نهى عبد الله
"هذه آخر نقطة تصل إليها السيّارة، سنكمل الطريق سيراً على الأقدام" هكذا أخبر الحاج أبو محمد زوجته ليترجل وإيّاها ويسيرا نحو قريتهما، حالهما حال الجنوبيّين الذين سارعوا إلى القرى لتحريرها من العدوّ وليُسكنوا شوق قلوبهم إلى ودائع أبنائهم وإخوانهم وآبائهم. بعد ساعات طويلة من السير المنهك والخطر المُحدق، أشار إليهما أحد أصدقاء محمّد، إلى حيث كانت مجموعته. تقدّمت أمّ محمّد فرأت حفرةً عميقة، اجتمع الناس حولها وبدأوا الحفر.
لم تحدّث أحداً أنّ الحفرة تذكّرها بأخرى رأتها في منامها، ورأت محمّداً جالساً على سجادته أسفلها، ثمّ لوّح لها بيده مبتسماً: "هياني هون". لم تحدّث أحداً، فالكلّ يعلم أنّه هنا. لكنّ قلبها حدّثها: "ليس بالأسفل". وحيث وقفت انقبض قلبها، تراجعت قليلاً ومن دون تفكير خلعت حذاءيْها، وقالت: "اخلعوا الأحذية، نحن نطأ تراباً تحته جثامين طاهرة"، جلست مكانها على شفا الحفرة، ما زال قلبها مضطرباً لكنّه يمعن في الحديث معها، فيما يشرح صديقه وهو آخر من تكلّم معه، أكّد لهم في الدقائق القليلة قبل القصف، كان محمدٌ يهمّ بصلاة ركعتي الغفيلة قبل صلاة العشاء، على أن ينهي صلاته ويلتحق به خارج المكان، إذاً هو في عمق الحفرة، لكنّ قلبها مصرٌّ على توجيهها إلى مكان آخر. بهدوء ورويّة أخذت يدها تقلّب التراب بجانبها بخفّة، عطر فردوسيّ فاح وأخذها لآخر لقاء جمعها بمحمّد، أخذ سجّادة صلاة خضراء، كانت لأخيه الشهيد علي؛ اختارها لخفّة وزنها، يومها اعترضت قائلةً: "هي تحمل رائحة أخيك" فأجابها مبتسماً ابتسامته العريضة مع قهقهة خفيفة: "ميسّرة، هيك بتصير فيها ريحتي وريحتو سوى". شراشب خضراء ظهرت من تحت التراب قطعت تفكيرها، بحثت التراب أكثر، عرفتها، فاح عطرها أكثر، إنّها هي، نادت: "ابني هنا". نبشوا التراب بدقّة ليظهر جثمانه، مستلقياً على السجادة، وقدماه مثنيّتان، ظهر مستشهداً وهو في حال صلاة.
وقد تحقّق ما تمنّاه، فالسجادة الخضراء ما زالت عابقةً بمسك شهادته وأخيه حتّى الآن.
الشهيد على طريق القدس محمد إسماعيل (حيدر)