مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟* أخلاقنا | كونوا مع الصادقين* الشهيد على طريق القدس عبّاس حسين ضاهر تسابيح جراح | إصابتان لن تكسرا إرادتي(1) على طريق القدس | «اقرأ وتصدّق» مشهد المعصومة عليها السلام قلبُ قـمّ النابض مجتمع | حقيبتي أثقل منّي صحة وحياة | لكي لا يرعبهم جدار الصوت

تاريخ الشيعة | شيعةُ الشام في العصر العبّاسيّ(1)

د. غسان طه

 

أن تقرأ عنواناً يتحدّث عن وجود شيعة في بلاد الشام منذ العصر العباسيّ، سيكون غريباً في بداية الأمر، غير أنّ للتاريخ رأياً آخر.

* الشيعة وصعود العباسيّين
نشأت الخلافة العبّاسيّة على أنقاض دولة الأمويّين، الذين أخذوا البيعة لأنفسهم تحت شعار "الرضى من آل محمّد" عليهم السلام، والثأر للشهداء من أبناء فاطمة الزهراء عليها السلام (1). وقد وجد العبّاسيّون أنّ كلّاً من الكوفة وخراسان تشكّل البيئة الملائمة للدعوة، في حين أنّ الشام كان هواها لا يعرف سوى طاعة الأمويّين(2).

في المقابل، لم تولِ قيادات الدعوة العبّاسيّة اهتماماً لبلاد الشام كمركز لانطلاق الثورة؛ لعلمها العميق بهوى أهلها أوّلاً، ومن ناحية أخرى، كان من المتعذّر الرهان على جماعة شيعيّة ما زالت حتّى ذلك الحين، بعيدة عن خوض أيّ مواجهة مع السلطة الحاكمة. فكيف انتشر التشيّع في بلاد الشام لاحقاً؟

يمكن أن نلحظ هذا الانتشار من خلال عنوانين رئيسين: التوزّع الديموغرافي، والمشاهد الشيعيّة.

* أولاً: أثر الشيعة عبر التوزّع الديموغرافيّ
انتشر التشيّع بشكلٍ واسع في أصقاع الخلافة العبّاسيّة منذ قيامها وحتّى سقوطها، متّخذاً أشكالاً شتّى:

1. هجرة الجماعات الشيعيّة: عرفت بلاد الشام جماعات شيعيّة ذات مذاهب مختلفة من جعفريّة إماميّة وإسماعيليّة وعلويّة وزيديّة، ونجحت بعض هذه الجماعات في إقامة دويلات وإمارات شيعيّة من فاطميّة وقرمطيّة وحمدانيّة. وقد سمح بروز هذه الإمارات ببروز التشيّع وانتشاره بين أهل أرض الشام نفسها. وقد تعزّز ذلك الانتشار أيضاً ببعض الهجرات اللاحقة، ولا سيّما من العراق جرّاء التجارة التي رافقتها الدعوة للتشيّع لآل البيت عليهم السلام، ومنها على سبيل المثال:

أ. هجرة آل أبي شعبة: وذلك في القرن الثاني للهجرة. وينسب إلى حلب من رواة الشيعة الأقدمين آل أبي شعبة، وقد نبغ فيهم محدّثون كبار، منهم الحسن بن علي (المعروف بابن شعبة)(3).

وآل أبي شعبة كانوا من بيوتات رفيعة المستوى في الكوفة، وكان أبو شعبة جدّهم من أصحاب الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، وأحفاد أبي شعبة كلّهم من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، وكانوا يمتهنون التجارة بين العراق وحلب؛ فسمّوا بالحلبيّين(4).

