د. غسان طه
رغم الكثير من التضييق والقمع والظلم؛ لم يتراجع الشيعة في لبنان قيد أنملة عن التمسّك بإحياء مراسم عاشوراء على امتداد المراحل والحقبات المختلفة، سواءٌ بشكلٍ سرّيّ كما كان في البدايات أم بشكلٍ علنيّ كما أصبح لاحقاً، وذلك لما لهذه المناسبة من اعتبارات عقديّة وروحيّة وأخلاقيّة وسياسيّة ترتبط بإمامهم الشهيد الإمام الحسين عليه السلام.
في هذا المقال مزيد من الوقائع التاريخيّة حول هذه الشعيرة، إذ سيتناولها في الحقبة الزمنيّة الممتدّة من فترة الاستقلال حتّى نشأة أفواج المقاومة اللبنانيّة في العام 1974م.
* أوّلاً: إحياء عاشوراء في بيروت
مرّ إحياء مراسم عاشوراء في بيروت بمراحل عدّة، اتسمّت بالآتي:
1. رفض وقمع: على امتداد النصف الأوّل من القرن العشرين، كان النازحون الشيعة إلى ضواحي بيروت، لا يزالون يعيشون واقعاً متردّياً في حياتهم جرّاء تهميشهم وعدم إعطائهم الفرصة للقيام بدورهم الاجتماعيّ والوطنيّ. كما كانوا يعيشون تحت وطأة الرفض والنبذ من الجماعة المدنيّة، وقد انعكس هذا الرفض على إحيائهم شعائرهم العباديّة علانيّةً، لا سيّما مناسبة عاشوراء، إذ لم يجرؤوا حتّى في بيوتهم على إسماع الجيران صوت قارئ العزاء.
2. غياب أماكن الإحياء: أمّا في إحياء ذكرى عاشوراء، فالوضع كان أشدّ صعوبة لغياب الأماكن الخاصّة لذلك، فكثيراً ما كان يضطرّ هؤلاء إلى الانتقال إلى الضاحية الجنوبيّة للمشاركة في الإحياء، وحول ذلك يقول أحمد: "كنّا نقصد حسينيّة آل الخنسا في محلّة الغبيري. وفي مسيرنا كنّا نتوزّع بين طرقات متعدّدة وملتوية للوصول إلى الغبيري، حتّى لا يعلم أحدٌ إلى أين نحن متوجّهون. وكنّا نراقب الطرقات ونتلفّت دائماً يمنة ويسرة نتيجة الخوف. وأحياناً كنّا نتوجّه إلى النبطيّة، فنكون خارج دائرة المراقبة، وأحياناً أخرى كنّا نقيم الشعائر داخل البيوت في سكننا المدينيّ، فنقفل الأبواب والشبابيك ونقيم الشعائر دون إصدار الأصوات(1).
3. منع عطلة اليوم العاشر من محرّم: إنّ مردّ هذا الخوف هو افتضاح هويّة الشيعيّ جرّاء المشاركة في إحياء الشعيرة الحسينيّة، لا سيّما في ظلّ أيّام العمل، حيث كان التعطيل يوم العاشر من محرّم ممنوعاً، ولم يكن للشيعة من يوم تعطيل في مناسباتهم الخاصّة على غرار بقيّة المذاهب.
وتحت وطأة الإلحاح، توسّط رشيد بيضون؛ لدى مدير عام وزارة الداخليّة، الذي أصدر قراراً إداريّاً داخل المديريّة يقضي بتعطيل الموظّفين الشيعة في اليوم العاشر من محرّم(2)، ومن دون أن يرقى ذلك إلى بقيّة المرافق للعاملين لدى أصحاب المصانع وغيرها من أماكن العمل.
4. مجالس رسميّة: كان رشيد بيضون، وبعد تأسيسه للكلّيّة العامليّة، أوّل من أحيا المجالس الحسينيّة في بيروت بشكلٍ رسميّ ومدروس، ممّا جعل من مجلس "العامليّة" في عاشوراء مناسبة وطنيّة جامعة تحضرها مختلف الطبقات والأديان والمذاهب(3).
