الشهيد د. فتحي إبراهيم الشقاقي
الدكتور فتحي ابراهيم الشقاقي من مواليد عام 1951 في مخيم رفح لللاجئين الفلسطينيين، تميَّز بنشاطه الحركي بين صفوف زملائه الطلبة في مقاعد الدراسة لاثانوية والجامعية وبتوجهه الاسلامي العقائدي ودرس الطب في صمر، وأثناء هذه الفترة كان يواكب نهضة الامام الخميني منذ بدايتها فألَّف كتاب "الخميني الحل الاسلامي البديل" وهو يعدّ أول كتاب باللغة العربية عن الامام والثورة، ثم دخل فلسطين وبدأ بنشر خلايا الجهاد الاسلامي، فاعتقل وسجن عدة مرات حتى أُبعد عن فلسطين عام 1988، وقد عُرف سياسياً حركياً، إنساناً مفكراً، مؤسساً لحركة الجهاد الاسلامي، أميناً عاماً لها لحين استشهاده بعد أن تألق نجم هذا الشهيد المؤمن بين أسماء روَّاد الجهاد في العالم حيث تمَّت تصفيته فلقي وجه ربه متشحاً بدمه الزاكي في مالطا بتاريخ 25-10-1995.
ولم يترك الشهيد مناسبةً إلاَّ وأظهر فيها حبَّه وولاءه للامام الخميني وانصهاره في هذا الخط فكانت له كتابات ومحاضرات ولقاءات عديدة حول الامام، اخترنا منها بعض المقتطفات لننشرها بمناسبة مئوية الامام قده تحت عنوان رؤية فكرية في نهج الامام الخميني قده.
الامام الخميني شمس فجّرت في حياتنا ينابيع النور عندما كان الليل يشتد حلكة وسواداً، أعطتنا الأمل بعد خيبة ويأس وجعلت لحياتنا معنى في عالم تسوده قيم المادة والفساد. إنه الرجل الذي أعاد للاسلام مجده بعد قرن من الانحطاط وأعطاه وجهه ومعناه المحمدي الأصيل؛ اسلام الجهاد والشهادة والنهوض والعمل. أنه هو الذي أعاد الشعوب المسلمة إلى أصالتها وهويتها لتواجه شياطين العصر وأكّد بثورته التاريخية الفذة قدرة الاسلام – ولو بعد أربعة عشر قرناً على ظهوره – على الحشد والتعبئة والاعداد والتنظيم واسقاط أحد أكبر طواغيت العصر، قدرته على إقامة دولته ونظامه في القرن العشرين وقدرته على مواجهة كل هذا الحجم من المؤامرات التي تنهدُّ أمامها أعظم الجبال.
* خلاصة العدل المضطهد:
لقد كان الامام رضوان الله عليه خلاصة العدل المضطهد في التاريخ البشري كما كان ابناً للأنبياء والأئمة الكرام ولذا جاءت نهضته وثورته متميزة وفريدة بين الثوارت.
قائد سياسي قلَّ أن يجود الزمان بمثله. واحد من كبار العارفين في التاريخ الاسلامي، ثائر لا يعرف المساومة أو المهادنة يملك إصراراً على تحقيق الهدف قل نظيره، جاء وعاش في عصر المؤامرات الدولة ولكنه لم يكذب قط بل هزم لغو وثرثرة وزيف العالم بصحته وحكمته وصدقه وهزم ترف الدنيا وفتنتها بفقره وزهده.. إنه الرجل الذي قهر نفسه فقهر العالم.
لقد حرر الأمة والمستضعفين من رعب الدول الكبرى الذي استمر لعقود من الزمن، فها هي الدول الكبرى يمكن أن تنكسر وأن تتراجع إذا تحررنا من التبعية لها وتملكنا الارادة المؤمنة المتفاعلة والنشطة.
الامام الخميني أطلق الصحوة الاسلامية في المنطقة والعالم، الصحوة التي أفرزت قيماً جديدة وأنشأت واقعاً جديداً ولا زالت تتفاعل عبر التنامي المتزايد لحركات النهوض الاسلامي.