ب. هجرة آل أبي جرادة: في القرن الثالث للهجرة، كان ثمّة موجة أخرى من الهجرة إلى حلب، تمثّلت بأسرة آل أبي جرادة، وكان الجدّ الأكبر لهذه الأسرة، صاحباً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وينتسب إلى ربيعة من قبيلة بني عقيل، وكان يقطن في البصرة. وفي ذلك القرن، قدم أحد أفراد هذه الأسرة إلى الشام للتجارة، واسمه موسى، فقرّر البقاء في الشام واستوطن حلب وخلف أسرة، وبات لهذه الأسرة مكانة وثروة وشهرة، ساهمت في جميع ميادين الحياة في حلب، من سياسة وقضاء وعلم وإدارة وتجارة، وغير ذلك(5).

ج. هجرة القرامطة: وهم من الشيعة الإسماعيلين، وصلوا إلى بلاد الشام في القرن الثالث الهجريّ (288هـ- 901م)، وذلك بعد أن تمكّنّوا من إنشاء دولتهم في الخليج الفارسيّ. وخلال وجودهم في الشام، اتّصلوا بالقبائل التنوخيّة في وادي التيم.

د. هجرة الحمدانيّين: أمّا الحمدانيّون، فكانوا من الشيعة الذين برزوا في بلاد الشام في ذلك القرن وتمكّنوا من الاستيلاء على شمال سوريا، وجعلوا من حلب عاصمة لهم. وقد أسهم الحمدانيّون في بثّ التشيّع في شمال سوريا، بينما كانت القرمطيّة قد بدأت تنتشر في بلاد الشام وتتّسع نحو وادي التيم وبعض مناطق الجنوب(6)، وبات الشيعة أكثر انتشاراً في وادي التيم وحتّى بلاد جبل عامل.

2. وجود جماعات ومذاهب شيعيّة: ما إن حلّ القرن الرابع للهجرة، حتّى كان المقدسيّ قد وصف مذاهب بعض أهل الشام بقوله: "وأهل طبريا ونصف نابلس وقدس وأكثر عمان شيعة، وذلك بعدما انتشر التشيّع في شرق العالم الإسلاميّ وغربه ولم يشهد ذلك من قبل"(7). أمّا عن أهل حمص، فيقول فيهم القزوينيّ: "ومن العجب أنّهم كانوا أشدَّ الناس على عليّ رضي الله عنه، فلمّا انقضت تلك الأيّام صاروا من غلاة الشيعة"(8). وقد كانت مدينة حمص موطناً للشاعر الشيعيّ ديك الجنّ (161هـ- 236هـ) المتحدّر من السلميّة، في عصر كانت تُقام فيه مراسم عاشوراء بشكل معروف. كذلك كان ثمّة شاعر إماميّ آخر في سوريا هو أبو تمام (189هـ-236هـ ) المتحدّر من حوران(9).

وعن طرابلس بشكل خاصّ، يتحدّث ناصر خسرو أثناء مروره في المنطقة سنة 438هـ / 1046م، بأنّ سكّانها كلّهم شيعة، وقد شيّدوا مساجد جميلة في كلّ البلاد(10). ويصف مدينة صور، بأنّها كانت تُعرف بين مدن ساحل الشام بالثراء، ومعظم سكّانها شيعة، والقاضي هناك رجل سنّيّ اسمه ابن أبي عقيل(11).

وفي القرن السادس للهجرة، وصف ابن جبير المذاهب المتغلّبة في الشام بالقول: "للشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنيّين فيها، وقد عمروا البلاد بمذاهبهم وهم فرق شتّى، فمنهم الإماميّة والزيديّة والنصيريّة والإسماعيليّة..."(12).

كذلك، وجود شيعة حلب، الذي يقول عنهم ياقوت الحمويّ في معجم البلدان في سنة 440هـ: "والفقهاء في حلب يفتون على مذهب الإماميّة"(13). وقد برز منهم في القرنين الرابع والخامس فحولٌ من فقهاء الشيعة نذكر منهم:

- علي بن الحسن بن شعبة، وهو من أعلام القرن الرابع ومؤلّف كتاب تحف العقول.

- أبو الصلاح تقي الدين بن نجم الحلبي، مؤلّف كتاب الكافي في التكليف أو الكافي في الفقه(14)، وهو من أعلام القرن الخامس.

