د. غسان طه
شيعة لبنان، ما هي أصولهم؟ من أين أتوا؟ هل هم قديمو التشيّع أم حديثون؟
أسئلةٌ عديدةٌ تطرح خلال البحث عن بدايات نشأة التشيّع في بلاد الشام، لبنان تحديداً. وتبرز إشكاليّة التأسيس لتاريخ الشيعة، النابعة من مساجلات دارت بين المؤرّخين، ولا سيّما المعاصرين منهم، والتي تركّزت حول بروز شيعة لبنان عموماً، وارتبطت أيضاً بقرون من الغموض وندرة الآثار إن لم نقل عدمها.
• أبو ذرّ والمهمّة الدعويّة
ممّا لا خلاف فيه بين المؤرّخين، أنّ إقامة أبي ذرّ الغفّاريّ في بلاد الشام فترةً تزيد عن أكثر من عقد ونصفٍ من الزمن، تعني أنّ ثمّة مدّة زمنيّة للإقامة تسمح بالقيام بمهمّة دعويّة.
أمّا علاقته بمعاوية خلال إقامته تلك، فنابعة من شخصيّته وولائه للإمام عليّ عليه السلام، والتي انعكست على دوره كداعية إلى الإسلام وإلى التشيّع. فهو أحد أصحاب عليّ عليه السلام الأشدّاء، وهو الأقرب إلى شخصيّته في التقوى والزهد، والأكثر بُعداً عن شخصيّة معاوية، والمستنكر عليه استغراقه في الدنيا وركونه إلى ملذّاتها. وقد روي عن أبي جهضم الأزديّ عن أبيه، أنّ أبا ذرّ في الشام كان يقوم في كلّ يوم، فيعظ الناس ويأمرهم بالتمسّك بطاعة الله، ويحذّرهم من ارتكاب المعاصي، ويروي ما سمعه من فضائل أهل البيت عليهم السلام، ويحضّهم على التمسّك بهم.
• نفي أبي ذرّ
نظراً إلى الدّور المهمّ الذي كان يمارسه أبو ذرّ، كان على معاوية أن يطلب من الخليفة الثالث إخراج أبي ذرّ من الشام إلى المدينة. يذكر الطبريّ ذلك، ضمن أحداث العام الثلاثين الهجريّ، وأنّ إشخاص معاوية أبي ذر من الشام إلى المدينة؛ كان جرّاء ما لقيه من انتقادات، فكتب إلى عثمان: "إنّ أبا ذر قد أعضل بي"؛ أي ضاقت عليّ الحيل فيه، فكتب إليه عثمان أن يجهّز أبا ذرّ، ويرسله إلى المدينة. ودار جدل بين أبي ذرّ وعثمان، حين دخل عليه، وطلب أن يغادر المدينة، قائلاً لعثمان: "إنّ المدينة ليست لي بدار"، فاستأذن وخرج منها حتّى نزل الربذة"(1).
أمّا المسعوديّ (283هـ- 346هـ)، فذكر الحادثة بشكلٍ أوضح؛ فقد ذكر أنّ معاوية كتب إلى عثمان: "إنّ أبا ذرّ تجتمع عليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك، فإن كان لك في القوم حاجة، فاحمله إليك". فكتب إليه عثمان جملةً، فحمله إلى المدينة، ثمّ أجبره على الخروج إلى الربذة منفيّاً(2).
نلاحظ مضمون ما ورد في هذه الرواية من اجتماع الجموع على أبي ذرّ، وخوف معاوية من إفساده الأمر على الخليفة، وليس على معاوية وحده؛ ما يدلّ على أنّ أسباب إخراج أبي ذرّ من الشام، لا تقتصر على خلافه مع معاوية على شؤون البذخ وصرف المال، وإنّما كان بطابع سياسيّ، بدأ ينمو تدريجيّاً حتّى بات يشكّل خوفاً لدى السلطة القائمة.
• روايات في نشأة التشيّع في جبل عامل
لمقاربة بداية الوجود الشيعيّ في جبل عامل، يمكن العودة إلى روايات عدّة، نستعرض عدداً منها:
1. رواية الشيخ محمّد بن حسن المعروف بالحرّ العامليّ، المتوفّى عام 1104 هجريّاً 1693م، حيث أورد في كتابه "أمل الآمل": "في زمن عثمان، لما أُخرج أبو ذر إلى الشام، بقي أيّاماً، فتشيّعت جماعةٌ كثيرة، ثمّ أخرجه معاوية إلى القرى، فوقع في جبل عامل، فتشيّعوا من ذلك اليوم"(3).
