الشيخ أحمد أبو زيد
لم يعد دور الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره في دعم الثورة الإسلاميّة في
إيران خافياً على أحد؛ فهو- بلا أدنى شكّ- أحد مؤيّدي الثورة الأوائل والأساسيّين،
بل إذا قمنا بقراءة شاملة للمشهد السياسيّ في تلك الفترة، وخلصنا إلى أنّ الشهيد
الصدر قدس سره هو واحدٌ من شهداء الثورة الإسلاميّة في إيران، لم نكن لا مبالغين،
قط، ولا عن الحقيقة حائدين.
ونسلّط الضوء على بعض المساحات المجهولة أو محدودة الانتشار، ضمن نقاط:
1- الموقف النهضويّ
لقد كان الشهيد الصدر قدس سره ينتمي- على الصعيد الأيديولوجيّ داخل تيّارات المدرسة
الدينيّة- إلى التيّار النهضويّ الذي يتبنّى الإسلام وحكومته حلّاً يُصلح حال
المجتمع ويقود مقاليد الحياة. وقد سجّل الشهيد الصدر قدس سره موقفه هذا في رسالة
بعث بها إلى الشيخ محمّد جواد مغنيّة بعد نفي الإمام الخمينيّ قدس سره إلى تركيا
عام 1964م؛ حيث كتب يقول: "وأمّا بالنسبة إلى إيران فلا يزال الوضع كما كان،
وآقاي خميني مُبعدٌ في تركيا من قبل عملاء أمريكا في إيران. وقد استطاع آقاي خميني
في هذه المرّة أن يقطع لسان الشاه الذي كان يتّهم المعارضة، باستمرار، بالرجعيّة
والتأخّر، لأنّ خوض معركة ضدّ إعطاء امتيازات جديدة للأمريكان المستعمرين لا يمكن
لإنسان في العالم أن يصف ذلك بالتأخّر".
2- أول المستقبلين للإمام قدس سره
بعد نفي الإمام الخمينيّ قدس سره عام 1965م من تركيا إلى العراق، بذل الشهيد الصدر
قدس سره ما بوسعه في سبيل إنجاح استقبال السيّد الإمام قدس سره في بغداد وكربلاء
والنجف، وقد قام من أجل ذلك باتّصالات مكثّفة من أجل تحريك المرجعيّة لاستقباله،
الاستقبال الذي شارك بنفسه فيه.
3- دعم مستمرّ
بعد استقرار الإمام الخميني قدس سره في النجف الأشرف، دأب الشهيد الصدر قدس سره على
التواصل مع رجالات المعارضة الإيرانيّة الذين كان لهم دورٌ بارزٌ في إيصال شعلة
الثورة الإسلاميّة إلى الفضاءات الدوليّة.
4- طلّاب مشتركون
في خطوة تحوز الكثير من الأهميّة وتحمل العديد من الدلالات، أشار الشهيد الصدر قدس
سره- وعلى خطّ دعم وجود الإمام قدس سره في حوزة النجف- على جملةٍ من طلّابه
بالالتحاقِ بدرس السيّد الإمام قدس سره. وكان السيّد محمود الهاشمي والشهيد السيّد
محمّد الصدر أوّل من استجاب لطلب الأستاذ، وقد قام الشهيد السيّد محمّد الصدر
بتقرير درس السيّد الإمام قدس سره في بحث (البيع).
5- فكر الحكومة الإسلاميّة
عندما شرع الإمام الخمينيّ قدس سره بإلقاء محاضراته حول (الحكومة الإسلاميّة) أو
(ولاية الفقيه) سنة 1970م، عبّر الشهيد الصدر قدس سره عن اعتزازه بكون الإمام
الخمينيّ قدس سره قد طرق هذا الباب الفقهيّ الجديد، قائلاً: "هو أوّل فقيهٍ يتحدّث
بصورة مفصّلة حول الحكومة الإسلاميّة".
ومساهمةً منه في نشر الثقافة الجديدة التي أرسى دعائمها السيّد الإمام قدس سره،
أوصى الشهيد الصدر قدس سره بتوزيع كرّاسات الدروس ونشرها على نطاق واسع.
6- مواقف مواكبة لأيام الانتصار
عمد الشهيد الصدر قدس سره -وفي خطوةٍ تاريخيّة غير مسبوقة من دعمه للثورة- إلى
توجيه رسالة مفتوحة إلى الشعب الإيرانيّ، يدعوه فيها إلى الانضواء تحت راية الإمام
الخمينيّ قدس سره، في وقتٍ كان الإمام الخمينيّ قدس سره لا يزال في باريس، منتظراً
الفرصة المناسبة للعودة.