* لا صحوة اسلامية بدون الامام وثورته:
ولأجل أن ندرك أهمية ومعنى ومغزى كل ذلك دعونا نتخيل المنطقة والعالم بدون الامام الخميني وثورته الاسلامية. هل كانت الصحوة الاسلامية تصل إلى أطراف الدنيا وتصبح حديث المراقبين والمحللين في العواصم الكبرى والصغرى؟ هل كانت تتجلى وتنكشف الأنظمة الخبيثة التي زرعها أو يحميها الاستعمار في المنطقة؟ وتتحول القوى الاسلامية الناهضة كقوى وحيدة في مواجهة هذه الأنظمة ومقارعتها؟ هل كان بالامكان أن ينطلق مجاهد فرد ليقتل مئات الأميركيين في بيروت دافعاً الدولة العظمى للهروب والفرار؟ هل كان بالامكان طرد اليهود والعدو الصهيوني من بيروت ومن ساحل لبنان والجبل وأن تستمر مطاردته باسم المقاومة الاسلامية حتى الآن موقعة في صفوفه أكبر الخسائر؟ هل كان بالامكان انطلاق الانتفاضة المباركة في فلسطين بروح اسلامية وثابة وبفعل اسلامي متميز هل وهل وهل..؟ إن عالماً بدون الامام الخميني كان سيختلف كثيراً وكثيراً بل شك.
* القيادة الرسالية:
تمثلت القيادة الرسالية كأفضل ما يكون في شخصية الامام الخميني الذي جاءت مراحل حياته معبرة أصدق تعبير عن الشخصية الاسلامية التي جاء الاسلام ليوقد منها للبشرية سراجاً منيراً وقدرة فذة. فهو بداية، مسلم شديد الالتزام ثوري ذو بصيرة نفاذة وحس ورؤية صائبة في أحلك الظروف. شجاع لا يعرف المساومة أو التخاذل مسكون بعذابات المسلمين وأوجاعهم. يصدره احساس الحسين بالمسؤولية وفي دمه رؤية الحسين الفذة لمعنى الشهادة. رفض منذ البداية أن تكون الثورة كحركة مصدق حركة وطنية ذات مطالبة جزئية، وبقي طيلة الوقت يطرح بديناميكية مذهلة معاداة الثورة والمسلمين للشيطان الأكبر – الامبريالية الأميركية والسرطان الاسرائيلي – الذي أكّد مراراً على أهمية التخلص منه نهائياً، وكذلك سقوط الشاه الذي ارتبط جدلياً بتلك القوى، فهو يعلن بإصرار أن هذا النظام غير شرعي ثم ينتقل إلى موقع آخر معلناً أنه دمية أميركية مرتبطة عضوياً باسرائيل. وأخيراً لا مصالحة معه ولا مساومة ولا بد من تدميره نهائياً. وبقي تأثيره على الجماهير كثوري ومرجع أعلى فوق كل تأثير، وعندما كانت المواجهة تحتدم وكانت بعض الفصائل تطالب بمواجهة القنابل بالقنابل والنار بالنار وإعلان الحرب المسلح كان هو بوعيه وحسه التاريخي الصادق يعلم (الدم سيهزم السيف). كان يستحدث المظاهرات المليونية في مواجهة الجيش وكان يطلب من الجماهير أن تنشر الزهور فوق الجنود وأن تقدم لها الحلوى في الشوارع وكان يعتبر الاضرابات أعمالاً مقدسة كل ساعة منها تعتبر خدمة كبرى تسدى للأمة الاسلامية.
وفي اليوم الذي سبق يوم الانتصار النهائي كان يفتي بحرمة العودة إلى البيوت والبقاء فيها وبوجوب البقاء في الشوارع لأن الدم سيهزم السيف ولأن "حياتم في موتكم قاهرين وموتكم في حياتكم مقهورين ألاّ أن خير الموت القتل" كما قال أمير المؤمنين الامام علي عليه السلام.
* بلورة الشخصية الاسلامية:
إذاً فإن الثورة الاسلامية في انبعاثها كانت تسعى لتوحيد المسلم مع شخصيته ونظريته ورفض الجاهلية القائمة والطواغيت الذين صنعوا التناقض والأزمة في حياة الفرد والمجتمع الاسلامي.
1 – طرحت الحركة الاسلامية بقيادة الامام الخميني فكرة (الجمهورية الاسلامية) منهية بذلك أزمنة طويلة من الحديث عن القبول بإصلاحات دستورية بانتظار عودة الامام الغائب الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً. قد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الامام المنتظر عج كما قال الامام الخميني (في طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام مغطاة).
ثم أجاب في النهاية "إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الاسلام ويدعو إلى تعطيلها وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الاسلامي الحنيف" (الحكومة الاسلامية في 26-27).
