مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حماة الإسلام: الشهيد السعيد محمد باقر الصدر


عبقرية فذة مؤمنة عارفة مجاهدة وسفر خالد تقرأ فيه الصلابة في المبدأ والاستقامة في السير، والصبر على استقصاء الأمور.
إنه الشهيد الصدر: مدرسة فكرية شاملة ذات معالم متميزة وخصائص فريدة. إنه تاريخ أمة، تاريخ الإسلام وحركته الصاعدة وجهاد المجاهدين ومعاناة المظلومين. ففي الفقه هو عالم لا يجارى بعد من أكابر الفقهاء، وفي الأصول مدرسة تكاد تسبق معظم المدارس الأصولية على مر العصور، وفي الفلسفة فيلسوف قوي الحجة والبرهان، وفي الاقتصاد وضع أسس المذاهب الإسلامي، وفي المنطق أضاف نظريات جديدة عجز عنها الآخرون، وفي التفسير اتجاه جديد، وفي التاريخ محقق قل نظيره...


* ولادته ونشأته
ولد السيد الشهيد في مدينة الكاظمية في الخامس والعشرين من شهر ذي العقدة. سنة 1353هـ الموافق 1935م. ينتمي إلى عائلة الصدر المشهورة بالعلم والجهاد والتقوى والتي يعود أصلها إلى جبل عامل وفي هذه المدينة المفعمة بروح العلم والجهاد نشأ الإمام الشهيد وملأت أسماعه الصور الجهادية الرائعة لرجال أسرته وأخواله، وفتح عينيه ليشهد انصراف رجالهم للعلم والدفاع عن شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

نشأ الشهيد الصدر في هذه الأجواء ليحمل هموم الآباء وآمالهم. وعاش حياة اليتم وذاق طعم مرارته. فَقَدَ أباه وهو في الثالثة من عمره الشريف، فتولى الإشراف عليه بعد فقدان والديه السيد إسماعيل الصدر.
انصرف السيد إلى المدارس الرسمية فالتحق بمدرسة منتدى النشر الابتدائية التي كانت تعني بالتربية الإسلامية بالإضافة إلى التعليم العصري. ولم تمضِ إلا فترة يسيرة من الزمن حتى لمع بين التلامذة واشتهر اسمه وفاق أقرانه واتجهت نحوه أنظار معلميه وزملائه الطلاب على حد سواء. لقد كان كل ما يُدَّرس في هذه المدرسة من كافة العلوم دون مستواه العقلي والفكري وكان شغوفاً بالقراءة محباً لتوسيع دائرة معرفته ساعياً بجد إلى تنمية مداركه ومواهبه الفذة، لا تقع عيناه على كتاب إلا وقرأه وفقه ما يحتويه.

عندما كان في المدرسة الابتدائية أشكل الشهيد يوماً على معلم التربية الإسلامية الذي أثبت وجود الخالق بأدلة قرآنية فقط فقال له الشهيد الصدر: "إن هذه الأدلة لا تلزم إلا من آمن بالقرآن. فتصور أنني لا أؤمن بالقرآن".

* هجرته ودراساته
في عام (1365هـ) هاجر الإمام الشهيد من الكاظمية إلى مدينة النجف الأشرف مركز الفقه الإسلامي، بمعية السيد إسماعيل وباقي أفراد عائلته. وانصرف لدراسة المعارف الإسلامية وعلومها. وكان واعياً لطريقه، لذلك صمد بكل قوة أمام العوائق التي أريدت له. ونظراً للظروف الاقتصادية والمعيشية التي مرت بها أسرته طلب من السيد أن يترك الدراسة ويعمل في السوق فما كان من الإمام الشهيد إلا أن أحتج على هذا الطلب بالإضراب عن الطعام قائلاً: إن بإمكاني أن أشبع من الغذاء والأكل ولكن ليس بإمكاني أن أشبع من العلم...

وفي النجف الأشرف بدأ حياة جديدة ملؤها الجد فكان دؤوباً على طلب العلم منقطع النظير فلا يرى شخصه في الأندية والمجالس إلا قليلاً. ونقل أنه اتخذ لنفسه غرفة صغيرة في داره لا يخرج منها إلا لأداء الصلاة أو حضور الدرس ولتناول الطعام ومن الطريف ما نقل عن المرحوم السيد إسماعيل من أن خادم العائلة رأى في عالم الرؤيا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول له: "قل لمحمد باقر لماذا لم يأت في هذه الأيام لحضور درسنا" فقص هذا الرجل رؤياه على السيد إسماعيل فقال له: لا أعلم بذلك فليأت السيد محمد باقر ونسأله عن ذلك.
فلما جاء السيد محمد باقر حكيت له هذه الرؤيا فتبسم وقال: سبحان الله أني كنت اغتنم خلو الحرم الطاهر من الزائرين بعد صلاتي الظهر والعصر فأذهب إلى الحرم الشريف لمطالعة دروسي لاستلهم من روحانية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأستفيد من فيض علومه، ومنذ يومين لم أذهب إلى الحرم.

