د. غسان طه
غدت ذكرى عاشوراء ظاهرةً احتفاليّةً شعبيّةً تحمل دلالاتٍ متعدِّدَةً، وأبعاداً دينيّةً واجتماعيّةً وسياسيّةً، تظهر بأساليب ترتبط بالتُّراث الشعبيّ، وقوامها فهم الصراع بين العدل والظُّلم، وبين الاستكانة والشعور بواجب المواساة، وإظهار الانتماء والولاء لمعاني التضحية والبطولة، والانحياز للقيم الإنسانيّة العُليا والسامية التي جسّدها الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.
في هذا المقال نعرض تاريخ إحياء مراسم عاشوراء في لبنان، التي لاحقها التضييق والمنع، ومع ذلك بقيت وأصبحت اليوم أكثر انتشاراً.
* تاريخ إقامة الشعيرة الحسينيّة في لبنان
إذا أردنا التحرّي عن المراحل التي مرّت بها هذه الشعيرة، فيمكننا عرضها كالآتي:
1. قمع العثمانيّين والمجالس السريّة: لم يُعرَف من تاريخ مجالس التعزِيَة العاشورائيّة لدى شيعة لبنان على امتداد الاحتلال العثمانيّ من 1516م إلى 1918م، سوى أنّها كانت تُقرأُ سرّاً في البيوت؛ بسبب منع العثمانيّين الطائفة الشيعيّة من إقامة شعائرها الخاصّة. واللافت، أنّ المجالس الحسينيّة لم تحظَ بتدويناتِ المؤرّخِين والباحثِين في ذلك العهد، سواء كانوا من الشيعة أم من غيرهم، ربما لاتخاذهم سبيل الحيطة والحذر في التدوين؛ منعاً للتعرُّض إلى المُلاحقة أو الخطر، ولا سِيّما بسبب المنع الشَّديد، الذي كان من مظاهره تِجوالُ الشُّرطة في الأزِقّة والأحياء خلال الأيّام العشرة الأولى من شهر محرّم، في حين لم يكن للمُدَوِّنين من غير الشيعة القدرة على تدوين مُشاهداتِهم؛ بسبب خصوصيّة إقامة المناسبة في ظلّ القمع العثمانيّ. فمُجمَل ما يُمكن تدوينه عن مجالس التعزية، كان من خلال الاستماع الشَّفهيّ المنقول عن الّذين عايَشوا تلك الفترة، وشاركوا في مجالس التعزية وأخبروا عنها، أو كانوا قد سمعوا بالتواتُر عن الآباء الَّذينَ سبقوهم في إحيائها.
2. مجالس المنازل والمساجد: كانت تُقام الشعيرة سرّاً، لكن العامليّين، كانوا يحوّلونها بعض الأحيان إلى مجالس علنيّة، خصوصاً في زمن "ناصيف نصّار" (1715م- 1780م)، الذي حكم جزءاً من بلاد عاملة، حيث كانت تقام عاشوراء في المساجد والمنازل طيلة الأيّام العشرة الأولى من شهر محرّم(1).
يذكُرُ السيِّد محسن الأمين في سيرته، أنَّ المجالس كانت تُقام في عهد طفولته في الرُّبع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان يُقرأ العزاء في اللَّيالي العشرة الأولى من محرّم من كتابٍ ضخمٍ، مؤلِّفُه من البحرين واسمه "المجالس"، وفيه عشرة فصولٍ طويلةٍ، كلّ فصلٍ مُخصَّصٌ لمجلسٍ، وقد كان المشاركون في هذه المجالس يتحادثون وهم يتحلَّقون حول الراوي.
أمّا في اليوم العاشر، فكان يُقرأ العزاء في كتاب "مقتل الحسين عليه السلام" لأبي مخنف؛ وهو من المؤرّخين الأوائل في تاريخ الإسلام. ثمّ تُتلى زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ تُمدّ موائد الطعام في المساجد، وعادةً ما يكون من الهريسة، الخاصّة بيوم عاشوراء. وبعد عودة الشيخ موسى شرارة من العراق عام 1880م، اعتمد كتاب مقتل ابن طاووس، بدلاً عن مقتل أبي مخنف، وأقام مجالس أسبوعيّة في بيته على مدار السنة(2).
