آية الله السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ
أفنى الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر قدس سره حياته في طلب العلم والاهتداء بنور هديه، ناقلاً كلّ معارفه وعلومه إلى طلّابه بحبّ وإخلاص، حتّى بات أكثر الناس التصاقاً ومعرفةً به؛ على علمٍ بأدقّ تفاصيل حياته، ولحظات يوميّاته، خصوصاً ذلك الجانب الأخلاقيّ المعنويّ الكبير، في سلوكه العمليّ، ومنهم السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ.
* "لو كنتُ أعلم"
حدّثني قدس سره ذات يوم: أنّه حينما كتب كتاب (فلسفتنا)، أراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف، بعد عرضه عليهم، متنازلاً عن حقّه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب. إلَّا أنّ الذي منعه عن ذلك، أنّ جماعة العلماء أرادوا إجراء بعض التعديلات في الكتاب، والتي كانت غير صحيحة في رأي أستاذنا الشهيد، ولكنّه لم يقبل بها، فاضطرّ حينها أن يطبعه باسمه.
وحول ذلك قال قدس سره: "إنّي حينما طبعتُ هذا الكتاب، لم أكن أعرف أنّه سيكون له هذا الصيت العظيم في العالم والدويّ الكبير في المجتمعات البشريّة، ما أدّى إلى أن ذاع صيتي وأصبحت مشهوراً. فلو كنتُ مطَّلعاً على ذلك، وعلى مدى تأثيره في إعلاء شأن مؤلّفه لدى الناس، لما طبعته باسمي"!
* "ما زلت أعتقد بعدالته"
انفصل أحد طلّابه عن درسه وعن خطّه الفكريّ الإسلاميّ ذات يوم، ثمّ بدأ يشتمه وينال منه في غيابه أمام الناس، وكان كثيرٌ من كلماته يصل إلى مسامع أستاذنا العظيم. وكنت ذات يوم جالساً بحضرته الشريفة، فأتينا على ذكر هذا الطالب، فقال قدس سره: "أنا ما زلت أعتقد بعدالة هذا الشخص، وأنّ ما يصدر عنه ناتجٌ عن خطأ في اعتقاده، وليس عن عدم مبالاته بالدين".
* أفضل المجالس عند الله
قال قدس سره ذات يوم لصفوة طلَّابه: "إنّ ما تعارفت عليه الحوزة من الاقتصار على الفقه والأصول غير صحيح، ويجب عليكم أن تتثقّفوا بمختلف الدراسات الإسلاميّة"، فطلب منهم مناقشة "فلسفتنا" فيما بينهم، فعقدوا بحثاً في بيتي، الواقع وقتئذٍ في النجف الأشرف، في الشارع الثاني، الذي كان يُسمّى بـ(الجديدة). وفي أوّل يوم للمناقشة، طُرق الباب، وإذ بأستاذنا الشهيد قدس سره قد دخل وحضر معنا المجلس، وقال: "إنّني إنّما حضرتُ الآن هذا المجلس؛ لأنّي أعتقد أنّه لا يوجد الآن مجلس أفضل عند الله من مجلسكم هذا، الذي تتباحثون فيه في المعارف الإسلاميّة، فأحببت مشاركتكم مجلسكم هذا".
* طالبٌ مجدٌّ للعلم
كان يقول قدس سره إنّ الوقت والجهد الذي كنت أعطيه لطلب العلم، كان يتطلّب نحو خمسة أشخاص مجدّين.
وكان قدس سره يعيش في منتهى الفقر والفاقة، ولكنّه على الرغم من ذلك، كان منذ استيقاظه وحتّى موعد نومه، ينذر كلّ وقته لطلب العلم.
* الأب اللّيّن
كان يقول قدس سره إنّ تربية الطفل بحاجة إلى شيءٍ من الحزم والخشونة من ناحية، وإلى اللين والنعومة وإبراز العواطف من ناحية أخرى. ومن المتعارف عليه عندنا في الأمور التربويّة، أنّ الأب يقوم بالدور الأوّل، بينما تقوم الأمّ بالدور الثاني. ولكنّه قدس سره كان له موقفٌ آخر؛ إذ قال قدس سره: "ولكنّني اتّفقتُ مع (أمّ مرام) على عكس ذلك، فطلبتُ منها أن تقوم بدور الحزم والخشونة مع الأطفال، حيث تقتضي الحاجة؛ كي أمارس معهم أسلوب العواطف واللِّين وإبراز الحبّ والحنان". أمّا السبب فلأنّه كان يرى نفسه أقدر على تربية أطفاله على العادات والمفاهيم الإسلاميّة، فأراد من خلال إبراز حبّه وحنانه التأثير في أطفاله بشكلٍ قويّ، فيتقبّلون كلّ ما يصدر عنه من قيم وأفكار.
