د. غسان طه
لم تسلم المدن الشيعيّة في بلاد الشام، وتحديداً المناطق اللبنانيّة الشيعيّة، من الغزوات الصليبيّة؛ فبعد صمود شيعة طرابلس ببسالة نحو عشر سنوات، يتقدّم الصليبيّون ساحلاً نحو بيروت وصيدا وصور قبل أن يتوجّهوا نحو المناطق الداخليّة. وأمام هذا الغزو ثمّة خياران، فأيهما اختار الشيعة؟
* بيروت: مفاوضات غير مجدية
وصل الصليبيّون إلى بيروت في 19 أيّار سنة 1099م، وقد حاول أهلها تجنّب القتال بعرضهم على الصليبييّن إمدادهم بالتموين ودفع مبالغ كبيرة من المال؛ شرط أن لا يتعدّوا على بساتينهم ومزارعهم، كما تعهّدوا بالدخول في طاعتهم والاعتراف بالتبعيّة لهم في حال احتلّوا بيت المقدس(1). يومها مرّ الصليبيّون من بيروت دون قتال، لكن بعد سقوط طرابلس ثمّ جبيل، عاد الصليبيّون إلى بيروت سنة 1110م في محاولة للسيطرة عليها، لكن تعذر ذلك مع وصول الإمدادات الفاطميّة للمدينة، التي اضطرّت إلى القتال، وبعد حصار دام نحو الشهرين، سقطت.
* صيدا تعترض طريق الغزاة
مدينة صيدا كان حالها مختلفاً، فقد اعترضت طريق الصليبيّين أثناء زحفهم تُجاه فلسطين عام 1099م، فردّ الصليبيّون على ذلك بإتلاف بعض المزارع والقرى. ورغم تلك المناوشات ظلّت صيدا تنعم بحماية الأسطول الفاطميّ. غير أنّ الصليبييّن قرّروا احتلالها في عام 1106م، فاسترضاهم حاكمها بمبلغ من المال، ما حماها من الاحتلال الصليبيّ حتّى عام 1108م، فسقطت المدينة بعد سقوط طرابلس وبيروت(2).
* صور: صمودٌ مشرّف
كانت مدينة صور من المدن الساحليّة التي سعى الصليبيّون إلى احتلالها، فحاولوا محاصرتها، غير أنّ أهل صور استمرّوا بالصمود جرّاء تلقّيهم بعض المدد من الأسطول الفاطميّ المصريّ. كذلك تعاون أهل صور وجبل عامل مع والي دمشق السلجوقيّ ما أدّى إلى عجز الصليبيّين عن دخول صور بعد حصار دام أربعة أشهر ونيفاً، وبعد صمود لنحو ربع قرن من الزمن(3).
ورغم أنّ الحصار الصليبيّ كان مطبقاً على صور بأسطول بحريّ ضخم، لم يتمكّن الصليبيّون من دخول المدينة إلّا بعد التفاوض على أن تستسلم، والتعهّد بالسماح لأهلها ممّن شاء منهم بالمغادرة من غير إكراه، وأن يأمنوا على أنفسهم وذويهم ومتاعهم، وأمّا الذين يؤثرون البقاء فيتحمّلون مسؤوليّة أمنهم في أنفسهم وممتلكاتهم. وقد سقطت صور في حزيران سنة 1124م(4)، بعد صمود مشرّف لأهلها، رغم التجويع والضغط وشحّ الإمدادات.
* مياذنة جزّين يُفشلون الاحتلال
كان معظم المدن الساحليّة الممتدّة من طرابلس حتّى الناقورة ويليها المدن على الساحل الفلسطينيّ قد خضع بالقوّة للصليبيّين، كذلك المدن على الساحل الفلسطينيّ(5)، أمّا المناطق الداخليّة فقد بقيت صامدة واستعصت بفعل المقاومة على الخضوع للغزاة ومنها منطقة جزين، حيث كان الشيعة من آل العود يبسطون نفوذهم عليها وعلى ما حولها من الناحية الجنوبيّة لشقيف تيرون. وآل العود من العائلات الشيعيّة المعروفة آنذاك، والتي بسطت نفوذها في كسروان والجرد [جبيل] وجزين. وكان منها عدد من كبار علماء الدين الذين اتّصلوا بالحوزة الدينيّة في النجف.