2. كتاب "البلدان" لليعقوبي، وهو من بين المصادر القديمة التي أفردت مكاناً لذكر التموضع المكانيّ والجغرافيّ لقبيلة عاملة(4).
3. كان العلّامة السيّد محسن الأمين قد عالج في الربع الأوّل من القرن العشرين، مسألة نشأة التشيّع في جبل عامل، معتمداً على رواية الحرّ العامليّ مع شيء من التحفّظ ووضعها في دائرة الإمكان.
4. تبنّى الرواية عددٌ من المؤرّخين، منهم المؤرّخ الشيخ سليمان ظاهر، والشيخ أحمد رضا، ومحمّد جابر آل صفا، الذي ذكر أنّ التشيّع بدأ في جبل عامل في القرن الأوّل للهجرة، في الوقت الذي نُفي فيه أبو ذرّ الغفّاريّ في عهد الخليفة الثالث "عثمان بن عفّان" من المدينة إلى الشام، فوقع في جبل عامل، واتّخذ لنفسه مقرّين للإقامة؛ في قريتي الصرفند وميس الجبل، والأخيرة هي قرية في الجهة الجنوبيّة من جبل عامل؛ ليدعم آل صفا رأيه بأنّ لأبي ذرّ مسجدين أو مزارين في هاتين القريتين عُرفا باسمه، وأنّ من هذين المقامين انبعث روح التشيّع في بني عاملة، فعمَّ الجبل بأسره(5).
• النزوح الهمدانيّ إلى بلاد الشام
ثمّة رافد آخر من روافد التشيّع في بلاد الشام يتمثّل بالهجرات الوافدة جرّاء الفتوحات الإسلاميّة، ولا سيّما مع هجرة الهمدانيّين إلى مناطق عدّة من بلاد الشام.
1. قبيلة همدان: كانت معروفة لدى المؤرّخين بتشيّعها، وبولائها للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وكانت قد قدّمت الكثير من التضحيات. أمّا الهمدانيّون الذين نزلوا في الكوفة، فقد شاركوا بكثافة إلى جانب عليّ عليه السلامفي صفّين، ولم يكن مع معاوية أحد من أهل الشام. ولشدّة ولاء هذه القبيلة لعليّ عليه السلام، وما أظهرته في صفّين من بأس شديد، قال في حقّها الإمام عليه السلام: "فلو كنت بوّاباً على باب الجنّة، لقلت لهمدان ادخلوا بسلام"(6). وقد افتقد بعض المؤرّخين ذكر تلك القبيلة، عقب صلح الإمام الحسن عليه السلام عام 41 للهجرة والأحداث التي تلت؛ ليجدوها في بلاد الشام.
2. تعرّفهم بالإسلام وانتشارهم: تعرّف الهمدانيّون بالإسلام على يد الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بعدما أرسله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة للهجرة في سريّة إلى اليمن. وبعد أن أدرك اليمنيّون الإسلام، تفرّقوا؛ فنزل بعضهم في بلاد الشام، ونزلت همدان في الكوفة(7)، وسكنت مع قبائل يمنيّة أخرى، مثل: مذحج وكندة والأزد وغيرها، ولكن السيطرة والسيادة على الكوفة كانت لهمدان.
كذلك، فإنّ اليمنيّين، كانوا قد وفدوا إلى الشام مع الفتوحات الإسلاميّة، وقد سجّل المؤرّخون وجودهم في واقعات شتّى، ومنها معركة حمص مع حاميتها البيزنطيّة.
3. معاوية يكيد لهمدان: إنّ حجم الإنجاز الذي حقّقته همدان في صفّين، جعل معاوية يضمر لها كرهاً كبيراً، ويتحيّن الفرصة لتصفية حساباته معها. وقد برز هذا الكره عندما أرسل معاوية بسر بن أرطأة إلى اليمن لقتال أتباع الإمام عليّ عليه السلام، وقبل أن يحزم السير إليها زوّده بالتوجيهات: "لا تنزل على بلد أهله في طاعة عليّ، إلّا بسطت لسانك عليهم، حتّى يروا أن لا نجاة لهم،... وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة عليّ حيث كانوا"(8). وعن ابن عساكر، أنّ ابن أرطأة كان قد سبى نساء اليمن وهمدان، فكنّ أوّل من سُبي من نساء المسلمين بعد وفاة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم.
