الشهيد مرتضى مطهري قدس سره
من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه:
"إن الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جنّة أوقى منه، ولا يَغدِرُ من علم كيف المرجِع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثرُ أهلِه الغدر كيْساً ونسبَهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم؟ قاتلهم الله! قد يرى الحوّلُ القلبُ وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"(1).
يتحدّث الإمام عليه السلام في كلامه وخطبه عن منهجه في الإدارة والحكم وسياسته في ذلك، رغم أنها لم تجد تفهّماً من قبل أهل الرأي آنذاك فضلاً عن عامّة الناس.
ولقد عايش الإمام عليه السلام ظروفاً عصيبة أحاطت به قبيل وبعد تصدّيه للخلافة وواجه مشاكل عديدة وقضايا معقّدة كمصرع عثمان ومسألة التحكيم، فكانت الأولى ذريعة لأهل الجمل وصفين، وكانت الثانية ذريعة للخوارج.
*منطق عليّ عليه السلام
وفي هذا البحث سنشير إلى موضوعين أو اقتراحين تقدم بهما بعض أصحابه بنوايا حسنة، ولكن منطق علي عليه السلام ومنهجه كانا يرفضان ذلك.
1 - مسألة العطاء: لقد أقدم الإمام عليه السلام على إلغاء جميع الامتيازات التي كانت تفرّق بين العرب والموالي؛ وبين السادة والعبيد؛ وبين القرشيّ وغير القرشيّ. وعندما اعترض بعض المتضررين، واقترح بعض آخر العودة إلى السياسة القديمة في العطاء عن حُسن نيّة، ردّ الإمام عليه السلام مستنكراً: "أتأمروني أن أطلُبَ النصر بالجَور فيمن ولّيت عليه؟ والله لا أطور به ما سمر سمير". ثم قال عليه السلام : "لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف وإنما المال مال الله"(2).
وبالرغم من إدراك الإمام عليه السلام أنّ ذلك سوف يضعف مركزه السياسي إلا أنّه كان يقول: "ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله"(3).
ثم يستخلص الإمام عليه السلام نتائج ذلك قائلاً: "ولم يضع امرؤ ماله في غير حقّه ولا عند غير أهله إلّا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودّهم، فإن زلّت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خليل وألأم خدين"(4).
*عقيل يطلب سداد دينه
وقد ذكر التاريخ أن عقيلاً قدم على أمير المؤمنين عليه السلام وكان قد كفّ بصره، فرحّب به الإمام ثم التفت إلى ابنه الحسن وقال: "قم فأنزل عمك، ثم أمره بأن يشتري له قميصاً أداءً؛ فلما حضر العشاء فإذا خبز وملح، فقال عقيل: ليس إلا ما أرى؟ فقال الإمام: أوليس هذا من نعمة الله وله الحمد كثيراً؟! فقال عقيل: أعطني ما أقضي به دَيني وعجّل سراحي حتى أرحل عنك فقال: فكم دينك يا أبا يزيد؟ فقال: مائة درهم، قال: لا والله ما هي عندي ولا أملكها، ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فأواسيكه، لولا أنه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كله، فقال عقيل: بيت المال في يدك وأنت تسوّفني إلى عطائك؟ وكم عطاؤك؟ وما عساه يكون ولو أعطيتنيه كله؟ فقال: ما أنا وأنت إلا بمنزلة رجل من المسلمين. وكانا يتكلّمان فوق قصر الإمارة مشرفَيْن على صناديق أهل السوق، فقال له علي: إن أبيتَ يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه، قال: وما في هذه الصناديق؟ قال: فيها أموال التجار، قال: أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكلوا على الله وأقفلوا عليها؟ وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا معاً إلى الحيرة فإنّ بها تجاراً مياسير، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله، فقال: أوَسارقاً جئت؟ قال: تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً"(5).
ويقول الإمام عليه السلام في كتابه إلى أحد عماله: "وبؤساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والســـــائـلون والمدفوعــون والغارم وابن السبيل... وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأئمة"(6).