وبعد امتناع رئيس وزراء الشاه شاهبور بختيار عن فتح المطار في وجه الإمام الخمينيّ
قدس سره، قام الشهيد الصدر قدس سره بإرسال برقيّة استنكاريّة، دعا فيها بختيار إلى
الاستجابة لصوت الشعب الإيرانيّ المسلم، والتوقّف عن ممارساته المشؤومة، وممّا جاء
في برقيّته: "باسم المرجعيّة وعلماء النجف الأشرف أقدّم استنكاري الشديد لغلق
مطارات البلاد، في الوقت الذي عزم فيه آية الله العظمى الخمينيّ على العودة،
ويترقّب الملايين من الإخوة المسلمين في إيران وفي جميع أرجاء الدنيا عودته لكي
يضطلع بدوره القياديّ للشعب، وينهض بمسؤوليته التاريخيّة والإسلاميّة العظيمة،
ويهدي البلد من ظلمات الجهل واللادينيّة إلى نور الإسلام وأشعّة الإيمان".
7- الشهيد الصدر مدوّناً للدستور
إدراكاً منه لصعوبة المشهد الذي يواجهه الإمام الخميني قدس سره وهو على أعتاب إرساء
قواعد نظام جديد، عمد الشهيد الصدر قدس سره -من حسٍّ رساليٍّ مشبع ومقدرة فكريّة
حباه بها الله- إلى سدّ الفراغ الفكريّ الذي لاح له في مشهد الثورة، فبادر إلى
كتابة مسوّدة للدستور الإيرانيّ، فكانت حلقات سلسلة (الإسلام يقود الحياة). ولهذا
السبب يعتبر الكثير من الباحثين الشهيد الصدر قدس سره (أبَ الدستور الإيرانيّ).
ويبدو أنّ سلسلة (الإسلام يقود الحياة) قد نالت إعجاب السيّد الإمام قدس سره ، الذي
لمس في الشهيد الصدر قدس سره قدرةً عزّ نظيرها على قراءة النصوص قراءةً تجمع بين
العمق وبين سعة الأفق، فأعرب لوزير الداخليّة آنذاك الدكتور صادق الطباطبائي عن
رغبته في أن يسدّ الشهيد الصدر قدس سره مجموعة من الفراغات الفكريّة التي تواجهها
الدولة الإسلاميّة الفتيّة، وذلك في مجال الاقتصاد الإسلامي والبنوك والربا وغير
ذلك من القضايا الملحّة التي بلغت نحواً من ثلاثين أو أربعين موضوعاً. وبالفعل
استجاب الشهيد الصدر قدس سره لرغبة الإمام قدس سره ، وكتب نحواً من عشرة كرّاسات
ضمّنها تصوّراته حول كيفيّة مواجهة الواقع الجديد والتعامل معه.
بمجرّد أن لاحت انتصارات الثورة الإسلاميّة الفتيّة على يد الإمام الخمينيّ قدس سره
، سارع الشهيد الصدر قدس سره إلى دعوة طلّابه خارج العراق إلى الالتحاق بركب
الثورة، فكتب إليهم يدعوهم إلى بذل طاقاتهم وإمكاناتهم في خدمة التجربة الجديدة،
فقال: "أكتب إليكم في هذه اللحظات العظيمة التي حقّق فيها الإسلام نصراً حاسماً
وفريداً في تاريخنا الحديث على يد الشعب الإيرانيّ المسلم، وبقيادة الإمام الخمينيّ
قدس سره وتعاضد سائر القوى الخيّرة والعلماء الأعلام، وإذا بالحُلم يصبح حقيقة،
وإذا بالأمل يتحقّق، وإذا بالأفكار تنطلق بركاناً على الظالمين، لتجسّد وتقيم دولة
الحقّ والإسلام على الأرض... إنّ الواجب على كلّ واحد منكم، وعلى كلّ فرد قدّر له
حظّه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلاميّة الرائدة أن يبذل كلّ طاقاته،
وكلّ ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كلّه في خدمة التجربة، فلا توقّف في
البذل والبناء يُشاد لأجل الإسلام، ولا حدّ للبذل والقضيّة ترتفع رايتها بقوّة
الإسلام، وعمليّة البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كلّ فرد مهما كانت ضئيلة.
ويجب أن يكون واضحاً أيضاً أنّ مرجعيّة السيّد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في
إيران اليوم لا بدّ من الالتفاف حولها والإخلاص لها وحماية مصالحها والذوبان في
وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليست المرجعيّة الصالحة شخصاً،
وإنّما هي هدف وطريق، وكلّ مرجعيّة حقّقت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعيّة الصالحة
التي يجب العمل لها بكلّ إخلاص".
وأخيراً، إن كان هذا تاريخ الشهيد الصدر قدس سره المشرق في ما يرجع إلى علاقته
بالإمام الخمينيّ قدس سره وبثورته الإسلاميّة المباركة، فليس غريباً أن يبذل دمه
الزاكي في سبيل عزّتها، رافضاً عرضاً مغرياً قدمّه إليه الطاغية مقابل كلمة إدانة
واحدة بحقّ الثورة وقائدها العظيم، فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث
حيّاً..