الشهيد السيّد عبد الحسين دستغيب قدس سره
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: "وأنّ الراحل إليك قريب المسافة، وأنّك لا تحتجب عن خلْقِكَ إلّا أن تحجبهم الأعمال دونك"(1)؛ فطريق الله هو طريق القلب، ولا شكّ في أنّ المخلوق الذي يعبد مولاه ويكون على اتّصال دائم به، فإنّ خالقه أقرب إليه من كلّ أحد ومن كلّ شيء، وإنّما هي الأعمال والآمال التي تزرع الحُجُبَ بين الله وعباده وتمنعهم من رؤيته ومعرفته.
* من أسباب العُجْب
1. شعور الإنسان بالاستقلال عن الله: يجب أن يُعلم أنّ الإنسان ما دام يعدّ نفسه مستقلّاً ولا رقيب عليه ولا يرى في عالم الوجود إلّا نفسه، فلن يستطيع أن يخطو خطوةً واحدةً في عالم المعرفة. وعندما يدرك بنور عقله عدم استقلاله، سيزول عن نور فطرته الحجاب الأعظم، وسيعرف ربّه بكلّ وضوح ويرجع إليه. وما دام الإنسان يعيش في عالم العُجْب محجوباً عن عالم المعرفة، فإنّه لن يهتدي طريق النجاة.
2. اتّباع الهوى والأماني الكاذبة: بشكلٍ عام، فإنّ اتّباع الهوى، والسعي وراء الأماني الشيطانيّة، والإفراط في اللذّة الحيوانيّة كالتخمة، والإكثار من النوم، والثرثرة، هي عموماً حجب تغطّي نور الفطرة الإنسانيّة، وتجعل الإنسان في غفلة عن الله، وتسبّب مرض القلب والنفس. وإذا تسبّب الإفراط في بعض هذه الأمور بضرر البدن ضرراً يعتدّ به العقلاء فهو حرام وإلّا فمكروه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة"(2)؛ فعندما تكون النظرة الحرام سهماً مسموماً من سهام الشيطان يصيب قلب الناظر ونفسه، فما هو حال الذنوب الأكبر والأشدّ يا ترى؟ وكيف يستطيع أن يرى الحقّ ويعرف الله؟ اللهم إلّا إذا شملته العناية الإلهيّة، ونَدِم على ما فعل وتحسّر، عندها، تحرق نار الحسرة الحجب التي اكتنفت قلبه.
باختصار، إنّ كلّ ذنب يرتكبه الإنسان، حتّى إذا كان صغيراً، فإنّه يغطّي من نور فطرته ويحجب معرفته بالله ويبعده عنه سبحانه، يقول تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين: 14–15).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان أبي عليه السلام يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة. إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله"(3)؛ وإذا أصبح أعلى القلب أسفله فلا يستقرّ فيه حقّ أبداً ولا يقبل نصيحة ولا يعترف بحقيقة.
* علاج العُجْب
1. التفكير في الضعف وعدم الاستقلال: على الإنسان أن يفكّر باستمرار في مسكنته وضعفه وعدم استقلاله (في الذات والصفات والأفعال)، ويعود بتفكيره إلى الوراء، ويتذكّر حالاته الأولى حين كان ذرّات متناثرة في العناصر، ثمّ انتقل إلى صلب الأب ورحم الأم، ثمّ إلى المهد، وحتّى بلوغه الرشد، ثمّ يفكّر في مستقبله ويتدبّره بدقّة حتّى ساعة الموت وما بعده، حين يصبح مرّة ثانية تراباً وذرّات متناثرة كما كان أوّل مرّة: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (طه: 55).
عندها، يرجع إلى نفسه في حالته الفعليّة ويتأمّل فيها وكيف أنّ حياته وموته وسلامته ومرضه وقدرته وعجزه وشبابه وهرمه وعزّته وذلّته وذاكرته وفهمه وجميع شؤونه، كلّ ذلك ليس بيده ولا باختياره.
لذلك، يجب أن يدرك المعجب بنفسه ضعفه وقصوره من كلّ الجهات، وكلّما تقدّم على طريق الإقرار بعجزه ونقصه، كلّما أصبح مهيّأً أكثر فأكثر لمعرفة خالقه وعلمه وقدرته غير المحدودَين.