1- سرعان ما استبشرت: يقول قدس سره: "إني نفثتُ في نفس طفلتي مرام الحقد على الصهاينة، لشدّة ما كنتُ أحدّثها عن ظلمهم للمسلمين. في إحدى المرّات، فيما كنت أقصّ عليها بعضاً من بطشهم وقتلهم للناس وقصفهم للبيوت، بدا الحزن على وجهها، ولكنّها سرعان ما استبشرت وسُرّت عندما أخبرتها عن المقاومين الذين يقارعون العدوّ".
2- هذه الأموال ليست له: كثيراً ما كان يصله قدس سره من الحقوق الشرعيّة ما يصل عادة إلى يد المراجع، فأخبر ابنته مرام أنّ هذه الأموال الموجودة بين أيديهم ليست ملكاً لهم، حتّى تتربّى على القناعة، وعدم النظر إلى هذه الأموال الشرعيّة كأملاك شخصيّة. وكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً: "إنّ لدى والدي أموالاً كثيرة، ولكنّها ليست له"!
* للاختيار وفق معايير موضوعيّة
كان الأستاذ الشهيد قدس سره يصلَّي في الحسينيّة الشوشتريّة صلاة الجماعة إماماً. فحصل ذات يوم أنّه غاب عن صلاة الجماعة لعذر له، فطلب جمع من المؤمنين من السيّد محمّد الصدر، ابن المرحوم السيّد محمّد صادق الصدر، أن يؤمّ الناس في ذاك اليوم بدلاً عن الأستاذ، فاستجاب السيّد محمّد الصدر لطلب المؤمنين (وهو من حفدة عمّ الشهيد الصدر ومن تلامذته، وكان معروفاً بالزهد والورع والتقوى). عندما اطّلع أستاذنا الشهيد قدس سره على ذلك، بان عليه الانزعاج، وطلب من السيّد محمّد الصدر أن لا يتكرّر ذلك مرّة أخرى، لأنّه رغم علمه أنّ حفيد عمّه أهل لإمامة الجماعة، إلّا أنّه لم يحبّذ اختيار أحد من أقاربه لينوب عنه، حتّى لا يصوّب الناس على ذلك، ولأنّه أراد تغيير عادة اختيار أئمّة الجماعة من المقرّبين والأصحاب. أمّا المعيار الذي أراد الاختيار وفقه، فهو حصر إمامة الجماعة في إطار موضوعيّ صحيح، وفق مقياس دقيق، تُلحظ فيه مصالح الإسلام والمسلمين، زائداً على الشرائط الأوّليّة الفقهيّة لإمامة الجماعة.
* المرقد الشريف يفتقده
حدّثني الأستاذ الشهيد قدس سره، أنّه في فترة من فترات طلبه للعلم، كان يتشرّف يوميّاً بزيارة حرم أمير المؤمنين عليه السلام، ولساعة من الزمن؛ ليتفكّر في المطالب العلميّة، ويستلهم من بركات الإمام عليه السلام. ولكنّه ترك هذه العادة فجأة، دون أن يعلم أحد سبب ذلك. وإذا بامرأة في بيت الأستاذ، ولعلّها والدته الكريمة، رأت في عالم الرؤيا أمير المؤمنين عليه السلام يسألها عن سبب عدم قدوم سماحته لطلب العلم في مرقده الشريف.
* نصرةً للدين الحنيف
حدّثني الأستاذ قدس سره ذات يوم، فقال: "إنّني أتصوّر أنّ الأمّة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الحسين عليه السلام، وهو مرض فقدان الإرادة؛ فالأمّة تعرف حزب البعث والرجال الحاكمين في العراق، ولا تشكّ في فسقهم وفجورهم وطغيانهم وكفرهم وظلمهم للعباد، ولكنّها فقدت قوّة الإرادة التي يجب أن تجاهد بها في سبيل الله إلى أن تسقط هذه الزمرة الكافرة عن منصب الحكم، وترفع كابوس هذا الظلم عن نفسها. وعلينا أن نعالج هذا المرض كي تدبّ حياة الإرادة في عروق هذه الأمّة الميّتة من جديد، وذلك بما عالج به الإمام الحسين عليه السلام مرض فقدان الإرادة في نفوس الأمّة وقتئذ، وهو التضحية الكبيرة التي هزّ بها المشاعر، وأعاد من خلالها الحياة إلى الأمّة، إلى أن كان ثمرة ذلك سقوط دولة بني أميّة. فعلينا أن نضحّي بنفوسنا في سبيل الله، ونبذل دماءنا بكلّ سخاء في سبيل نصرة الدين الحنيف".
وبالفعل، هكذا كان سماحته، سار على خُطى جدّه الحسين عليه السلام، رافضاً للخنوع والاستسلام، إلى أن قدّم دماءه وروحه نصرة لهذه الأمّة ولهذا الدين الحنيف.
(*) مقتبس من: مباحث الأصول، تقرير لأبحاث سماحة آية الله العظمى، الشهيد السّيد محمد باقر الصدر قدس سره، الجزء الأوّل، ص45.