مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين


د. غسان طه
 

عشيّة بدء الحملات الصليبيّة في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، كانت بلاد الشام تُشكّل مسرحاً لتصادم الخلافة العبّاسيّة والحكم الفاطميّ وتنازعهما، سواء بطريقة مباشرة، أو عن طريق سيطرة جماعات كانت قد أقامت إمارات وبسطت نفوذها على بلاد الشام كالقرامطة والحمدانيّين والسلاجقة. وكان هذا الصدام يبرز حتّى بين الفاطميّين والإسماعيليّين الشيعة الذين تجمعهم عقيدة واحدة. كذلك كانت بلاد الشام مسرحاً للصراع بين الفاطميّين والسلاجقة. وكان الأخيرون قد سيطروا على مدن عديدة من بلاد الشام كدمشق وبيت المقدس في عام 463هـ. 

في ظلّ هذه الأجواء، قرّر الصليبيّون شنّ حملاتهم التي بدأت في عام 489هـ/ 1096م على بلاد الشرق تحت إدارة البابا وإشرافه. كان هدف الغزاة الصليبيّين القادمين من الدول الأوروبيّة، الوصول إلى المدينة المقدّسة في فلسطين، ثمّ احتلال بلاد الشام، التي كان يتنازعها الحكم الفاطميّ والسلاجقة.

* أوضاع الشيعة (الثقافيّة والديموغرافيّة) 
قبل الدخول الصليبيّ، كان التشيّع لا يزال منتشراً في مدن عديدة في بلاد الشام، مثل حلب ومعرَّة النعمان وحمص ودمشق وجبل عامل وبعلبك وطرابلس وصور وغيرها. وفي ما يأتي، نتوقّف عند بعض المحطّات البارزة:

1. الشيعة في صور: بحسب ناصر خسرو(1)، كان معظم أهل مدينة صور من الشيعة، وبحسب ابن بطوطة أكثر أهلها شيعة(2). وكان أهل منطقة بعلبك شيعة بحسب المؤرّخ الذهبيّ(3). وهو نفسه يذكر في سير أعلام النبلاء أنّ التشيّع كان قد انتشر في الأنحاء بعد فرض الفاطميّين الأذان الشيعيّ بـ«حيّ على خير العمل»(4)، وبعدها، مُنع هذا الأذان بعد سيطرة السلاجقة على دمشق سنة 468هـ(5).

2. الشيعة في طرابلس: يرى ناصر خسرو أنّ كلّ أهل طرابلس كانوا في عهد دولة بني عمّار شيعة. وقد شيّدوا مساجد جميلة في كلّ أنحاء البلاد(6). أمّا حكّامها الذين تعاقبوا فيها على حكمها فكانوا من الشيعة أيضاً، وهؤلاء هم بنو عمّار الذين أقاموا فيها إمارتهم الممتدّة من اللاذقية حتّى سواحل بيروت، وعرضاً حتّى بلاد جبيل. وكان جلّ بني عمّار، كما سكّان إمارة طرابلس، يتعبّدون وفقاً للمذهب الإماميّ(7).

3. النهضة العلميّة: عمد بنو عمّار إلى الاهتمام بنشر العلم والمعرفة وتقرّبوا من علماء الدين. وقد برز عدد منهم في الكتابة والتأليف والتبليغ ومنهم أبو الفتح الكراجكي، الذي حلَّ في طرابلس سنة 436هـ / 1043م ومكث فيها مدّة طويلة بعد أن أنهى دراسته في العراق، وأقام في بلدان غير طرابلس ومنها طبريا التي كان أهلها شيعة في ذلك الزمان، ومكث في صيدا وبيروت أيضاً، وجال في حلب بعد أن كان قد صنّف خلال إقامته كتابَي البستان والنجوم وغيرهما من الكتب(8).

أسهم وجود الكراجكي في هذه المدن بحركة فكريّة وأدبيّة، ولا سيّما في مدينة صور التي كان يقصدها الكُتّاب والأدباء والشعراء وعلماء الشيعة الإماميّة، وكان من هؤلاء العلماء أبو الصلاح الحلبيّ الذي قال عنه المؤرّخ الذهبيّ إنّه شيخ الشيعة وعالم الرافضة بالشام(9).

وعن يحيى بن أبي طي الحلبيّ نقل أنّ أسعد بن أحمد بن أبي روح الطرابلسيّ، الملّقب بـ (أبو الفضل)، كان رئيس الشيعة بالشام وقاضياً عالماً وتلميذ القاضي ابن البراج. وقد نقل المؤرّخ الذهبيّ أنّه مكث بعد ابن البراج في طرابلس للتدريس، بعدما ولّاه بنو عمّار القضاء بعد ابن البراج، وأنّه انتقل منها إلى صيدا، وكان مرجع الإماميّة ولم يزل فيها إلى أن سيطر (الإفرنج) حينها على صيدا(10).

* بنو عمّار في طرابلس 
مرّت طرابلس بمحطّات تاريخيّة مهمّة من الحصار والتنكيل، نذكر منها:

1. عشر سنوات من الصمود: بعد وصول الصليبيّين إلى أنطاكيا كأوّل منطقة سقطت في أيديهم، استكملوا طريقهم جنوباً نحو القدس، فكانت محطّتهم الثانية طرابلس التي كان يحكمها بنو عمّار، وكان جلّ أهلها من الشيعة، وكانت طرابلس على وئام مع الفاطميّين ومع السلاجقة أيضاً(11).

