السيد سامي خضرا
إضافة للأخلاق التي لا بدَّ للتاجر المسلم أن يتحلَّى بها، والتي تقدَّم الحديث عن بعضها.. هناك آداب عامة لآداب التعامل التجاري على أنواعه، يتميَّز بها المجتمع التجاري والصناعي المسلم عن غيره، تماماً كما يختلف الفرد المسلم الإلهي عن الآخر غير المسلم العلماني أو المشرك.
وهذه الآداب العامة، وقبل أن نستعرض بعضها لنؤكد عليه، نذكر أنها تُمارس في الأسواق والتجارات دون أن يعلم الكثيرون أنَّ لها أصلاً شرعياً إسلامياً، وهذا يدلُّ على البركة والخير المختزنين في المجتمعات الاسلامية، وهي بلا شك ثمرة جهود ومثابرة ومتابعة حثيثة من علمائنا وأهل الورع والعفَّة واليقين من تجارنا عبر القرون الطويلة.
ومن هذه الأخلاق الجميلة التي ينبغي أن تنتشر بين التجار المسلمين، وأن لا نفرّط بالموجود منها:
1 – إقالة النادم:
والمقصود به إبطال عملية البيع بإرجاع المال إلى المشتري إذا رغب في ذلك، لأنه عاجز عن الوفاء بالثمن المتَّفق عليه، أو لتبدُّل رأيه، أو لحرج ما، أو لأي سبب آخر أبدى من خلاله رغبته في إبطال الصفقة، وإعادة ما اشتراه، واستعادة الثمن.
فكأنه نادم على ما فعل، فالأدب إجابته وإقالته.
ورد عن مولانا ومقتدانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"مَنْ أقال مسلماً، أقاله الله عثرته(1).
وعن مولانا الصادق عليه السلام قال: "أيُّما عبدٍ أقال مسلماً في بيع،أقاله الله عثرته يوم القيامة" (2).
ونقل عبد الله بن القاسم الجعفري عن بعض أهل بيته، قال:
"إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن لحكيم بن حزم في تجارته، حتى ضمن له إقالة النَّادم، وإنظار المعسر (انتظار من لا يقدر على وفاء ديونه)، وأخذ الحق وافياً أو غير واف" (3).
2 – الترجيح في الوزن:
بأن يُعطى المشتري أكثر من حقه بقليل، كما من الآداب الاسلامية أن يقبل المشتري بأخذ الأنقص بقليل.
ومثاله: لو أراد رجل شراء كيلو من سكر أو أرز أو برغل مثلاً، فالمستحب للبائع زيادة بعض الغرامات، وهو ما يسمَّى في أوساطنا "التطبيش" (وهذا ممارس فعلاً فيما بيننا)، بينما المستحب للمشتري قبول دون الكيلو ببضع غرامات.
والمثال الآخر: إذا أراد الشراء بالعدد، كالجوز مثلاً، فالمستحب للبائع زيادة العدد، وللمشتري القبول بدون حقّه.
ولا يخفى ما في ذلك من محبَّة وثقة وإلفة ووحدة الحال.. ما دام كلٌ من البائع والمشتري يُصرُّ على التنازل عن شيء من حقه المشروع لصالح أخيه، فكأنهما يغرفان من سلّة واحدة، ويضعان في جيب واحد.
فسبحان الله الذي ألَّف بين قلوبهم.
روي أنَّ مولانا أمير المؤمنين عليه السلام مرَّ على جارية قد اشترت لحماً من قصَّاب وهي تقول: زدني.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:
"زِدهاو فإنه أعظم للبركة" (4).
3 – النهي عن البيع المضطر:
لأن التاجر المسلم لا بدَّ أن يكون أميناً على المجتمع الذي يعيش فيه، وعلى أفارده، وأن يكون عفيفاً نزيهاً محباً لإخوانه، فلا يتربَّص بهم الفرص للانقضاض عليهم واستغلال حاجتهم واضطرارهم، ليأخذ بأقل الأثمان.
وهو ما يُصطلح عليه اليوم، بالشراء "بالسعر المحروق" إستغلالاً لحاجة صاحب السلعة للإنفاق على عياله، أو وفاء ديونه، أو معالجة مريضه..
وقد نهى رسول الله ص عن بيع المضطرين..
وعن مولانا الصادق عليه السلام قال:
"يأتي على النَّاس زمانٌ عضوضو يعضُّ كلُّ امرئٍ على ما في يده، وينسى الفضل، وقد قال الله تعالى: "ولا تنسوا الفضل بينكم، ثم ينبري في ذلك الزمان أقوامٌ يُبايعون المضطرين، أولئك هم شرار الناس" (6).
4 – الاحسان في البيع:
وذلك بالاخلاص والنصيحة والكرم وحسن التعامل.. فقد جاءت زينب العطَّارة إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولما جاء ص، فإذا هي عندهن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
"إذا أتيتنا طابت بيوتنا".
قالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله.
فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
"إذا بعتِ فأحسني ولا تغشي، فإنه أتقى لله، وأبقى للمال" (7).
5 – أن لا يضع نفسه في موضع التهمة:
فلو طُلب من التاجر شراء بضاعة ما، ووُكّل في ذلك، وكان عنده من البضاعة المطلوبة، فالأفضل له أن لا يأخذ للمشتري ممَّا عنده.. اللهم إلاّ إذا كانت الثقة بينهما كبيرة، أو لا يخشى سوء التفاهم.
وعندما سأل إسحاق أبا عبد الله الصادق ع عن مثل هذه الحالة، قال ع:
"لا يقربنَّ هذا، ولا يُدنّس نفسه، إنَّ الله عزَّ وجل يقول: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا"".
