الشيخ أحمد إسماعيل
كما هو النظام الكوني وطريقة تكامله والأجرام السماوية
المتقنة وحركة الشمس والقمر وجريان الليل والنهار، وكل الموجودات تسير ضمن حركة
دائمة ونشاط مستمر لا يقبل التوقَّف في جزء من أجزائه وإلاَّ فنحن أمام كوارث
حقيقية تهدّد الإنسان في وجوده وكما هي حياتنا التي نعيش فيها تبدو في أجمل
إشراقاتها حينما يُنزلُ اللَّه المطر على الأرض فتهتزّ وتنبت وتدبّ فيها الحياة
وتتفجّر الينابيع وتجري مياه الأنهار وتُصبغ الطبيعة بلون حياتها الأخضر فتزهر
الأشجار وتورق، وكما في البديع الكوني الرائع والحياة التي تضجّ بالحركة؛ كذلك
الإنسان الذي يشكِّل جزءاً من هذا العالم... وكما أن كسل المنظومة الكونية يعني
الدمار، فكسل الإنسان عن القيام بوظائفه يعرّضه لخطر الفراغ وكمائن مصائده، إذ لا
قيمة للحياة إذا لم تكن هادفة للتقدّم ولا يمكن التقدّم إلا بالسعي والنشاط والعمل،
ذلك أن من يسعى للوصول إلى غايته المنشودة فعليه أن يهيء مقدماتها. فالطالب ما لم
يدرس ويطالع ويدقّق في بطون الكتب، لا يُوفَّق للنجاح، والباحث إذا لم يتابع
دراساته وتحقيقاته فلن يكون باحثاً بحق.
* العمل عز لصاحبه:
إنساننا الذي يعيش على وجه هذه البسيطة إذا تكاسل وتقاعس واستسلم لركوده وخموله فلن
يؤدّي دوره ومهامه وسيكون عالة على مجتمعه ينتظر صدقاته المُذلّة له، ومن هذا
المنطلق ركَّز الإسلام على أهمية العمل الذي لا يحتاج معه المرء إلى الآخرين، وحثّ
المسلمين على الصناعة والتجارة والزراعة واتخاذ الصنعة والحرفة، يقول أمير المؤمنين
عليه السلام: "تعرّضوا للتجارة فإنَّ فيها غنىً عمّا في أيدي الناس، فإن اللَّه
يحب المحترف الأمين". وواضح من خلال هذا الحديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام أنه يحضّ المسلمين على التجارة لما فيها من غنىً عن الناس والطمع بما
في أيديهم، فالإسلام العزيز لا يرضى لأبنائه الذلّ ولا يريد لهم إلاّ الرَّفعة
والعزة والمهابة، فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "اليأس مما في أيدي الناس عزّ
المؤمن في دينه ومروته في نفسه وشرفه في دنياه وعظمته في أعين الناس وجلالته في
عشيرته ومهابته عند عياله وهو أغنى الناس عند نفسه وعند جميع الناس" فاللَّه
يريد لعبده أن يكون عزيزاً كريماً مهاباً، وهذا يتحقق في من يستغني عن الناس،
والاستغناء معناه، أن يصل إلى مرحلة الاكتفاء من خلال تجارة أو عمل... فيكون العمل
هذا هو عنوان عزة المرء وكرامته، فقد روى المعلى بن خنيس أن الإمام الصادق عليه
السلام لما رآه متأخراً عن الذهاب إلى السوق فقال له عليه السلام:
"اغدُ إلى عزِّك".
ويقول محمد بن المنكدر "خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقاني أبو جعفر
محمد بن علي عليه السلام... فقلت في نفسي: سبحان اللَّه شيخ من أشياخ قريش في هذه
الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا، أما إني لأعظنه فدنوت منه فسلَّمت عليه
فردّ وهو يتصاب عرقاً فقلت: أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذا الحال، فقال عليه
السلام: "لو جاءني الموت وأنا على هذا الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللَّه
عزّ وجلّ أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف لو أن جاءني الموت
وأنا على معصية من معاصي اللَّه"، فقلت: صدقت، رحمك اللَّه أردت أن أعظك فوعظتني.
أمام ما تقدّم من الأحاديث والروايات نستطيع أن نخرج بخلاصة مفادها: أن اللَّه
القادر على أن يرزق العباد كلهم وهو خير الرزّاق الجواد الفيَّاض بكرمه وجوده، لكنه
تعالى لا يريد لعباده أن يكونوا متواكلين غير متوكِّلين وقاعدين غير مجاهدين
وكُسالى غير مجدّين، فهو سبحانه يريدهم أعزَّةً فلا يفتح لهم السماء لئِلا يعتادوا
على رزقٍ لم يدفعوا ثمنه من عرق جبينهم ومن تعب كدهم وصبرهم وكدحهم فعن الإمام
الصادق عليه السلام:
"أرأيت لو أن رجلاً دخل بيته وأغلق بابه أكان يسقط عليه شيء
من السماء" ولا يريدهم أن يفتحوا أيديهم ويبسطوها للناس متسولين متسكعين.