* ثانياً: المزارات والمشاهد الشيعيّة
حين حدثت واقعة كربلاء، لم يكن أهل الشام على علم بما جرى، ولم يكن ليتردّد صداها لولا مرور قافلة السبي من العراق إلى بلاد الشام. وقد كانت بلاد الشام خاضعةً للسلطة الأمويّة التي نشرت قبضتها في طول البلاد وعرضها، مع ذلك، فإنّ مرور قافلة السبي كان قد كشف أنّ ثمّة عاطفة لا تزال موجودة تجاه آل البيت عليهم السلام. ومع انقضاء العصر الأمويّ وبروز العصر العبّاسيّ، كان المؤرّخون قد كشفوا عن أكثر من عشرين مشهداً في بلاد الشام من المشاهد التي يقال لها (مشهد الرأس)، وعلى حدّ تعبير الهرويّ أنّ هذه المشاهد كانت قد ظهرت من كربلاء إلى عسقلان وما بينهما من الموصل ونصيبين وحماه وحمص ودمشق.

قد يكون من الصعب القول إنّ تلك المشاهد أُقيمت في العهد الأمويّ ثمّ تحوّلت إلى مزارات، ولكن ما هو مؤكّد أنّه ما إن طويت صفحة العهد الأمويّ حتّى كان الرحّالة قد شرعوا في الكتابة عن هذه المشاهد. لذا، يمكن القول إنّ تلك المشاهد ظلّت طيلة العهد الأمويّ أسيرة الذاكرة الشعبيّة، ومع حلول العصر العبّاسيّ، وما رافقه من أحداث، سنحت الفرصة لإقامة هذه المشاهد. فالعبّاسيّون الذين رفعوا شعار "الرضى لآل البيت" لم تكن لديهم النيّة في منع إقامة تلك المشاهد إلّا لدى بعض خلفائهم، عندما كانت تسوء علاقتهم مع الشيعة. كذلك، فإنّ الخلافة العبّاسيّة كانت قد شهدت بروز دول شيعيّة من فاطميّة وقرمطيّة وإسماعيليّة وحمدانيّة، ما سمح بتعزيز هذه المشاهد والمزارات وإبرازها.

وعلى هذا النحو، تشكّل المزارات والمشاهد التي تُنسب إلى أهل البيت عليهم السلام في بلاد الشام، دلالات ومعاني كامنة وبارزة، فهي تشير إلى تاريخ المكان وهويّته في علاقة السكّان به. ذلك أنّ المعالم الدينيّة تعكس هويّة القاطنين، وتعبّر عن مكنوناتهم الثقافيّة والنفسيّة والعاطفيّة، وديمومة بقائهم وتعلّقهم به. كما أنّ روح المكان، تعكس المعنى العاطفيّ، والعلاقات الروحيّة والتجربة الوجدانيّة.

لمعرفة المزيد عن تاريخ التشيّع في بلاد الشام في العصر العبّاسيّ، انتظرونا في العدد المقبل إن شاء الله.


1- العصر العبّاسيّ الأوّل، شوقي ضيف، ص 12.
2- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، المقدسي، ص 296.
3- إشارة السبق، أبو مجد الحلبي، ص 9.
4- الكليني والكافي، عبد الرسول الغفار، ص 59.
5- زبدة الحلب في تاريخ حلب، عمر بن أحمد بن أبي جرادة، ص 15.
6- لبنان من الفتح العربيّ حتّى الفتح العثمانيّ، محمّد علي مكّي، ص 85.
7- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، مصدر سابق، ج 1، ص 136.
8- آثار البلاد وأخبار العباد، القزويني، ص 185.
9- تاريخ سوريا، يوسف الدبس، ج 2، ص 243.
10- سفرنامه، ناصر خسرو، ص 48.
11- المصدر نفسه، ص 50.
12- رحلة ابن جبير، ابن جبير، ص 252.
13- معجم البلدان، الحموي، ج 2، ص 383.
14- إشارة السبق، مصدر سابق، ص 9.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع