الشيخ نبيل أمهز
يقول الله تعالى في القرآن الكريم عن لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ (الشعراء: 84)؛ ولسان الصدق الذي ظهر في الآخرين هو ولاية عليّ عليه السلام يومَ الغدير بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمام جموع الحجيج الذين بلغ عددهم عشرات الآلاف، ولم يتخلّف عن ذلك الجمع إلّا من بقيَ في مكّة من أهلها، فيما البقيّة وقفوا ذلك الموقف وشَهِدوا المشهد الأعظم والأكبر.
* خصوصيّات التبليغ
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67)؛ فهذا التبليغ الذي حُصِرَ فيه تبليغ الرِسالة وعِصمة الله تعالى مِن كلّ مَن ينقلب على الحقّ، الذي ظهر في يومٍ خاصّ، له خصوصيّاته التي لا توجد في أيّ واقعة أخرى:
أوّلاً: وُصِف ذلك اليوم بصفات الإكمال للدين والإتمام للنعمة والرضى الإلهيّ بالإسلام. ما أعظمها لو تدبّرنا المراد الإلهيّ الذي لم يكن ليوم كما هو ليوم الغدير!
ثانياً: تحديد مكانة هذا الأمر من الرسالة، أنّه إن لم يُبلّغ، فكأنما لم تُبلّغ كل الدعوة الإلهية، ولذهبت جهود النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ هذا البلاغ الأخير هو صمام أمان الرسالة.
ثالثاً: ثمّة تهديد إلهيّ لِمَن يُضمِر التفلت من تبليغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولمن يختلق الأعذار الواهية، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67).
رابعاً: لقد أُعلن التبليغ بالولاية، بعد أداء أهمّ عبادة توحيديّة خالصة لله تعالى، على الملأ وبكلّ صراحة وبيان جليّ لا يشوبه أيّ تشويش حتّى قام من قام مهنّئِاً: "بَخٍ بَخٍ لك يا أبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كلِّ مسلم ومسلمة". و(بَخٍ) اسم فعل للتعظيم، كان العرب -وما زالوا- يستعملونه للإعجاب والرضى والمدح والفخر.
* الغدير في كتب المذاهب الأخرى
إنّه يوم الثامن عشر من ذي الحجّة لِعام حجّة الوداع، والمكان في مفترق طرق الحجّاج عند غدير يُعرف بغدير خُمٍّ. وهناك، وقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أعواد وأخذ بيد عليّ عليه السلام ورفعها. والحديث على اختلاف في ألفاظه واتّحاد في المعنى منقول بطرق كثيرة وبالنصّ الذي نقله في سنده رجال الصِحاح كالبخاري ومسلم، والطعن في السند طعن في رجال الصِحاح.
ورد في كتاب النهاية لابن الأثير: "لمَّا أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليّ بن أبي طالب، وقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. فقال: مَن كُنت مولاه فعليٌّ مولاه، فنهض عمر بن الخطاب وقال: بَخٍ بَخٍ لك يا أبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم ومسلمةً(1). ويُذكر في أمالي الشيخ الصدوق قدس سره: "فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: 3)"(2).
وفي كتاب تاريخ دمشق بالسند إلى أبي هريرة: "لمَّا أخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليّ، فقال: ألست وليّ المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: 3)"(3). هذه أمّهات الروايات في هذا المضمار، والتي لا ينكرها إلّا مَن لا باعَ له في الحديث، أو متعصّب يحيد عن انتظام العدل.
