نلا الزين
الزواج مصلحة يشترك فيها اثنان، وهي تتطلب قدراً من الوعي السليم، لأنها شركة بين عقلين وقلبين ومسلكين في الحياة، فلكلّ شريك منهما أيامه الماضية ومنهجه الخاص وحاجاته وأهدافه وأحلامه. وإذا أردنا أن نقف عند الطبائع، نجد أنها إذا تركت على سجيتها بدون تشذيب فإنها تؤدي إلى التنافر في كثير من الأحيان بدل أن تؤدي إلى الانسجام والتفاهم.
بالطبع هناك طبائع يصعب على الزوجين بل وعلى أي إنسان أن يتخطاها بسهولة ولكن المسألة تحتاج إلى مبادرة وتفهُّم من قِبَل الزوجين خصوصاً لأن الأمر قد يؤدي إلى فشل تجربة الزواج. والطبائع تختلف وتتنوع بين إنسان وآخر، فمنها ما هو خاص بالصفات الأخلاقية، ومنها ما هو خاص بالعادات الحياتية الصغيرة أو الكبيرة التي تأخذ جانبها المادي والحسي. وهنا يتأكد لنا ضرورة أن يعرف كلا الزوجين عن شريكه إلى أقصى حد ممكن: طريقة التفكير، الطبائع الخاصة ماضياً وحاضراً. فنحن نشاهد أو نسمع عن أزواج عاشوا مع بعضهم البعض سنوات طويلة وبعد ذلك يقول الواحد للآخر: "لم أكن من قبل أعرف أنَّ فيك هذه الخصلة أو هذا الطبع".
فليس بالإمكان أن يعيش كل واحد من الزوجين في غرفة منعزلة عن الآخر تحت عنوان لا نتفاهم في الطبائع والخصال. كما أنه ليس المطلوب أن يلغي الواحد منهما نفسه مئة بالمئة ليعيش بالآخر أو معه بل المطلوب فسحة من التأمل في ميزات الشريك وطبائعه ومقارنتها بطبائع الذات ليلتقي ما هو مشترك وليُترجم ما هو مختلف تفهماً لخصوصية الآخر، ونحن نعلم أنّ العائلة ميدان تفاعلات مستمرة وشديدة بين مختلف أعضائها لا سيما بين الزوجين، وهي صورة مصغَّرة عن المجتمع، فالتباين والتنافر والتلاقي عوامل تميز العلاقات بين أعضاء العائلة كما بين أعضاء المجتمع، وبالعودة إلى الخصال التي تميز كل طرف عن الآخر فتارة ننظر إليها على أنها تغني الحياة بشكل عام والحياة الزوجية بشكل خاص، وتارة ننظر إليها بعين النقد إذا ما تحوَّلت إلى سياج يجلس خلفه كل طرف بعيداً عن خصال الآخر التي لم يستطع التأقلم معها أو الملاءمة على الأقل.
وتزداد المشكلة تعقيداً عندما ينضم للعائلة أفرادٌ جددٌ كالأطفال وتنعكس هذه التعقيدات عليهم لينضموا إلى ساحة الصراع فيها.ونتيجة لعدم التعايش مع تنوع الآخر وتمييزه ببعض صفاته وطبائعه ليعيش الزوجان فراغاً لا فائدة منه ونفوراً لا طائلة منه سوى التباعد والوحدة..وعندما نمعن النظر في هذه الآية المباركة في القران الكريم ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾. فإننا نقرأ من خلالها معرفة الإنسان بنفسه فهو يدرك ما هو جيد في تصرفاته وخصاله وأعماله وما هو غير جيد كما أنه يعلم أين قصَّر تجاه الآخرين في وقت كان بإمكانه التقرب أو التفهم أو التضحية ببعض خصوصياته لمصلحة الأسرة والبيت العائلي الجميل.
وعندما ندرس سيرة المصطفى محمد صلى الله عليه وآله فإننا نجد الكثير من الحوادث أو الأحاديث التي تتناول مسلكه الرسالي في أسرته ومع أفراد عائلته. حتى أن القران الكريم يحدثنا عن النبي صلى الله عليه وآله كيف كان يحرّم على نفسه أموراً عديدة كان يحبها لكي لا يزعج أفراد عائلته ومن يعيش معهم ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ﴾. إشارة إلى تحريم الرسول على نفسه بعض الأطعمة، وهنا يخاطبه الله تعالى: ﴿مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾، وهنا خصوصية المنع على نفسه فقط وهناك حديث للرسول صلى الله عليه وآله مضمونه أن الناس عادة تأكل ما تختار والرسول صلى الله عليه وآله يقول عن نفسه أنه يأكل ما يختاره له الذين يعيش معهم. إنها أمثلة استطردنا إليها لنشير إلى ما عاشه الرسول صلى الله عليه وآله من انسجام أو تعايش مع ما يريح الآخرين الذين عاش معهم تحت سقف واحد. وليس المطلوب أن يتحول كل واحد منا وعلى مستوى حياته الخاصة إلى الانسجام الكلي أو إلغاء الرغبات الخاصة وقمع الطبائع الذاتية، بل على الأقل ترك مساحة للاختيار بين ما هو جيد لي وأحبه شرط أن لا يؤذي الآخر أو على الأقل لا يحصل التصادم بشكل يومي في عاداتنا وطبائعنا بل يكون ذلك استثناءً. كما نشير إلى مسألة أساسية أيضاً وهي أن لا يصل أحد الزوجين مثلاً وأمام القمع الدائم لخصوصياته أو أمام تسلط الطرف الآخر إلى حالة من الكبت تصل مضاعفاتها إلى نتائج سلبية على الطرفين معاً.
الأسرة ثمرة الزواج القائم على شراكة بين شخصين لكل منهما أحلامه وأهدافه وصفاته الخاصة يعملان معاً على التوحد أو توحيد بعض هذه العناوين من خلال الوعي والفهم المتبادل لشؤون وخصوصيات كل طرف، وأيام الزواج دورة تدريبية على المعاشرة وهي تعني أن يسير المرء مع الآخر ويرافقه ويتآنس معه ويتناقش عندما يحصل ما يستدعي الحوار ومد بساط البحث. وهنا قد يتوافقان، وقد يتعارضان بشكل هادىء وطبيعي لكي لا تتحول المعارضة إلى الداخل فتصبح مكبوتة وتستمر في الغليان، وهنا يمكن تقليل الفجوة بين الأزواج مما يقلل من المشاكل المستعصية على الحل وتصبح كل العناوين قابلة لجلسة من الصراحة والمودة والتنوع. أخيراً، يمكن للإنسان أن يتخلى عن طبعه الذي يراه غير ملائم للحياة أو لمرونة السلوك وسهولة العيش مع الآخر ولكن الإمكان متعلق بالإرادة على التغيير وكم من أمورٍ تطبَّعنا عليها لأننا صممنا على ذلك ووجدنا جدواها لنا ولغيرنا وكما هي القاعدة "الطبع يغلب التطبُّع". فمن الممكن أن يغلب التطبع الايجابي والجاد الطبع المتأصل أو العصي على الغلبة.
الأسرة أمانة وشراكة قائمة على مودة ورحمة وفن المعاشرة وإذا لم نستطع أن نترجم هذه العناوين تحت سقف الزوجية والأسرة فما هو جدوى تأسيسها؟