2 – مسألة كراهية الغدر والمراوغة: وأما ما يتعلق بالموضوع الآخر فهو عدم اعتماد المراوغة والخداع والدجل في السياسة بعيداً عن روح الصدق والصراحة والوفاء، كما يفعل خصمه معاوية الذي وظّف المكر والخديعة والكذب في سبيل تحقيق أهدافه، حيث لم يتورع عن استخدام أقذر الوسائل للوصول إلى مراميه.
وهكذا أصبح منهج الإمام علي عليه السلام في السياسة والحكم ومنهج معاوية أساساً للمقارنة، حيث تأسّف بعضهم آنذاك وهم يرون معاوية يحقق بعض النجاح في حين كان الإمام يخسر بعض المواقع؛ ولذا فقد كانوا يتمنّون لو أنّ علياً عليه السلام اعتمد الطرق الملتوية نفسها التي سلكها معاوية بن أبي سفيان.
لقد كان الإمام عليه السلام يدرك تماماً ما يدور من همس بهذا الشأن، ولذا فقد كان يتحدث باستمرار عن منهجه السياسي والإداري مدافعاً عن القيم التي ينطلق منها في ترتيب مواقفه قائلاً:
"والله ما معاوية بأدهى منّي ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة"(7).
ثم يعلن رأيه في ذلك قائلاً: "والله ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشدة".
*الحق أساس
وهكذا فإن الاختلاف بين الأهداف يعكس أثره على الوسائل، فالأهداف السامية تحقّقها الوسائل السامية، والأهداف الرخصية تستلزم السبل الرخيصة. وهذا ما نجده واضحاً في الأوامر العسكرية التي صدرت عنهما حيث يظهر التناقض بين الشخصيتين في كل الجوانب. فهذا علي بن أبي طالب عليه السلام يزود ويوصي طلائع الجيش المؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل قبل أن تتحرك بقيادة معقل بن قيس الرياحي قائلاً: "اتَّقِ الله الذي لا بد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه"(8). ثم يوصيهم بضبط النفس وتجنّب القتال ما أمكن ذلك قائلاً: "ولا يحملّنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم"، فليست هناك عداوة شخصية، وليست هناك حرب من أجل المصالح، إنّما هو الحق فقط أساس الصراع. أما معاوية فإنّ تعليماته العسكريّة لتنضح دمويّةً وإرهاباً وسفكاً للدماء وهتكاً للأعراض من أجل تحقيق الأهداف بأيّ ثمنٍ كان، فها هو يوصي بسر بن أرطأة أحد قادته الدمويين قائلاً: "سِر حتى تمر بالمدينة فاطردِ الناس وأَخِف من مررت به وانهب أموال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن في طاعتنا"(9).
*لا يقتلنّ بي إلّا قاتلي
هكذا كان معاوية ينشر الخراب والدمار ويحرق القرى ويقتل ويسفك الدم الحرام في سبيل أهدافه الدنيئة. ولقد وظف جميع الوسائل في ذلك وأقدم على اغتيال العديد من الشخصيات أمثال مالك الأشتر النخعي وعبد الرحمن بن خالد وغيرهما، واشترى ذمم العديد من الزعماء مبذّراً أموال المسلمين؛ في حين كان الإمام يعيش في شظف من العيش وكان هدفه تحقيق العدالة وإرساء قواعد الحكم الإسلامي حتى استشهد عليه السلام ، بل حاول أن يستمر العدل حتى بعد رحيله عن هذه الدنيا؛ فقد جمع بني عبد المطلب وهو على فراش الموت، وقال عليه السلام لهم: "يا بني عبد المطلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتل أمير المؤمنين. ألا لا يُقتلن بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة"(10).
وقبل أن يودع الدنيا خلّف للأجيال وصيته المقدسة التي عكست روحه الكبيرة وسياسته والأهداف التي جاهد من أجلها. يقول عليه السلام : "أوصيكما (الحسن والحسين) وجميع ولدي وأهلي ومَنْ بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدكما صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام... وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم أشراركم ثم تَدْعُون فلا يستجاب لكم"(11).