ديما جمعة فواز
تقدّم علاء بخطى متسارعة نحو باب المنزل. كان متشوّقاً للتعرّف إلى أفراد أسرة صديقه قاسم، ومتحرّقاً ليكتشف سرّ ذاك الهدوء في عينيه، والرقّة في نبرته، والسلاسة في حديثه.. فقاسم هو ابن الشيخ محسن، ووالده رجل معروف في عالم أهل الإيمان.. لا بدّ أنه اليوم سيحظى بشرف التعرّف إليه.
وفي الحقيقة، لقد اكتشف علاء مؤخراً أنّ قاسماً هو أكثر شاب استأثر باهتمامه منذ لقائهما الأول في الجامعة، بذكائه وشخصيته المرحة من جهة، وتديّنه والتزامه بأحكام الله من جهة أخرى. وأمسى قاسم هو الشاب الذي يتمنى علاء أن يكون مثله! ولكن شتّان بين أسرتيهما، وتربيتهما ومحيطهما! هكذا فكّر علاء قبل أن يفتح له قاسم الباب، ويومئ له بالدخول بابتسامة لا تفارق محياه المشرق.
دخل علاء بخطى متعثرة، وجلس حيث أشار له قاسم بينما كانت عيناه تجولان في زوايا المنزل المرتب البسيط. وما هي إلّا لحظات حتى أطلّ طفل في التاسعة من العمر، هو الأخ الصغير لقاسم، يطلب من أخيه مساعدته في حلّ فرض الرياضيات. استأذن قاسم بينما بقي علاء محملقاً تعجّباً برقّة العبارات التي استخدمها الطفل في الاستئذان والطلب. وتذكّر فوراً أخاه محمداً كيف يصرخ طالباً للمساعدة في حلّ فروضه فيشعرك أنه على وشك الموت!
"هذا أخٌ صغيرٌ مهذّب!" تمتم بينه وبين نفسه، وبعد بضع دقائق، عادت والدة قاسم إلى المنزل، ورحّبت بالضيف لتسأل قاسماً برقّة: "هل تناولت الغداء يا حبيبي؟" لم يسمع جواب قاسم، كان يتردّد في سَمْعه حدّة صوت والدته وتأفّفها من العمل المضني في المنزل.
وأعاده قاسم إلى الواقع إذ دعاه إلى غرفة الجلوس للتعرّف إلى والده. دخل علاء إلى الغرفة حيث فيها مكتبة كبيرة مليئة بالكتب المختلفة، أما الشيخ فكان يجلس في زاوية الغرفة يلاعب طفلة في الثانية من عمرها. جلس علاء قبالتهما وبدأ يستمع بدقّة إلى حديث الشيخ الذي كان يجذب برقّة طفلته التي تحاول جاهدة أن تأخذ الكتاب من يده لتقضمه. تبسم علاء وتذكّر تأفّف والده من الأطفال وكيف يصيح دوماً أنه يريد الاستماع إلى التلفاز وبحركة لا شعورية استرقَ النظر في أرجاء الغرفة ليفاجأ أن عائلة علاء لا تملك تلفازاً في غرفة الجلوس وحين سأل عن الأمر أتاه صوت الشيخ معلّلاً: "غرفة الجلوس خاصة للأسرة ولا مكان فيها لجهاز غريب يرهقنا بأخباره".
بعد مضي ساعة، عاد علاء إلى منزله، مهموماً.. لو كان يعيش في منزل قاسم لكان إنساناً مختلفاً في سلوكه وأدبياته وأولوياته! فتح الباب وقد اتّقدت في ذهنه فكرة أشبه بحلم تمنى لو يستطيع أن يحققه. فور دخوله سمع صوت أخيه يصيح: "علاء! أتيت؟ هيا نشاهد الديفيدي الذي أحضرته مؤخراً أرجوك" بينما صاحت الوالدة: "وهل أنهيت فروضك يا محمد حتى تشاهد التلفاز؟". وقف علاء وقال بحزم: "قبل مشاهدة الديفيدي والفروض، يجب أن أتوضّأ وأصلّي". نظر الجميع إلى علاء باستغراب فأكمل قائلاً: "سنتعاون على ترتيب أولوياتنا، هيا يا محمد، لنتوضّأ ونصلِّ، ثم ننهي الفروض ونتحدث قليلاً، فما حاجتنا لمشاهدة التلفاز بينما لدينا الكثير من الأخبار لنتشاركها؟" استبشرت الأم. تأمّلت علاء بإعجاب وقالت: "جميل! وأنا سأعدّ البوشار لكما!". ابتسم علاء وقد شعر أن التغيير يمكن أن يبدأ به وبشخصه، ولماذا يلوم الجميع بينما عليه أن يتحمل هو المسؤولية أولاً وطالما أنّ باستطاعته أن يعمل بإخلاص ليحيل منزله إلى ما يشبه جنّة قاسم؟