ما فعله بسر بن أرطأة بأهل اليمن، كان دامياً وقاسياً بلا شكّ، ولكن بَسْطَ سلطته بتلك الطريقة المرعبة، لم يستأصل حبّ عليّ عليه السلام من نفوس أهل اليمن وأهل همدان، فقد استمرّ حبّه عليه السلام لدى أهل اليمن من الذين بقوا على أرضها. وما يؤكّد ذلك، قول ابن عبّاس للإمام الحسين عليه السلامقبل توجّهه إلى كربلاء: "اذهب إلى اليمن، فإنّ فيها شيعة أبيك"(9).
4. أماكن توزّع قبيلة همدان: ما عزّز فكرة نزوح همدان، أنّ القبيلة باتت موجودة في أكثر من منطقة في بلاد الشام، نزلت فيها حاملة معها تشيّعها. أمّا أماكن هذا التواجد، فكان في حمص واللاذقية وبعلبك وجبل الظنيّين، حيث سجّل عدد من المؤرّخين هذا الانتشار.
فاليعقوبي، المتوفّى في القرن الثالث الميلاديّ، يؤكّد في تاريخه "البلدان" بالقول: وأهل حمص جميعاً من يمن وطيء وكندة وحِمْيَر، وكلب وهمدان وعلى ساحل البحر من جُند حمص. اللاذقية وأهلها قوم من اليمن، من سلنج وزبيد وهمدان وغيرها. ومدينة جبلة وأهلها من همدان، ومدينة بانياس وأهلها أخلاط"(10).
وأمّا القلقشندي، المتوفّى عام 821هـ، فقد ذكر نقلاً عن "مسالك الأبصار"، أنّه: "وبالجبل المعروف بالظنيّين من الشام، فرقة من همدان"(11).
وعن ابن عساكر أيضاً: "في الميدان الأخضر خارج باب همدان ببعلبك"(12). مع الإشارة إلى أنّ النصّ ينتمي إلى أواسط القرن السادس للهجرة. إنّ تعبير "باب همدان" يدلّ بلا شكّ، على الجماعة القاطنة في تلك الناحية.
وفي إحدى الدلالات التي تكشف هويّة القاطنين في حمص، ما أورده ياقوت الحمويّ في "معجم البلدان" بقوله: "ومن عجيب ما تأمّلته من أمر حمص، أنّهم كانوا أشدَّ الناس حرباً على عليّ في صفّين مع معاوية، وأكثرهم تحريضاً عليه، وجِدّاً في حربه. فلمّا انقضت تلك الحروب، ومضى ذلك الزمان، صاروا من غلاة الشيعة، حتّى أنّ في أهلها كثيراً ضمن رأي مذهب النصيريّة، وأصلهم الإماميّة"(13).
ويذكر أيضاً أنّ في حمص مزارات ومشاهد، ومنها مشهد عليّ بن أبي طالب، فيه عمود موضع إصبعه، رآه بعضهم في المنام، وفيها قبر قنبر مولى عليّ بن أبي طالب، وفيها قبور لأولاد جعفر بن أبي طالب وهو جعفر الطيّار، ومشهد لأبي الدردار وأبي ذرّ(14).
ختاماً: كانت إطلالة سريعة عرضنا فيها بعض الآراء التاريخيّة حول وجود الشيعة في لبنان تحديداً، لتبيّن أنّ الآراء التي تشكّكك بأصل انتساب هذه الطائفة إلى هذه البقعة الجغرافيّة، آراءٌ غير دقيقة، لم تبنَ على دليل علميّ.
1. الطبري، تاريخ الطبري، ج 5، ص 12-13.
2. المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 254.
3. الحرّ العامليّ، أمل الآمل، ج 1، ص 13.
4. اليعقوبي، البلدان، ص 88.
5. محمّد جابر آل صفا، العرفان، ج 6.
6. المصدر نفسه، ج 3، ص 71.
7. الصنعاني، المصنّف، ج 11، ص 51.
8. السيّد الخطيب، مصادر نهج البلاغة وأسانيده، ج 1، ص 402.
9. الكوفي، الغارات، ص 598؛ كذلك يمكن مراجعة شرح نهج البلاغة لابن الحديد، ج 2.
10. اليعقوبي، مصدر سابق، ج 1، ص 160 - 162.
11. القلقشندي، صبح الأعشى، ج 1، ص 380.
12. الحموي، معجم البلدان، ج 2، ص 304.
13. المصدر نفسه، ج 2، ص 304.
14. المصدر نفسه، ص 303.