يضمن البعض أن العنصر المؤثر في التربية هو الأم، ويرى آخرون أنه الأب، بينما يتصور غيرهما أن البيت هو عنصر التربية الأوحد بكل تفاعلاته. ولكن يا ترى هل يمكن اليوم أن نقول ذلك فيما يقوم التلفزيون ووسائل الإعلام، ومراكز الفن، والمسرح والسينما، بكل قوة، في توجيه أذهان الصغار، بل والكبار أيضاً، فيما ينعدم دور المدرسة التربوي، هذا إذا لم نقل أنها تقوم بدور سلبي.
هذه هي المشكلة:
أصبح من اللازم القول أن عناصر التربية لم تعد واحدة، ولم تعد محصورة، بل أصبحت متعددة وواسعة، بالرغم من أنه ما زال يسود اعتقاد في مجتمعاتنا الإسلامية، وفي مجتمعات أخرى محافظة، أن البيت ما زال هو الأساس في التربية، وهو اعتقاد صحيح لا يشوبه اختلال.
إلا أن ما يجب أن نلفت الانتباه إليه جيداً، وبشكل مركّز، هو نوع العوامل الجديدة وتأثيرها التربوي، وهي تحشد جملة من الأساليب القائمة على الدراسات والأبحاث الواسعة، بغية منع المنزل من القيام بدوره التربوي الخاص، واستتباعاً قطع العلاقات الأسرية التربوية بين الأبناء والآباء.
إن خطورة المسألة التربوية تكمن في هذه النقطة، وهي أن فقدان التربية المنزلية لا يتوقف على تخلي الأهل عن هذه المسؤولية، مع أنها مهملة بفعل دواعي كثيرة أولها الجهل، بل إنه وبفعل الأساليب الخطيرة التي سنتعرض لها، فإن البيت يفقد قدرته على التأثير تماماً، ونادراً ما تكون هناك استثناءات، وهذه هي المشكلة.
* عوامل التربية الحديثة:
دائماً كان يسود اعتقاد في الغرب ولدى الأسر غير المحافظة، بضرورة التخلي عن أثقال وقيود رباط الزوجية، على سواء بالنسبة للمرأة وبالنسبة للرجل، وهذا هو علة السقوط نحو الهاوية.
* المرأة للمتعة:
ترغب المرأة في أن تكون لها الحرية في إقامة علاقاتها الغرامية مع من تحب من الرجال، وترغب أيضاً في العمل اليومي، وتأمين مصدر مالي خاص، بغية التفلت من قيود الزوج، إذا ما أراد أن يضغط عليها بالمال، وهكذا أصبحت المرأة بعيدة عن دورها كأم، فالنهار للمال والليل للرجال، ومن هنا تولدت فكرة إنشاء معاهدة الحضانة "التربية من حين الولادة" وروضات الأطفال التي تعنى بالتربية، ثم المدارس الداخلية التي يبقى فيها التلميذ طوال العام.
لقد أصبحت المرأة فيما بعد هي العارضة، في العمل والشارع والمناسبات، والدعاية، وعليها أن تبقى ممشوقة القوام، ومتكاملة الهندام، بحيث تجمع ما أمكنها من عناصر الإثارة، وهذا وذاك دفعاها إلى تقليل الأولاد. أولاً: لكي لا تنشغل بهم ولا تتحمل أعباءهم المالية، وثانياً: حتى لا يؤثر الحمل والحضانة على شبابها، إنها جريمة العصر حقاً.
لقد نشأت معاهد التجميل ومصانع مواد التجميل، ومعاهد الأزياء "النسائية خاصة" وتصفيف الشعر، بحيث تصرف المرأة كل وقتها، ومالها لكي تكون التفاحة القاتلة.
* كما هي هو:
أما الرجل فليس أمره غير أمرها، وهذا ما ساد ويسود في بلاد الغرب، بل وقد بدأ باجتياح عالمنا الإسلامي، فالرجل يرغب في زوجة تخفف عنه الأعباء المالية والقيود العائلية فليله غير ليلها، وسريره غير سريرها، وفتاته، أو فتياته أخريات غيرها، هذا ما يجتاح اليوم غالب البيوت غير المحافظة في بلاد الغرب.
إذاً لقد فقد المنزل مبرر وجوده لغير المنامة، وبعض اللقاءات على مائدة الطعام أحياناً، أما التربية فلم يبقَ لها حيز يذكر.
* تلامذة في المدارس:
يتعلم التلميذ أول يوم كل شيء من عالمه الجسدي والمادي، وبين يديه البرامج الدقيقة، والتي نضجت بفضل الدراسات والأبحاث، ولكن هل كان على المدرسة أن تتضمن في تلك البلاد برامج الأخلاق والاحتشام والابتعاد عن الرذيلة هل أن في برامجها البحث عن النفس، والكون والوصول إلى حقيقة الوجود وأهدافه.
إن الجو الذي يعيشه الأطفال والشباب في جو الاختلاط والإثارة بعيداً عن أي نوع من أنواع التربية الأخلاقية، وفي ظل انعدام "القدرة التربوية" لدى المدرسين والآباء، يجعل الجو في كل مدرسة يتجه بلا أدنى رادع نحو الرذيلة، والمخدرات والانحطاط والتفلت من أي قيود اجتماعية. ويجب أن نلتفت إلى أن علوم الرياضيات والجغرافيا والفيزياء لا تربي النفس ولا تهذبها.
* اللذة والسعادة:
كل تلميذ قد يشعر باللذة والسعادة، ولكن سرعان ما يفتقد توازنه، ويشعر بتضائل قيمة الحياة، وذلك حين يجد نفسه في أزمات نفسية واجتماعية ولا أحد إلى جانبه، أو يشعر بالحاجة إلى قيم الحنان والوفاء والتضحية والإيثار فلا يجد ذلك حتى مع صحبه.
فالمدرسة لا تبنيه في نفسه وقلبه، وحانات الخمر والرقص ليست هي إلا المهرب من الشعور بالفراغ القاتل، وكل شيء لا يوحي بغير الضياع.
إن الإنسان الغربي تُبنى شخصيته في المدرسة والصداقات المنحرفة والأفلام الفاضحة ومراكز الرقص ونوادي الطرب، والقمار، فيتعلم حب المال والخديعة، والجريمة والمخدرات والسكر والعهر، فأين السبيل إلى الفضيلة والسمو والحب الصادق، وأين هي الأهداف التي يسعد في التضحية لتحقيقها، وأنى لمواطن الفساد أن تبني الإنسان المستقيم حقيقة فهذه عوامل الانحراف التربوي وليست عوامل التربية، وأن خطورتها تكمن في كونها بدأت تصبح مقبولة لدى الأبناء والآباء وحتى المسلمين في بلادنا، في ظل انعدام التربية الإسلامية.
* أطفال وأجيال:
قد يستغرب البعض إذا قلنا بأن أولادنا حتى لدى أفضل العائلات، لا يأخذون حاجتهم من التربية من آبائهم، وإنما يأخذونها من الشارع ومن أصدقائهم، والشارع أشد تأثيراً من أي شيء ثم المدرسة ثم البيت، وهذا الكلام ينسحب حتى على غير المسلمين من الأولاد، إلا ما شذ وندر.
ومما لا شك فيه أن هناك عدداً لا بأس فيه من الأطفال في لبنان، تدخل في تربيتهم عوامل أخرى أشد تأثيراً وإن كانت لا تخرج عن إطار الصداقات والعلاقات، وهي عوامل التغرب، عن طريق الأفلام، ومراكز الرقص والخمر والطرب، والمخدرات.
ومما يؤسف له، أنه في حين أخذ الغرب يدرك مخاطر هذه الأجواء، ويعمل للتخلص منها، نجد أجيالنا وقد اندفعت نحو التكيف معها، والانغماس فيها.
وفي ظل تخلي الآباء عن واجباتهم التربوية تجاه أولادهم، فإن أجيالاً تتعاقب ليس لها مرب غير الشارع وما يعبر عنه بالدهر في المثل العامي إنما هو الشارع، حيث يقول المثل "ابنك لا تعلمو الدهر يعلمو".
إن أجيالاً تتعاقب ليس لها مربّ غير الشارع وأصدقاء السوء.
* نقاط القوة والضعف:
إن أشد نقاط الضعف بروزاً هي التي تكمن في عدم وجود القدوة التي تمثل على المستوى التربوي والأخلاقي الإسلام العملي، إن جميع الأطفال، وهذا ما التفت إليه علم النفس، يميلون إلى الرغبة في تقمص شخصية من الشخصيات المؤثرة والمرموقة، ومع عدم وجودها فإن هذه الرغبة سوف تنحرف لاتخاذ قدوة غير صالحة.
وعندما يكون لدى الأبناء آباء متدينون لا يمثلون القدوة الصالحة في سلوكهم فإن الميول نحو الأخذ بتعاليم الإسلام قد يصبح عن طريقهم أشبه بالمستحيل وهكذا فإن ميولهم تصبح على كف الأهواء إلا ما شاء الله.
إن هذه النقطة يمكن أن تسجل في نقاط القوة الفعالة، إذا أدرك الآباء دورهم، وتوفرت فيهم المواصفات والشرائط للقيام بهذا الدور. لأن الأولاد كالورقة الخالية يكتب عليها الآباء ما يريدون من فضائل الصفات أو كالأرض الخالية الخصبة، يزرع فيها الوالدان ما يشاءان من بذور الأخلاق الإسلامية.
أما أهم نقاط القوة فتتمثل بتوق الطفل فطرياً إلى التحلي بالخلق النبيل، والتعطش للسمو، والتكامل. فقبل أن تموت هذه الرغبة علينا أن نغذيها وننميها.
* لنكن صريحين:
نود هنا أن نلفت الانتباه إلى أن عدم قيام الآباء بدورهم في تنمية هذه الميول الفطرية فإن هذه الميول سوف تنحرف لتصبح نقطة ضعف.
في الواقع فإن أولادنا في إهمال شديد، وبيئتنا غير محصنة، وأجيالنا مهددة، فإذا التفتنا إلى الشارع وجدنا الفتاة المبتذلة، والساعية بكل جرأة وبعين خالية من أي حياء لإثارة كل من يمر.
وإذا ألقينا نظرة على وسائل الإعنلام وخاصة التلفزيون، لوجدناها أيضاً تشبع الغريزة الجنسية والحيوانية وتميت الفطرة الإلهية الصالحة، وهكذا الأمر بالنسبة للأصحاب، ناهيك عن الاختلاط في المدارس، فكل الأجواء تدعو إلى الانحراف.
* نصيحة لا بد منها:
إن أخطر ثلاثة مواقع يركز عليها الغرب للأطفال والأجيال هي: المدرسة، والبيت، ومراكز الطرب والرقص.
فأما بالنسبة للمدرسة فعلى المربي أن يختار المدرسة الأقل سوءاً، مع المراقبة والتوجيه الدائم، وحذار حار من المدارس المختلطة.
وبالنسبة لمراكز اللهو فعلى الآباء أن يختاروا لأولادهم أصدقاء صالحين وأن يهيؤوا لهم مجالات اللهو بعيداً عن أجواء الانحراف.
وأخيراً وبالنسبة للبيت فعليكم أن تعلموا أن الغرب اعتبر التلفزيون أهم وسيلة لانحراف البيت، فخطر الانحراف يلاحقنا حتى في بيوتنا، وعلى الآباء أن ينظموا لأولادهم برامج مقبولة وبحضورهم، وإلا فهو مفتاح الشهوات والانحرافات.
والأمر الأهم أن من واجب الآباء والأمهات أن يمنعوا أنفسهم من التبرج أمام أولادهم والأمر الأخير والذي ليس فوقه ولا يدانيه أهمية هو الرعاية والعناية التربوية، فإذا ترك الأبوان من قبلهما الالتزام بالسلوك المستقيم وتركا النصحية لأولادهم فإن النتيجة ستكون الضلالة.
وفي الواقع فإنه كيف نستطيع أن نكون مؤمنين، وأن نبني أولاداً مؤمنين ونحن الآباء لم نرب أنفسنا ولم نتعرف على التربية الإسلامية فهل يا ترى يصبح الإنسان صالحاً من دون الصلاح، أو يصبح عالماً من دون التعلّم؟
إذاً لا سبيل إلى تربية أولادنا من دون التعرف على رأي الإسلام في مسائل التربية.
لقد حشد الغرب كل وسائله الإعلامية لكي يتخلى المسلمون عن تعاليم دينهم التربوية، وعلينا أن نقرر حمل المسؤولية في مواجهة هذه الحملات المسعورة لتفشي السفور الفاضح، والفساد والاختلاط.
لقد أصبح التلفزيون كالشارع، والشارع كالمدرسة، والمدرسة في كثير من الأحيان كالمرقص فماذا ننتظر؟
إن البيت أفضل مكان للتربية وعلينا أن نحصنه من الانحراف وأن نبنيه على التعاليم الإلهية لتنشأ فطرة أطفالنا وأجيالنا في مناخ سليم غير ملوث أخلاقياً.