* سعادة العامل:
فالسعادة في الدنيا أن يجد المرء نفسه في عمله في تجارة أو زراعة أو حرفة صناعية
وما لم يدخل غمار الحياة من أمثال هذه الأبواب وغيرها من التربية والتعليم والمهن
المفيدة فلن يتذوق طعم السعادة، فالعامل في عمله لن يجد أفضل من عمله طالما أنه
يغنيه عن الناس، والفلاَّح في حقله لن يجد متعة تضاهي سعادة الشعور بالنجاح وهو
يستخرج خيرات الأرض، ومن هذا القبيل تأتي سعادة المعلِّم الذي يدرِّس طلابه
ويعلّمهم، وسعادة الطبيب حينما يكتب اللَّه على يديه شفاء المرضى، والكاتب الذي
يؤلِّف كتباً تتحول إلى ثقافة عملية في المجتمع الذي يعاصر. فإذا كانت الأعمال
تشكّل سعادة من هذا القبيل، فمن الطبيعي أنَّ الكسل يمثّل قمة الشقاء والتعاسة وعدم
الشعور بالشخصية، فالعامل في أي حقل عمل، هو في حدّه الأدنى يسعى ويتحّرك وفي
الحركة بركة، فإن وُفِّق واستفاد وجنى الأموال الطائلة، فهو يساعد فقيراً ويسدّ
جَوعةَ مسكين ويزوج عازباً محتاجاً وهذا بحد ذاته سعادة تغمر أهلها ومستحقيها...
أما القاعد الخامل الكسول فهو متشائم قد يكره كلَّ ذي نعمة، ويتَّهم كلَّ ثريّ، وقد
يحمل الحقد على كل من يُوفَّق في تجارة أو عمل فهذا هو التعب بعينه، لأن من يملك
مثل هذه العناوين فإنه حتماً سيخضع لتأثيراتها ومضاعفاتها، واللَّه وحده يعلم كم
سيحصد هذا الكسول الخامل من خيبات أمل، أقلَّ ما فيها هو الشعور بالدونية وأنه عالة
على محيطه ومجتمعه وأنه لا شيء يُذكر في بيئته وأمام أقرانه...
ولا يخفى على أحد
أن الرسول الأكرم محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله كان إذا نظر إلى الرجل
فيعجبه، فيسأل: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال صلى الله عليه وآله: "سقط من عيني".
نقول هذا دون أن نُعمّم، فليس كل تاجر قريب من اللَّه، عزيز بين الناس، سعيد فيما
بينه وبين نفسه، فهناك تجارات محرمة وزراعات غير جائزة وحِرَف تحرف الإنسان عن
الجادَّة وصناعة هي أشبه بصناعة التماثيل والأصنام... ولنختم الكلام بهذا الباب
بحديث لأمير المؤمنين عليه السلام ليشكّل قوله عليه السلام دليلاً ومرشداً وعنواناً
وهادياً لكل عامل وتاجر وفلاَّح وبائع فيقول عليه السلام: "يا معشر التجار الفقه
ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، واللَّه للرِّبا في هذه الأمة أخفى
من دبيب النمل على الصفا".
* ثمار التجارة:
كما تقدَّم معنا في حديث أمير المؤمنين عليه السلام والذي يحثّ فيه على التعرض
للتجارة (تعرضوا للتجارة...) فهي باب من أبواب الرزق فتحه اللَّه لمتعرّضيه، بل أن
الأحاديث الشريفة نهت عن تركها فعن الإمام الصادق عليه السلام "ترك التجارة ينقص
العقل" وفي حديث آخر أن معاذ بن كثير قال للإمام الصادق عليه السلام: إني قد أُيسر
فأدع التجارة؟ فقال الإمام عليه السلام
"إنك إن فعلت قلّ عقلك". وواضح من خلال
الحديث الشريف أن معاذ وصل إلى مرحلة بات يشعر معها أنه سيستغني عن خوض غمار
التجارة، لكن الإمام اعتبر أن تركها يقلل عقله... بل
إنه عليه السلام ذات يوم يعاتب
معاذ فيقول له كما ورد: يا معاذ أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها؟ إلى أن قال له عليه
السلام: "لا تتركها فإن تركها مذهبة للعقل، اسع على عيالك، وإياك أن يكونوا هم
السعاة عليك" وهكذا يجد المتتبع للنصوص الإسلامية أن الإسلام العزيز يريد لأبنائه
أن يسعوا إلى تجاراتهم ومعايشهم حتى يكونوا أعزَّة في دنياهم، وليكونوا سعاة خير
ويد معونة لكل من قصَّر عن إدراك لقمة العيش، ولم تترك النصوص الشريفة الناس تتاجر
دون أن تضع ضوابط وآداب لها ذلك أن التجارة مطلوبة لكنها ليست هدفاً بحد ذاتها، فهي
وسيلة يستغني بها الناس عن الآخرين، ولها أصولها ومبادؤها وأخلاقها.
آداب التجارة:
التجارة مهمة وضرورية وملّحة، لكنها إن كانت عن معرفة وفقه ودراية، وإلا يكون
التاجر عرضة للرِّبا والغش وهذا ما لا يرضاه اللَّه لأحد من عباده. فعن الإمام
الصادق عليه السلام "من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحلّ له
ممّا يحرم عليه، ومن لم يتفقّه في دينه ثم اتّجر تورط الشبهات" فما أكثر ممن
يبيعون ويشترون ويقعون في الأثناء في تعاطيهم بشبهة الرّبا والخوض في الباطل، بل
إننا نجد الكثير من هؤلاء يقسمون باللَّه العظيم على أمرٍ زهيد قد يجني لهم بعضاً
من الدريهمات، ونجد ممن يكتمون العيب في بضاعتهم فيغشون المشتري ويدلِّسون عليه
البضائع، ومن يحمدون ببضاعتهم بينما يذمون في بضاعة الآخرين وكأنها سلعة للشيطان.
فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "من باع واشترى فليتجنب خمس خصال وإلاّ
فلا يبيعن ولا يشترينّ: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والحمد إذا باع، والذمّ إذا
اشترى". هذا وهناك الكثير من آداب التجارة وحدودها في الإسلام توجد تفاصيلها في
الكتب المختصة.