3. البروز العلنيّ: في مطلع القرن العشرين، قدِمَت إلى النّبطية عائلاتٌ إيرانيّةٌ هرباً من نظام رضا شاه البهلوي، وبادر أحد الإيرانييّن، ويُدعى "إبراهيم الميرزا" إلى استصدار تراخيصَ من الخارجيّة العثمانيّة في إسطنبول بواسطة القُنصل الإيرانيّ في بيروت، حيثُ سُمح للإيرانيِّينَ فقط بإحياء مراسم عاشوراء، دون اللبنانييّن. لكن في العام 1919م، بدأت هذه المراسيم تُقام بشكلٍ مُشترَكٍ وعلنيٍّ بين الإيرانيِّينَ والأهالي في النبطيّة، ثمَّ أخذ تضاعف العدد؛ ليشمل كلّ شيعة جبل عامل.
وظهرت الندبيّات باللغة الفارسيّة، وأخذت مسيرات "اللطميّة"، يتقدمها إبراهيم الميرزا، تجوب شوارع النبطيّة خلال الليالي التسعة الأولى من شهر محرّم، ثمّ بدأ "تمثيل" مصرع الحسين عليه السلام باللغة الفارسيّة، ومن بعدها باللغة العربيّة عام 1926م(3). وسرعان ما سُمح للإيرانيّين الاحتفاء بعاشوراء في أماكن إقامتهم في جبل عامل، ومنها بلدة جبشيت التي أقامت فيها العائلات الإيرانيّة الشعائر تحت إشراف الشيخ عبد الكريم الزين(4).
* الشعيرة الحسينية في مرحلة التوسّع
اكتسبت الإحياءات هامشاً أكبر من الحريّة في مراحل مختلفة، نذكر هنا:
1. الانتداب: حتّى بداية الانتداب، وباستثناء التمثيل المسرحيّ في النبطيّة، لم يكن قد طرأ على الشعائر تغييرٌ جوهريٌّ، وإنّما ثمّة إضافاتٌ جديدة حلّت بعد انهيار السلطة العثمانيّة، حيث لم تكن دولة الانتداب في وارد منع الإحياءات، ممّا أدّى إلى إحياء المراسم العاشورائيّة وتطوّرها ونموّها بفضل نشاط الأهالي.
2. التمثيل المسرحيّ في جبل عامل: في اليوم العاشر من محرّم عام 1921م، قامت مجموعة من الشباب اللبنانيّ بتمثيل معركة الطفّ في مدينة النبطيّة. وكان نصّ المسرحية قد تُرجم من اللغة الفارسيّة إلى العربيّة عام 1927م، وبقي معتمداً مع بعض التعديلات، حتّى انتقلت التمثيليّة إلى القصيبة عام 1958م في اليوم العاشر من محرّم، ثمّ شهدت قرى أخرى قيام مسرح عاشوراء مثل كفر رمان، ومجدل(5).
وبادر السيّد عبد الحسين شرف الدين قبل عام 1920م إلى تنظيم نصوص الروايات؛ ومع حضور المقرئ محمّد نجيب الزهر عام 1941م، استطاع السيّد أن يجدّد المنابر الحسينيّة، إذ زوّده بالنصوص المناسبة، فدرّب الزهر عدداً من الشباب ليقوموا بمهمّة المقرئين(6).
3. الإحياء في بعلبك: كان الجديد هو حضور الشيخ حبيب آل إبراهيم إلى بعلبك عام 1933م، حيث عهد للشيخ محمّد علي علاء الدين، بتلاوة السيرة الحسينيّة في مسجد النهر في مدينة بعلبك. وكان الحضور يقتصر على كبار السنّ، في حين أنّ فئة الشباب كانت غائبةً بشكلٍ كبير.
وفي الهرمل، سار الشيخ موسى شرارة، على خطى الشيخ حبيب، في حين استمرّ أبناء الشيخ حسين زغيب في إحياء المناسبة عبر التلاوة في بلدة يونين.
بقيت طريقة الإحياء لمناسبة عاشوراء محدودةً، ويعود سببها بلا شكّ إلى الظروف التي مرّ بها الشيعة في العهود العثمانيّة.
* الشيعة والهويّة
هل كان لإحياء مراسم عاشوراء تأثير على الوجود الشيعيّ وهويّته ودوره؟ ثمّة مجموعة نقاط، لا بدّ من ذكرها:
1. عشِيّة 1920م، كان الشيعة لا يزالون يظهرون في صورة جماعات، تتقدّم فيها الصفة الإقليميّة العشائريّة على الصفة الطائفيّة.