2 – انطلقت الحركة الاسلامية في ايران من خلال رؤية تحليلية للنظام وأدواره ووسائله ولمراكز القوى المؤثرة في المجتمع، ومن خلال فهم علمي للواقع، رافضة الأفكار الهلامية المجردة التي تفصل بوعي وبدون وعي وحتمياً بين التطورات الذهنية والعمل السياسي الثوري. وكانت تفهم بدقة معنى الآية الكريمة " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". ولهذا كانت تمزج بين الفكر والممارسة من خلال منظومة جدلية رائعة تخطو بالثورة إلى آفاقها المرجوة وفي كل هذا كانت تتبنى مطالب الجماهير حليفها الحقيقي بل جسدها، كانت تنطلق من أوجاع الأمة وتعبّر عن آمالها وطموحاتها.
3 – ولأن الامام الحسين كان رمز الحركة وجذوتها المشتعلة فقد اعتمدت بوعي رؤيته للثورة والتزمت بها وأعلنت أن الثورة عمل غير مؤجل وأن الوجوب فوق الامكان وأن مهادنة العدو والهروب من مواجهته حتى يكتمل ما يسمى بالقدرة المكافئة هو وهم يشل الحركة ويسمح للطرف الآخر بالنمو والتعاظم ويجعله دوماً في الوضع الأفضل للانقضاض.
إن الذي يتعود النوم طويلاً لن يملك الفرصة لتنمية عضلاته بالتالي لن يتمكن من الحركة ناهيك عن الحركة القوية الفعالة. لقد فهمت أنها لن تنمو إلاّ بالصدام مهما كان الصدام بسيطاً في البداية.
4 – لم يكن بالامكان أن تتحول كل فصائل الثورة إلى فصيل واحد متجانس يحمل نفس الرؤية تجاه كل القضايا والجزئيات. كما أنه لم يكن ممكناً تحقيق الانتصار في ظل الفوضى والانقسام ولهذا كان توجيه الامام الخميني في النجف الأشرف إلى قيام جبهة اسلامية واحدة تقف وراءها كل فئات الأمة. فشرط الانتصار كان مرهوناً بقيام هذه الجهبة التي يتم التنسيق بين فصائلها لمواجهة العدو المشترك.
بقي أن نشير إلى أن فصائل قليلة غير اسلامية وجهت بنادقها إلى نفس العدو ولكن الامام الخميني لم يعلن تحالفه معها ولم يهادنها لأنه أولاً يرفض منطلقاتها وثانياً يشك في نواياها وتوجهاتها وثالثاً يحمل هو والجماهير المسلحة ذكريات أليمة عن التاريخ الأسود لبعضها سواء حين خانت الجماهير وتحالفت مع الشاه أو حين كانت غطاء للنشاط الأميركي أو حين أفشت أسرار بعض المنظمات الاسلامية واغتالت بعض قياداتها وبقي الامام الخميني قبل وبعد إنتصار الثورة ينعتهم بأبناء الشيطان.
5 – في حين كان محور الاخوان المسلمين كحركة رائدة في الوطن الاسلامي هو تربية الفرد وكان محور الحركة الكبرى الأخرى – الجماعة الاسلامية في باكستان – هو مواجهة التحدي الفكري فإن محور الحركة الاسلامية في إيران كان يدور حول فكرة الجهاد بما يشمله هذا المعنى من تربية للفرد ومواجهة للتحدي الفكري.
من هذا المنطلق تقدمت الحركة الاسلامية في ايران في صياغة نظريتها الثورية والتي جاءت منبثقة من الاسلام كأصالة وتراث وتاريخ كما جاءت ثمرة سنوات طويلة من التطور السياسي والروحي والفكري..
إذاً كانت حكومة إسلامية شكلاً ومضموناً كما أسقطت الكثير من المقولات الفكرية التي كانت تطفو على السطح بدءاً بمقولات الماركسيين "إن الدين أفيون الشعوب" ورجعية رجال الدين وبقية المسلمات والبديهيات الماركسية وانتهاء بمقولة بريجنسكي عن انتهاء زمن الثورات الشعبية.
6 – طرحت مفهوم وحدة المسلمين (الجامعة الاسلامية) من خلال مفاهيم سياسية واضحة بعد عقود طويلة من التغريب وانزواء هذه الفكرة إلى الظل.
7 – قدمت نموذجاً ونمطاً حضارياً جديداً للبشرية جمعاء بعد إفلاس كل قيم الشرق والغرب. حتى أن المفكر الفرنسي الشهير روجيه غارودي يصرح أن "الثورة الاسلامية في ايران تقدم نموذجاً لتنمية الانسان والمجتمع مع التراث الروحي لشعوبها وهو سر كراهية الغرب لها" ويقول في موضع آخر "لقد وضع الخميني نمط النمو في الغرب في قفص الاتهام".
"الخميني أعطى حياة الايرانيين معنى".