* حقُّ يومِ الغدير
يجب تعظيم هذا اليوم كما عظّمه الله تعالى بجعله اليوم الذي تمَّ فيه الإكمال والإتمام والرِضى، وهذا ممّا جعله أعظم وأكبر من يوم الجمعة والفطر والأضحى، وجعل فيه من الأعمال الاختياريّة الولائيّة على سبيل الاستحباب، منها ما حَدَّث الشيخ الطوسي به في كتاب مِصباح المُتهجّد: روى زياد بن محمّد قال: "دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والفطر والأضحى؟ قال: نعم، اليوم الذي نَصَّبَ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أميرَ المؤمنين عليه السلام، فقلت: وأيّ يوم هو يا بن رسول الله؟ فقال: وما تصنع بذلك اليوم والأيّام تدور! ولكنّه لثمانية عشر من ذي الحجّة، ينبغي لكم أنْ تتقرّبوا إلى الله تعالى بالبرّ والصّوم والصَّلاة وصلة الرحم وصلة الإخوان، فإنَّ الأنبياء كانوا إذا أقاموا أوصياءهم فعلوا ذلك وأمروا به"(4).
وفيه عن الحسن بن راشد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت: جُعلت فداك، للمسلمين عيدٌ غير العيدين؟ قال: نعم، يا حسن أعظمها وأشرفها، قال: قلت له: وأيّ يوم هو؟ قال: يوم نُصِبَ أميرُ المؤمنين فيه عَلَماً للناس، قلت له: جُعلت فداك، وما ينبغي لنا أن نصنع فيه؟ قال: تصومه يا حسن وتكثر الصَّلاة على محمّد وآله فيه، وتتبرّأ إلى الله ممّن ظلمهم، فإنَّ الأنبياء كانت تأمر الأوصياء باليوم الذي كان يُقام فيه الوصيّ أن يُتّخذ عيداً، قال: قلت: فما لِمن صامه؟ قال: صيام ستّين شهراً"(5).
وروايات كثيرة عظيمة الشأن في مستحبّات هذا اليوم وإعظامه، والتي شدّدت على بعض الأعمال:
- فالصيام: لبيان إعظام الحُرمة والإخلاص لله تعالى والتعلّق بأوامره.
- والغسل: للتطهير الظاهريّ والتزيّن عند باب هذا اليوم الزمانيّ، والذي هو مظهر للطهارة الباطنيّة عن التعلّق بغير الوليّ.
- والعبادة بالصَّلاة الخاصة لهذا اليوم: لإعلان البيعة.
- والأدعية المأثورة: ومنها دعاء الندبة، من أجل تجديد البيعة والعهد بالولاية في محضر الله تعالى، وإن أمكن الزيارة في محضر ومشهد أمير المؤمنين عليه السلام عن قُرب، وإلّا فأينما كان الموالي.
- والمصافحة والإخاء بين أهل الولاية: كما في المستدرك ومفاتيح الجنان، وهذا إحياء للمؤاخاة التي وقعت بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام في المدينة المنوّرة، يوم اتّخذ الرسول عليّاً أخاً ولم يؤاخِ غيره أحداً.
* يوم الغدير امتداد ليوم الظهور
إنّ كلّ هذا الإعظام ليوم الغدير إنّما هو امتداد لدور الولاية ومظهر الخلافة المستمرّة إلى يوم الظهور الموعود، الذي به تُرفع راية العدل والحقّ ويعمّ الخير والقسط، ليتحقّق الوعد الإلهيّ بالخلافة الكبرى في هذه الأرض مركز الخليفة ودائرة الكمال الإنسانيّ؛ فالأخوّة، والترابط، واجتماع القلوب في يوم الغدير، وتجديد البيعة والعهد، والوقوف على حُرمة هذا اليوم هي الداعي إلى تعجيل ظهور صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي به يتجدّد يوم الغدير عند المؤمنين المنتظرين؛ فاليوم الموعود لظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف هو امتداد لبيعة يوم الغدير.
الحمد لله الذي جعل كمال دينه وتمام نعمته ورضاه بالإسلام وبولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
(1) ابن أثير، النهاية، ج 7، ص 386.
(2) الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 50.
(3) ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج 7، ص 107.
(4) الشيخ الطوسي، مصباح المتهجّد، ص 736.
(5) المصدر نفسه، ص 736-737