُمْ عَلَى عِيَالِه»(15). وقال الإمام الصادق عليه السلام: «وَمَنْ حَسُنَ بِرُّهُ بِأَهْلِهِ زَادَ اللهُ فِي عُمُرِه»(16).
* ثواب الاغتمام للعيال
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم ذَاتَ يوم. فقال: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا عَلِيُّ؟ فَقُلْتُ: أَصْبَحْتُ وَلَيْسَ فِي يَدِي شَيْءٌ غَيْرُ الماءِ وَأَنَا مُغتَمَّ لِحالِ فَرْخَيَّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عليهما السلام، فَقَالَ لِي: يَا عَلِيُّ، غَمُّ الْعِيالِ سِتْرٌ مِنَ النَّار»(17).
* جزاء سوء الخلق مع الأسرة وإفسادها
في ذمّ التضييق على الأسرة روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «شَرُّ النَّاسِ المُضَيَّقُ عَلَى أَهْلِهِ... قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ يَكُون ضَيِّقاً عَلَى أَهْلِهِ؟ قَالَ: الرَجُل إِذَا دَخَلَ بَيتَهُ خَشَعَتْ امْرَأته وَهَرَب ولده وَفَرّ، فَإِذَا خَرَجَ ضَحكت امرأته واستأنس أهل بيته»(18).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ يَعُولُ»(19).
* مقتطف من كتاب مفاتيح الحياة، ص 213- 219.
(1) مستدرك الوسائل، الشيخ الطبرسي، ج 15، ص 267.
(2) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 672.
(3) الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 93.
(4) المصدر نفسه، ج 4، ص 11.
(5) تفسير القمي، الشيخ القمي، ج 1، ص 387.
(6) مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 3، ص 254- 255.
(7) الجامع الصغير، السيوطي، ج 1، ص 73.
(8) الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 92.
(9) القرم: شدة شهوة اللحم.
(10) المصدر نفسه، ج 4، ص 12.
(11) المصدر نفسه، ج 6، ص 299.
(12) تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 6، ص 179.
(13) جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج 17، ص 139.
(14) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 73، ص 3.
(15) الكافي، مصدر سابق، ج 8، ص 69.
(16) المصدر نفسه، ج 8، ص 219.
(17) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 73، ص 16.
(18) مجمع الزوائد، الهيثمي، ج 8، ص 25.
(19) الكافي، مصدر سابق، ج 4، ص 12.