2. إزاء خُلوّ الشيعة من المؤسَّسات الدينيّة، ظلّوا يُشكِّلون هويّةً بالمعنى الثقافيّ، وبقيت الشعيرة الحسينيّة تلعب دوراً بارزاً في التعبير عن هذا الانتماء الذي يجري تناقله عبر مؤسّسة العائلة على امتداد التوزّع الجغرافيّ للشيعة، ويتعزّز بإقامة المناسبة للاحتفاء بالشعيرة، ولو كانت إقامتها تعرضّ صاحبها للتضييق والملاحقة والخطر.
3. كانت الشعيرة الحسينيّة لا تزال تضفي على الطائفة خصوصيّتها، ولكنّها لم تتحوّل من المعنى الثقافيّ الخاصّ إلى المعنى السياسيّ العام.
4. كان من وظيفة إقامة الشعيرة الحسينيّة أن تلعب دوراً بارزاً في تأكيد الانتماء لأهل البيت عليهم السلام، وإعادة إنتاج هذا الانتماء الذي يعكس خصوصيّتهُ الشيعيّة، دون انكفاء الشيعة وعزلتهم ضمن طائفتهم عن لبنانيّتهم، إذ رافق الإحياء العلنيّ لواقعة عاشوراء في جبل عامل منذ نهاية القرن التاسع عشر الإحساس بالوحدة الإسلاميّة، الذي عكسته مجلّة "العرفان" منذ تأسيسها عام 1908م، والتي أدرجت في أعدادها العديد من آراء رجالات الشيعيّة ضمّت نُخباً مثقّفة وعلماء دين أمثال الشيخ سليمان ظاهر والشيخ أحمد رضا وأحمد الزين وغيرهم، وراحت تدعو في أعدادها إلى التأكيد على الوحدة الإسلاميّة وعلى التزامها بالقوميّة العربيّة.
5. كان الشيخ موسى شرارة، الذي عكف على تنظيم المجالس العاشورائيّة، يُعَدُّ أباً لحركة التقريب بين السُّنة والشيعة(7).
6. كان السيّد عبد الحسين شرف الدين، الذي تولّى تنظيم إقامة الشعيرة الحسينيّة في صور، يُظهر نزوعاً شديداً نحو تأكيد الوحدة الإسلاميّة في معاني كربلاء، فهو وإن انبرى إلى إبراز شرعيّة الاحتفالات الحسينيّة إزاء مآخذ رجال الدين السُّنّة، راح يجهَد في تفسير وظائف هذه الشعائر بوصفها تُتيح لرجال الدين إلقاء مواعظِهم ونصائحهم على المؤمنين لإعلامهم بقضايا الجماعة، بالإضافة إلى أنّ هذه الشعائر تُشكِّل صرخة الإسلام العليا، وليس التشيّع فحسب، فتوقظ النائم من سباته، وبذلك، يكون القرّاء في المجالس هم المبشّرين بالإسلام.
7. أخذ السيّد شرف الدين منذ بداية عهد الانتداب على عاتقه الرأي الشائع، القائل بأنّ سبب انقسام المسلمين كان سياسيّاً. ولذا، كان قد أعلن في خطابٍ ألقاه في أحد المساجد السُّنّيَّة في بيروت عام 1921م: "لا تقولوا بعد اليوم هذا سنّيّ وهذا شيعيّ، بل قولوا هذا مسلم". وكان السيد شرف الدين داخل المناخ السياسيّ الذي ساد في بداية الانتداب، حيث اتّحد الوطنيّون من سنّة وشيعة في مواجهة الانتداب وقد رفضوا وصاية فرنسا عليهم؛ ولذلك، لم يخصّص في خطابه ما يرتبط بعقائد الشيعة، بل اكتفى بتعدّد الأركان الجامعة بين عقيدَتي الفريقين(8).
(1) عبّاس حسن وهبي، النبطيّة في الفلكين، المحليّ العامليّ والإقليميّ، ج 1، ص 601.
(2) صابرينا ميرفان، حركة الإصلاح الشيعيّ، [ترجمة هيثم الأمين]، ص 293.
(3) عبّاس حسن وهبي، مصدر سابق، ص 600.
(4) المصدر نفسه، ص 602.
(5) زاهدة ياسين، تطور وظيفة مجالس العزاء الحسينيّ في منطقة النبطيّة بين عامي 1905م – 2005م، بحث لنيل شهادة الدبلوم في علم الاجتماع، (الجامعة اللبنانيّة، 2006م)، ص 27.
(6) صابرينا ميرفان، مصدر سابق، ص 327.
(7) المصدر نفسه، ص 339.
(8) المصدر نفسه، ص 333.