وقد حاول الصليبيّون السيطرة على جزين أثناء الحملة الخامسة بين عامي (1219م-1221م) لكنّ الشيعة فيها قاوموا الحملة وقضوا على معظم المهاجمين. يقول المؤرّخ ابن أبي شامة الدمشقيّ إنّه عند محاولة الصليبيين السيطرة على جزين تقدّموا نحوها بخمسمئة مقاتل فأخلاها أهلها، ولمّا دخلوها، هاجمهم المياذنة (شيعة جزين)(6) وأكثروا فيهم القتل، ففرّوا ولاحقوهم حتّى صيدا ولم يبقَ منهم سوى ثلاثة أنفس(7).
* آراء المؤرّخين
أثارت الحروب الصليبيّة جدلاً واسعاً بين المؤرّخين والباحثين في التاريخ ولا سيّما حول موقف الشيعة من الغزو الصليبيّ لبلاد الشام والمناطق اللبنانيّة تحديداً. وقد عرضوا فصولاً عن المقاومة والمهادنة التي شهدتها المناطق الساحليّة من طرابلس حتّى صور، باعتبار أنّ المناطق الداخليّة اللبنانيّة لم تشهد في البداية ضغوطاً مماثلة من الصليبيّين القادمين من البحر عبر المتوسط قاصدين المدينة المقدّسة.
اعتبر بعض المؤرّخين، ومنهم كمال الصليبي، أنّ السلاجقة حكّام دمشق خاضوا مواجهة حادّة ضدّ الغزاة الصليبيّين، فيما أظهر الآخرون من الشيعة والسنّة على حدّ سواء ميلاً إلى التسوية في البداية(8)، وله في ذلك نموذج المدن الساحليّة على وجه الخصوص.
كما أنّ الجماعات السكّانيّة على اختلافها في لبنان اعتمدت الموقف نفسه في بداية الغزو، فاختارت جميعها سياسة الانحناء أمام العاصفة، ولم تختلف في مسلكها هذا عن حكّام المدن الساحليّة(9).
أمّا المؤرّخ محمّد علي مكّي فيعلّق على هذا الأمر بالقول إنّ حاكم طرابلس فخر الملك أراد الاعتماد على بغداد حينما زارها للحصول على الدعم، وكانت حينها في أيدي الحكّام السلاجقة ممثّلي السنّة آنذاك، وقد فضَّلهم على التماس المساعدة من الفاطميّين حيث كانت القاهرة ممثّلة الإسماعيليّين الشيعة، كذلك حاول الصوريّون وأهل جبل عامل التماس المساعدة من السلاجقة في دمشق(10).
هكذا كان حال بعض المدن الشيعيّة التي احتلّها الصليبيّون، على الرغم من تباين آراء بعض المؤرّخين حول كيفيّة تعاطي أهلها وسكّانها مع هؤلاء الغزاة.
* هل تعلم أنّ الصليبيّين التهموا لحوم المسلمين؟
في 12 ديسمبر 1098م، هجم الجنود الصليبيّون على معرّة النعمان في سوريا، وأقدموا على غلي السكان، وأكل لحومهم. كما فعلوا ذلك في بعض القرى في الأناضول أيضاً. يعلّق محللّون أنّ السبب لم يكن الجوع وحده، بل محاولة الصليبيّين حطّ قيمة المسلم الإنسانيّة إلى مرتبة الحيوان، إلّا أنّ صورة الغرب منذ ذلك قد تلقّت ضربةً قاسية ورسّخت الهمجيّة والشراسة في تعاملهم مع الآخر.
(1) لبنان من الفتح العربيّ إلى الفتح العثمانيّ، مكّي، ص 113.
(2) المصدر نفسه، ص 121.
(3) المصدر نفسه، ص 193.
(4) تاريخ الحروب الصليبيّة، الصوري، ج 3، ص 315.
(5) المصدر نفسه، ج 3، ص 316.
(6) المياذنة هم شيعة جزين وسمّوا كذلك تحريفاً لكلمة متاولة، أو لكثرة المساجد والمآذن لديهم.
(7) الذيل على أخبار الروضتين، الدمشقة، ص 83-84.
(8) بيت بمنازل كثيرة، الصليبي، ص 130.
(9) لبنان في تاريخه وتراثه، حطيط، ص .194