لكن، عندما سأل رجلٌ الامام الصادق عليه السلام، عن رجل يجيئه، فيقول: تشتري لي.. ويكون ما عندي خيراً من متاع السوق، فقال:
"إنْ أمنتَ أن لا يتَّهمك فأعطه من عندك، وإن خفتَ أن يتَّهمك فاشترِ له من السوق (8).
6 – الاستخارة:
أياً كانت نتائجها، والرضى بذلك، فلا يسخط إذا وقعت الاستخارة على خلاف هواه ورغبته.. فالله أعلم في عواقب الأمور وأسرارها.. وآثارها الدنيوية في الآخرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلّم أصحابه الاستخارة كما يعلّم السورة من القرآن.
7 – أن لا يحلف من دون حاجة ماسََّة إلى ذلك:
هذا إذا كان صادقاً، فلا يُكثر من القَسَم والايمان على الصغيرة والكبيرة، بحاجة وبدونها.
أمَّا اليمين الكاذبة يغش بها الناس ويُغرّرهم، فهي محرَّمة أصلاً، ولو لمرة واحدة، وصاحبها في النار.
8 – أن يرضى لزبائنه ما يرضاه لنفسه من البضاعة:
فكما يحرص شخصياً على جودة البضاعة ونظافتها، كذلك يريد للناس، فيحرص على إرضاء زبائنه بالعدل، ويكون صادقاً منصفاً.
9 – من الآداب أن يكون الربح قليلاً ومعقولاً:
ولعلَّ الله يُبارك له في ذلك بالبيع الثكير، فيعوّض له، ويزيده من فضله، ويرزقه من حيث لا يحتسب.. من هنا يستحب له البيع مباشرة إذا حصل الربح، ولا ينتظر مشترياً آخر وربحاً أكبر.
10 – ذكر الله كثيراً:
وهذا بالاضافة لاستحبابه العام، فهو يُؤكّد للتاجر لأنه مَعرضٌ للسهو والغفلة والاغراء والانسياق وراء الدنيا والانزلاق، لا سمح الله، فيما لا يرضي الله تعالى.
وفي هذا الكثير من النصوص الخاصة الواردة تُراجع في مصادرها (9) ولا بأسْ أني ضع التارج المسلم بعض الأدعية على مكتبه مثلاً، يرددها كلما سنحت له الفرصة.
كما يستحب التسبيح والشهادتين.. وأن يكبّر ثلاثاً إذا اشترى "ولاسوق دار سَهو وغفلة، فمن سبَّح فيها تسبيحة، كتب الله بها ألف ألف حسنة"(10).
11 – يُكره القرض من حديثي النعمة:
ممن لم يخبروها فأذهلتهم "ممَّن لم يكن له فكان" (يُسمى بعضهم الآن "أغنياء الحرب" وهم موجودون في أكثر البلدان).
12 – ادّخار قوتِ السَّنة:
كما هو رائج بيننا في تموين الزيتون وزيته والبرغل والجوز والسكر والحبوب والمربَّى، وهذا له أصلٌ في الشرع لأن النفس إذا أحرزت قوتها استقرّت، ومَن موَّن طعام سنة خفّ ظهره واستراح.
لذا على التجار التساهل مع المشترين في المواسم ليحصلوا على تموينهم.
روي عن الامام الصادق ع، قال: "ثم مَن قد علمتم في فضله وزهده، سلمان وأبو ذر رحمهما الله، فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه، رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل".
فقيل له: يا أبا عبد الله، أنت في زهدك تصنع هذا؟! وأنت لا تريد لعلَّك تموت اليوم أو غداً.
فقال ع: "ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليَّ الفناء؟ أما علمتم يا جهلة إنَّ النفس قد تلتاث (11) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنَّت".
13 – أن لا يستقلَّ الرزق:
فالأدب للتاجر أن لا يستخفَّ بقليل الرزق "فمن استقلَّ قليل الرزق حُرم كثيره".. وتُكره الشكوى من عدم الربح.
14– الرضى بالتجارة والربح والرزق:
حيث من الأدب الاستتار بالمعيشة وكتمها عن الآخرين "فإنهم إنْ لم يضرُّوك لم ينفعوك".
15 – لا بأس للتاجر من "تذويق" ما يريد الزبون شراءه كالحلويات والتمر والفستق..
16 – يستحب الاجمال في الطلب، بأن "لا يكون حريصاً ولا مضيّعاً" (فوق المضيّع ودون الحريص)، كما يُكره دخول السوق أولاً والخروج أخيراً.
17 – يستحب أن تكون العقارات متفرّقة في أماكن شتّى (البستان والدار والدكان..).
هذا مجملٌ، نكتفي به، وإن بقي تفاصيل أخرى لا شكَّ بفائدتها، لكن ننتهز فرصة أخرى إن شاء الله جلَّ جلاله لعرضها.
(أيُّما عبد أقال مسلماً في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة.
لا يكون الوفاء حتى يميل الميزان.
من استقل قليل الرزق حُرم كثيره).
1 ميزان الحكمة، ج1، ص522.
2 وسائل الشيعة، ج12، ص286.
3 وسائل الشيعة، ج12، ص286.
4 المصدر نفسه، ص 290.
5 المصدر نفسه.
6 المصدر نفسه، ص330.
7 المصدر نفسه، ص287.
8 وسائل الشيعة، ج12، ص289.
9 راجع وسائل الشيعة، ج12، ص301.
10 ميزان الحكمة، ج4، ح9045.
11 تُصاب بلوثة تُحدث الهمَّ والتشتُّت.