2. معرفة النفس ومعرفة الله: فسّر جماعة من المحقّقين الحديث النبويّ المشهور "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"(4) بأنّ من عرف في نفسه الحدوث والفناء والزوال، فقد عرف في الله القِدم والبقاء والدوام، ومن عرف في نفسه الضعف والعجز والجهل، فقد عرف في ربّه القدرة والاستطاعة والعلم بلا حدود، ومن عرف أنّه مخلوق مربوب مرزوق، فقد عرف في ربّه الخالقيّة والربوبيّة والرازقيّة، وهكذا.
وبعد التأمّل والتدقيق، يتّضح أنّ هذا صحيح لا جدال فيه، إذ إنّ العاقل عندما يعلم أنّ وجود بدنه ونفسه ورزقه وتدبيره ليس منه أو من شخص آخر مثله، يتيقّن أنّ خالقه ومدبّره ومربّيه وربّ جميع أجزاء العالم ومدبّرها، هو الله سبحانه لا غير.
من أراد أن يتعمّق في معرفة الله، يجب أن يفكّر في هذه النقطة السالفة الذكر كثيراً، ومن المفيد لهذا الهدف قراءة مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام والتأمّل في معانيها(5).
* الملهيَات تصرفنا عن ذكر الله
إذا نظرنا في أحوال مجتمعنا اليوم، نعلم أنّ البُعد عن الله وعدم الإيمان المخيّمَين على المجتمعات البشريّة ليس لهما من سبب إلّا إشاعة الفحشاء والمنكرات واتّباع الشهوات وأنواع الملاهي، بحيث يصبح همّ الناس الحصول على مستوى مترف من العيش مليء بالكماليّات والتجمّلات والنفع والادّخار وحبّ الجاه، ويبذلون جهوداً مضنية من أجل الوصول إلى أهداف دنيويّة زائلة.
إنّهم فرحون مغتبطون عندما يحقّقون رغبة مادّيّة، ومحزونون موَلولون عندما يصيبهم مرض دنيويّ، يتذكّرون كلّ شيء إلّا الله، يبذلون الجهد ويتحمّلون المشقّات للحصول على رغباتهم المادّيّة، أمّا في مجال المعنويّات فكأنّهم لا علم لهم بها، تراهم يشْكون لفقد أيّ شيء، إلّا لفقدهم صفات الإنسانيّة، يجتنبون كلّ خطر ويفرّون منه، إلّا خطر الذنب والضرر الأخرويّ، تراهم متيقّظين حذرين في ما يتعلّق بزيادة ثروتهم وممتلكاتهم الدنيويّة، ولكنّهم غافلون تماماً عن ثروتهم الأبديّة ورأس مالهم الحقيقيّ الذي هو الإيمان، إنّهم لا يفكّرون به أبداً ولا يخشون نهائيّاً أن يقلّ ويتضاءل، وأن يموتوا غير مؤمنين.
حقّاً إنّ أحوال الناس اليوم كما وصفها أمير المؤمنين عليه السلام: "وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، ولا الشرّ فيه إلّا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أوان قد قويت عدّته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته (أي استسلم الناس لاصطياد الشيطان لهم بحيث إنّه يصطادهم بكلّ يسر)، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلّا فقيراً يكابد فقراً (أي فقيراً لا يصبر على فقره)، أو غنيّاً بدَّل نعمة الله كفراً (أي أن الغنيّ لا يؤدّي حقّ شكر النعمة بأن يصرف ماله في مرضاة الله على الفقراء، بل يصدر منه ما يدلّ على كفران النعمة)، أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً (اتّخذ البخل طريقاً لزيادة ثروته)، أو متمرّداً كأنَّ بأُذُنِهِ عن سمْع المواعظ وقراً"(6).
فليُعلم ممّا تقدّم، أنّ أهمّ عقبة تحول بين العبد وربّه هي العجب واتّباع الهوى والنزوات، بل جميع الذنوب الجسميّة والقلبيّة حجب وعقبات تمنع القلب من معرفة الله، فحذارِ منها.
* مقتبس من كتاب القلب السليم، ص 199 - 206.
1- الصحيفة السجاديّة، ص 215.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج20، ص191.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 268.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج2، ص32.
5- إليك بعض فقراتها: مولاي يا مولاي، أنت الحيّ وأنا الميّت وهل يرحم الميّت إلّا الحيّ، مولاي يا مولاي، أنت الباقي وأنا الفاني وهل يرحم الفاني إلّا الباقي، مولاي يا مولاي، أنت الدائم وأنا الزائل وهل يرحم الزائل إلّا الدائم، مولاي يا مولاي، أنت الرازق وأنا المرزوق وهل يرحم المرزوق 6- إلّا الرازق (مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمّي، ص 594).
7- نهج البلاغة، ج 2، ص 12.