وفي الكلّيّة العامليّة في بيروت، كانت تُقام إحياءات كبيرة في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ولمدّة عشرة أيّام متواصلة. وكان الشيخ نجيب زهر الدين يقوم كلّ يوم بإلقاء موعظة دينيّة وخطبة حول أهميّة ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بالنسبة إلى المسلمين، مبيّناً فيها مواقفه النبيلة وتضحياته في سبيل المسلمين، ثمّ يعقبها قراءة المجالس الحسينيّة أو قراءة مجلس عزاء حول أحد شهداء واقعة الطفّ في كربلاء(4). وكانت تلك الإحياءات، خصوصاً اليوم العاشر، تُنقل مباشرة عبر الإذاعة اللبنانيّة، وكان يحضرها رجالات الدولة اللبنانيّة.
5. معانٍ سياسيّة: منذ السبعينيّات من القرن العشرين، بدأت واقعة عاشوراء تأخذ معانيَ سياسيّة دون أن تقتصر على الشيعة وحدهم، وإنما طالت أيضاً رجالات دين من غير الشيعة. ففي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من كانون الثاني عام 1975م، ألقى أسقف جبل لبنان للروم الأرثوذكس، جورج خضر، خطبة في المناسبة في الكلّيّة العامليّة قارن فيها بين الاعتداءات الإسرائيليّة الغاشمة على كفرشوبا في الجنوب اللبنانيّ وبين الحرب التي شنّها الأمويّون على الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره، وقد أطلق على كفرشوبا "كربلاء ثانية"(5).
* ثانياً: الشيعة والحرمان
مرّ الشيعة في لبنان لناحية تكريس هويّتهم الشيعيّة، بمراحل عدّة:
1. الاحتجاج على الواقع المتردّي: منذ نهاية العشرينيّات من القرن العشرين، بدأ الاحتجاج الشيعيّ على الإهمال والإجحاف بحقّ أبناء الطائفة والمناطق التي يسكنون فيها. مع ذلك، لم يكن هذا الاحتجاج -طيلة مرحلة الانتداب- ليتّخذ طابعاً شعبيّاً أو يحضر في مناسباتهم الدينيّة، وخصوصاً في مناسبة عاشوراء بما تختزنه من دلالات وتأثيرات تتيح الاستفادة منها في إحداث الوعي بالمظلوميّة، وباستنهاض الهمم من أجل إصلاح الواقع المتردّي.
2. الارتقاء بالهويّة: ما إن أطلّت أربعينيّات القرن العشرين، حتّى بدأ الشيعة يتطلّعون نحو تغيير واقعهم المتردّي على المستوى الاجتماعيّ. ورافق ذلك الشعور بالحاجة إلى الارتقاء بمستوى الوعي بالهويّة حيث يعوزها جمع المبادرات لخلق إطارات يعبّرون فيها عن شعائرهم. ومردّ هذا الشعور هو الإحساس بالدونيّة وبالقهر الاجتماعيّ، فقام رشيد بيضون ببناء مدرسة ومسجد في منطقة رأس النبع، وقد أَذِن ذلك في الانتقال إلى مرحلة جديدة، حيث أُقيم أوّل مجلس عزاء حسينيّ رسميّ في المدرسة العامليّة في بيروت عام 1939م.
3. نهضة على نطاق واسع: غير أنّ محاولة بيضون التي كُلِّلَت بالنجاح، بقيت يتيمةً طيلة الأربعينيّات. ولكن مع مطلع الخمسينيّات إلى السبعينيّات، عاد عدد من رجال الدين من النجف، وحطّوا الرِّحال في بيروت وضواحيها. ومن هؤلاء كان الشيخ محمّد عيّاد الذي انتقل إلى بيروت عام 1957م، فالتفّ حوله الشيعة وطلبوا إمامته في الصلاة في المسجد الكبير.
كان قد سبق وصول الشيخ عيّاد محاولات النازحين الشيعة عام 1952م من عدشيت وبافليه إنشاء جمعيّة لمساعدة النازحين في مناطق برج حمود والنبعة والدكوانة عبر بناء المؤسّسات الدينيّة والتربويّة، فأنشأوا جمعيّة التآخي التي كان مرشدها السيّد محمّد حسين فضل الله رحمه الله، ثمّ كانت جمعيّة زهرة الآداب لأبناء ميفدون التي أحيت أوّل مرّة عيد غدير خمّ الخاصّ بالشيعة في تلّة الخيّاط(6).
* ثالثاً: عاشوراء ونشأة حركة المقاومة
كان إعلان قيام أفواج المقاومة اللبنانيّة (أمل) في 17 آذار عام 1974م في بعلبك على يد الإمام موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه) في مناسبة أربعين الإمام الحسين عليه السلام. وقد استغلّ السيّد الصدر هذه المناسبة لربط حركة المقاومة بمعركة كربلاء وعاشوراء، ومن الأفكار التي شدّد عليها:
1. عاشوراء حركة رساليّة متجدّدة: اعتبر الإمام موسى الصدر في ذلك المهرجان أنّ معركة كربلاء بمثابة الخطّ العريض لتاريخ التشيّع، حيث تشكّل عاشوراء صفحة من هذا التاريخ، وأنّ تاريخ المسلمين الشيعة كان ولا يزال، كنايةً عن معركة وتمرّد وثورة منذ حركة التوّابين وحتّى العصر الراهن، فهي معركة رساليّة ترتبط بالماضي لتصله مع المستقبل، وأنّ استمرار عاشوراء في التاريخ يجعل الحدث يتجدّد كلّ سنة.
2. أهداف ومنطلقات: في الكلّيّة العامليّة في بيروت، كان الإمام الصدر يتحدّث باسم حركة المحرومين، مستلهِماً من حركة الإمام الحسين عليه السلام وأهدافها أهداف حركته ومنطلقاتها.
وممّا قاله في صبيحة العاشر من محرّم عام 1975م في بيروت: "وإنّ الإيمان بالله يوجب على المرء أن يتصدّى وبكلّ قوّة وبجميع الوسائل والطرق للظلم والاضطهاد".
3. ثقافة الدفاع عن الأرض والعِرض: وحول فلسفة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وتضحيته من أجل الحقّ والخير والكرامة الإنسانيّة، تطرّق في خطابه إلى الحرب اللبنانيّة – الإسرائيليّة، وتحديداً الهجوم الإسرائيليّ على قرية كفرشوبا، وقارنها بحرب الحسين عليه السلام في كربلاء ضدّ الأمويّين الطغاة. وقد أكّد في خطبته أن لو كان الإمام الحسين عليه السلام حاضراً، لرفع سيفه ضدّ المعتدين الطغاة، وقد دفعه ذلك إلى المطالبة بتسليح الجماهير حتّى تستطيع الدفاع عن نفسها، قارناً الموقف البطوليّ للإمام الحسين عليه السلام بوجوب الدفاع عن الأرض وتحمّل المسؤولية أمام الله والشعب والأمّة(7).
* في صميم البنية الثقافيّة
يتّضح من خلال استقصاء طريقة الاحتفاء بذكرى عاشوراء، أنّ الشعيرة الحسينيّة مناسبة تعكس المكوّن البنيويّ الثقافيّ في تنوّعاته المكانيّة والزمانيّة، وهي تعبّر عن قدرة دائمة للتجدّد والالتفات المستمرّ نحو الواقع، وللتفاعل مع تعقيداته وتناقضاته.
(1) طلال عتريسي وآخرون، الشيعة في لبنان من التهميش إلى المشاركة، ص 164.
(2) المصدر نفسه، ص 165.
(3) جعفر المهاجر، المهاجر العامليّ، ص 88.
(4) المصدر نفسه، ص 165.
(5) المصدر نفسه، ص 166.
(6) المصدر نفسه، ص 167.
(7) إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، ص 166.