مع وصول الصليبيّين إلى سواحل طرابلس، بدأت المجابهة بينهم وبين حاميتها التي قادها حاكم المدينة ابن عمّار، ثمّ ما لبثت المفاوضات أن حدثت بين الفريقين نتيجة عدم استطاعة الصليبيّين دخول المدينة، فصرفوا النظر مؤقّتاً عن احتلالها وتابعوا زحفهم جنوباً نحو بيروت، ثمّ سارعوا نحو مدينة القدس فاحتلّوا الرملة(12) العاصمة العسكريّة لفلسطين آنذاك، ثمّ سقطت المدينة المقدّسة بيد الصليبيّين سنة 1099م بعد انسحاب الجيوش الفاطميّة إلى مصر، وبعدها جرت المعارك لإسقاط سائر مدن الساحل اللبنانيّ والفلسطينيّ، فسقطت طرابلس بعد عشر سنوات من بداية الحملة الصليبيّة الأولى، ومعها حضارة ذات ثقافة إسلاميّة وشيعيّة مترامية الأطراف(13).

قبل سقوط طرابلس بيد الصليبيّين، استنجد حاكمها فخر الملك بأمراء المسلمين وملوكهم في دمشق وحلب والموصل، لكنّ النجدة لم تصل بسبب اختلاف هؤلاء الأمراء والملوك في ما بينهم، فوقعت الضائقة الاقتصاديّة في طرابلس ودام الحصار دون أيّ نجدة من الخارج حتّى سنة 1108م(14).

2. هروب الصليبيّين إلى طرطوس وجبيل: نقل ابن الأثير أنّ الصليبيّين حاصروا طرابلس فقاتل من فيها أشدّ قتال، وقُتل من الصليبيّين ثلاثمئة، فرحلوا عنها إلى مدينة انطرطوس (حالياً طرطوس)(15) الساحليّة التابعة حُكماً لطرابلس. وفي عام 1104م، وصلت مراكب الدعم للصليبيّين، واستعانوا بها على حصار طرابلس، فحاصروها برّاً وبحراً وضايقوها وقاتلوا أيّاماً فلم يروا فيها مطمعاً، فرحلوا منها إلى مدينة جبيل فحاصروها وقاتلوا أهلها قتالاً شديداً إلى أن استسلمت. وفي عام 1105م، أعاد الصليبيّون حصار طرابلس، ولم تزل الحرب قائمة بينهم وبين أهلها حتّى عام 1108م(16).

3. سقوطها في يد الصليبيّين: مع اشتداد الحصار على طرابلس، مضى حاكمها ابن عمّار إلى بغداد مستنجداً، بعدما نصّب ابن عمّه أبا المناقب نائباً له. وطال أمر ابن عمّار في العراق، فدخل الصليبيّون طرابلس عام 502هـ/ 1108م، وسيطروا عليها بالسيف وأنزلوا بأهلها أشدّ البلاء(17). وكان ابن عمّار قد جاء إلى دمشق فأعطاه صاحبها الزبداني إيّاها مع المدن التي تتبعها بعدما كان لابن عمّار البلاء الحسن في دفع عداء الصليبيّين عن بلده، حيث لم يترك باباً من أبواب الخلاص ليصدّهم عن طرابلس إلّا طرقه، حتّى دفعهم بعقله وحسن إدارته عن تملّكها عشر سنين(18).

 
(1) سفر نامه، خسرو، ص 48. 
(2) تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ابن بطوطة، ص 57. 
(3) تاريخ الإسلام، ووفيات المشاهير والأعلام، الذهبيّ، ج 47، ص241. 
(4) سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، ج 15، ص117. 
(5) المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء، ج 2، ص 192. 
(6) سفر نامه، مصدر سابق، ص 48. 
(7) لبنان من الفتح العربيّ حتّى الفتح العثمانيّ، مكّي، ص 1011. 
(8) الكراجكي، المهاجر، ص 7. 
(9) الحاوي في رجال الشيعة الإماميّة، الحلبي، ص 60. 
(10) المصدر نفسه، ص 52. 
(11) تاريخ الحروب الصليبيّة، الصوري، ج 2، ص 58. 
(12) الرملة من أقدم مدن القدس، جعلها الأمويّون عاصمة عسكرية لفلسطين. 
(13) ذيل تاريخ دمشق، أحداث سنة 497، ابن القلانسي، ص 104. 
(14) لبنان من الفتح العربيّ إلى الفتح العثمانيّ، مصدر سابق، ص 128. 
(15) انطرطوس: مدينة ساحليّة في بلاد الشام وهي اليوم: طرطوس، و(انترادوس) اسمها الأول الذي يعني بالفينيقية؛ البر القريب من جزيرة أرواد. 
(16) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 10، ص 128، نقلاً عن: حقّي، مباحث علميّة واجتماعيّة، ص 130. 
(17) خطط الشام، محمّد كرد علي، ج 1، ص 292. 
(18) المصدر نفسه، ج 1، ص 293. 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع