تحدّثنا في العدد السابق أنّ من جملة المسائل المطروحة في مسألة المهدوية أنّ تحقّق الظهور يتأثّر بعمل الناس واستعدادهم لتوفير أسبابه. وذكرنا الآيات القرآنية التي تحدّثت عن تأثير البشر في ظهور المنجي الإلهي. ونستكمل في هذا العدد الروايات والأدلّة العقلية أو الكلامية الدالّة على ذلك.
*المبادئ الروائية لاختيارية الظهور
بالإضافة إلى الآيات الشريفة، تدلّ الروايات على اختياريّة الظهور، حيث يمكن تصنيفها في عدّة محاور عامة أبرزها:
1- وجوب الدعاء للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف: يتحدث العديد من الروايات عن وجوب الدعاء للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف . يشير يوسف بن عبد الرحمن إلى أنّ الإمام الرضا عليه السلام كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا الدعاء: "اللهمّ ادفع عن وليّك وخليفتك وحجّتك على خلقك ولسانك المعبّر عنك..."(1).
2- الثواب الكبير للمنتظرين: تحدّث بعض الروايات حول ثواب المنتظرين فاعتبر عِدّة أضعاف ثواب المجاهدين في بدر وأُحُد. وقد أكّدت إحدى الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ قوماً سيأتون، يكون للشخص منهم أجر خمسين شخصاً من الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بدر وحنين. وأما تشبيه أصحاب المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بمجاهدي صدر الإسلام، فهو لأنّ مرحلة صدر الإسلام كانت مرحلة الغربة، حيث هجوم الكفّار، وكثرة عددهم، وقلّة المؤمنين وندرة الإمكانيّات المتوفّرة بين أيديهم، ولأنّ المسلمين في صدر الإسلام قد قبِلوا الإسلام بإرادتهم واختيارهم، وهكذا هم منتظرو الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف .
3- فيما يتعلق بزمان الظهور: هناك نوعان من الروايات فيما يتعلّق بزمان الظهور:
أ- الروايات التي حدّدت زماناً خاصاً للفرج. فعن أبي حمزة الثمالي قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: يا ثابت إنّ الله تبارك وتعالى كان قد وقّت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قُتل الحسين عليه السلام اشتدّ غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى الأربعين ومائة، فحدّثناكم، فأذعتم الحديث، وكشفتم قناع السر فلم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً"(2). يظهر من هذه الرواية أنّ المقصود من الفرج، فرج الشيعة وليس فرج البشرية، على أساس أنّ الرواية أشارت إلى مقتل الإمام الحسين عليه السلام . وفي هذا أيضاً إشارة إلى اختيارية الظهور، لأن مساعدة الناس كانت تقتضي حصول الفرج في زمان معين، ولكن عدم مساعدة الناس، أدّى إلى التأخير فيه.
ب- الروايات التي نهت عن تعيين زمان خاص للظهور. عن عبد الرحمن بن كثير قال: "كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه مهزم فقال له: جعلت فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر، متى هو؟ فقال: يا مهزم كذب الوقّاتون وهلك المستعجلون ونجا المسلمون"(3). تحكي هذه الروايات عن أن الثورة العالمية ليس لها زمان دقيق ومشخّص، بل هي متوقفة على حصول شروط ومقدّمات عالمية واسعة، وهذا أمر إرادي واختياري.
4- حرمة التسمية: نهى العديد من الروايات عن ذكر اسم الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وأمر بذكر أوصافه كالقائم والحجّة حتى لا يُعرف فيُقتل.
عن أبي خالد الكابلي قال: "لما مضى علي بن الحسين عليه السلام دخلت على محمد بن علي الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك وأنسي به ووحشتي من الناس.
قال: صدقت يا أبا خالد تريد ماذا؟
قلت: جعلت فداك قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفة لو رأيته في بعض الطرق لأخذت بيده.
قال: فتريد ماذا يا أبا خالد؟
قال: أريد أن تسميه لي حتى أعرفه باسمه.
فقال: سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد ولقد سألتني بأمر ما كنتُ محدثاً به أحداً ولو كنتُ محدثاً به أحداً لحدّثتك ولقد سألتني عن أمر لو أن بني فاطمة عرفوه حرصوا على أن يقطعوه بضعة بضعة"(4).
5- التأكيد على إخفاء المكان: نهى الكثير من الروايات عن إفشاء مكان حياة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف .
عن أبي عبد الله الصالحي قال: "سألني أصحابنا بعد مضي أبي محمد عليه السلام أن أسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: إن دللتهم على الاسم أذاعوه وإن عرفوا المكان دلّوا عليه"(5).
6- رفاق الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف : يشير بعض الروايات إلى أن للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته رفاقاً. يتحدث أبو بصير ناقلاً عن الإمام الصادق عليه السلام أن مع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته ثلاثين شخصاً، ففي الرواية: "لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة ولا بدّ له في غيبته من عزلة ونِعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة"(6).
7- الذنوب تمنع رؤيته: يشير العديد من الروايات إلى أن أعمال العباد هي سبب عدم رؤيته. مثال ذلك ما جاء في الرواية: "... ولو أن أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم..."(7).
8- صفات أصحاب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف: يحدّث العديد من الروايات حول صفات أصحاب المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ومنها الرواية التي نقلها الإمام الباقر عليه السلام عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "إنّكم أصحابي، وإخواني قوم في آخر الزمان آمنوا ولم يروني... لأحدهم أشد بقية على دينه من خرط القتاد في اللّيلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى، ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة"(8).
الواضح من الرواية أن أصحاب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف أشخاص يقاومون الانحرافات ويلتزمون الدين وهذا عمل اختياري، وما لم يأتِ هؤلاء الأشخاص، لن يكون هناك ظهور.
*المبادئ العقليّة لاختيارية الظهور
قبل دراسة علل الغيبة من جهة كلامية، من الضروري الالتفات إلى عدة نقاط:
1- تعريف اللطف: اللطف هو ما يقرب العبد من الطاعة ويبعده من المعصية.
2- وجوب اللطف على الله: اللطف واجب على الله تعالى لأن الله تعالى، وبناءً على الفرضيّات المتقدمة، حكيم له هدف من خلق الإنسان، والإنسان عاجز عن معرفة الهدف من دون الله، ومن هنا فالواجب على الله تعالى تهيِئة مقدّمات وصول الإنسان إلى هدف الخلق.
3- تنصيب الإمام لطف: إن وجود الإمام هو من أدوات هداية الإنسان بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . لذلك يجب على الله تعالى تنصيب الإمام. من جهة أخرى، يكتمل هذا اللطف عندما تصبح إدارة المجتمع بأيدي الإمام.
يقول الخواجة نصير الدين في هذا المجال: "وجوده لطف وتصرفه لطف آخر وعدمه منا". ويعلّق العلاّمة الحلّي في ذيل العبارة ويقول: "نقول لطف الإمامة يتم بأمور منها ما يجب على الله تعالى وهو خلق الإمام، وتمكينه بالتصرف، والعلم، والنص عليه باسمه ونسبه وهذا قد فعله الله تعالى ومنها ما يجب من الإمام وهو تحمّله للإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله الإمام، ومنها ما يجب على الرعية وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله وهذا لم يفعله الرعية فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام"(9).
* تصنيف الأولويات
إنّ لكلّ ظاهرة في الفكر الديني قيمة خاصة. وبعبارة أخرى عند تصنيف الأشياء فإن من الضروري رعاية الأولويات، فيما يتعلق بحضور الإمام في إدارة المجتمع. فإذا لم يدافع الناس عن حضوره وإدارته، لا يتحقق ظهوره، أما إذا كان الناس مستعدين، فيحقق عندها حضوره وظهوره كنتيجة. فقد اختار الإمام علي عليه السلام السكوت لمدة 25 سنة بسبب عدم تعاون الناس. يقول الإمام علي عليه السلام : "فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا"(10).
كما أن الإمام عليه السلام بيّن أنّ حضوره في إدارة المجتمع معلول لاستعداد الناس. يقول الإمام عليه السلام : "لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ الله عَلَى الْعُلَمَاءِ، أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!"(11).
أما المبدأ الكلامي في اختيارية الظهور، فإن الثورة واجبة على الإمام عند وجود الشروط ومن جملة هذه الشروط استعداد الناس وهو أمر اختياري.
يظهر من خلال دراسة الآيات القرآنية الشريفة أن الإنسان مسؤول عن سلوكه وعن الأحداث التي تجري من حوله وأن كل تغيير في حياة المجتمع معلول لعمل الإنسان. وظهور المنجي من جملة الظواهر التي ستحصل في المجتمع وهي غير مستثناة من القاعدة. ما لم يستعد المجتمع العالمي لذاك التحوّل وما لم يظهر أشخاص مضحون يهيّئون بتضحيتهم مقدّمات ذاك التحوّل، فلن تحصل تلك الثورة.
1- مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص409.
2- الكافي، الكليني، ج1، ص368.
3- الوافي، الكاشاني، ج2، ص427.
4- الغيبة، النعماني، ص300.
5- الوافي، م.س، ص403.
6- الكافي، م.س، ج1، ص340.
7- بحار الأنوار، المجلسي، ج52، ص177.
8- م.ن، ج52، ص124.
9- عشق المراد في شرح تجريد الاعتقاد، (تحقيق الزنجاني)، العلامة الحلي، ص389.
10- نهج البلاغة، الخطبة 10.
11- م.ن.