أما مرحلة ما يسمى ببحث الخارج فإن الإمام الشهيد حضر بحث علمين من أعلام الفقه والأصول وهما آية الله العظمى الشيخ محمد رضى آل ياسين، وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. منذ 1365هـ إلى سنة 1378هـ.

* أخلاقه وسجاياه
منذ أن لمع نجمه في مدرسة النجف وحتى لقي ربه شهيداً لم يملك سوى ما يقتات به ليومه. ويقول السيد عبد الرحيم الشوكي: بعثت أحد الأشخاص إلى السيد الشهيد عندما كنت وكيله وأعطيته بعضاً من الأموال ليدفعها إليه ففعل غير إن السيد الشهيد أرجعها إليه ثانية بعد أن رفع منها ديناراً واحداً فتعجب هذا الشخص فسأله عن عدم قبوله للمال فأجابه: فرقوه على من تعرفون من الطلاب المعوزين، فقال له: فلم رفعت منه ديناراً فقط قال: هذا ما يكفيني ليومي، وإن الذي رزقني ليومي هذا سيرزقني لغد.
وأما من ناحية أثاث بيته وفراشه فلا يوجد شيء جديد إلا ما كان موجوداً في أيام زواجه. ومن الطريف ما ينقله أحد تلاميذه أنه سأل الأستاذ الشهيد: فقال سيدنا هل تملكون منزلاً فأجابه: نعم فقال: أين موقعه؟ فقال له السيد الشهيد: في الجنة إن شاء الله.

ومن أهم مميزات العالم أن لا يكون مكباً على الدنيا ولا مقبلاً عليها.. قدس الله روحه الزكية أنه يزدري هذه الدنيا التي قد نخدع بها عادة.. ويرى أنها أحقر من أن تخدع أحداً.. وفي معرض حديثه عن حقارة الدنيا التي قد تخدع طالب العلم أو العالم يقول: "كل دنيا وهم ولكن دنيانا أكثر وهماً من دنيا الآخرين".

ومن أجمل الصور وأروعها وهو يداعب طفلته التي ترى بين يدي أبيها الأموال التي تجبى له وهو محروم منها فيقول لها: أن هذه الأموال ليست لنا وإنما هي أمانة عندنا ترجع إلى المسلمين ولا يمكننا التصرف بها كيفما شاء.
كان يعلم أفراد أسرته كيف يعيشون وهم في موقع المسؤولية والقيادة ليكون الحرمان والمعاناة عن وعي وفي مرضاة الله تعالى. وقد طلب منه في مرحلة ما أن يطبع رسالة عملية فقال: "الرسالة إنما تطبع لجمع شمل الأمة.. أما إذا كانت تفرق فلا خير فيها".

* مواقفه وشجاعته
عندما كان السيد الشهيد في لبنان عام 69 وكان الوضع في العراق يزداد سوءاً. عصفت محنة الكفر عبر البعث في العراق بالحوزة العلمية والشعب العراقي المسلم وحوصر المرجع المقدس السيد الحكيم آنذاك، عرض أحدهم على سماحة السيد الشهيد اغتنام فرصة الخلاف بين نظام الشاه المقبور والبعث في العراق.. وإرسال شخص للعمل في إذاعة الأهواز ضد النظام العراقي.. فكان جواب سماحته واضحاً وقاطعاً: "لا نستعين بالكفر على الكفر".

وفي عام 1972 أرسلت السلطة عضو ما يسمى بمجلس القيادة القومية زيد حيدر، إلى السيد الشهيد لزيارته في بيته في النجف لعرض استدراجه والتأثير عليه، لعله يبدي كلمة أو موقفاً ايجابياً، لكي يتبجح بها النظام.
وعندما عتب زيد حيدر على السيد الشهيد قائلاً لماذا لا تزور القيادة؟! أجابه السيد الشهيد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الملوك، وإذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك.

* الإقامة الجبرية
عندما انتصرت الثورة المباركة في إيران أرسل المرجع الشهيد محمد باقر الصدر رسالة أعلن فيها بيعة مطلقة للثورة والإمام وبكل تواضع وتجاوز للذات بأن وجوده في خدمة وجود الإمام القائد. فما إن سُمع برسالة الشهيد الجوابية للإمام حتى تدافقت وفود البيعة مُيممة صوب النجف الأشرف من كل أنحاء العراق. لإعلان ولائها للمرجع البكير الذي جعل وجوده في خدمة الإمام. وهكذا ذاب الصدر العظيم في الإمام قبل أن يُطلق وصيته: "ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام".

لقد أرعبت هذه الجماهير المتدفقة نحو النجف الأشرف الحكم الصدامي الجائر.. وما إن جاء صباح 13/6/1979م حتى داهمت المخابرات الصدامية منزل الشهيد الصدر وذهبوا به إلى بغداد. وعندما تسرب خبر الاعتقال إلى الجماهير.. بدأت فصول انتفاضة رجب البطولية، في مسيرة الحركة الجهادية بقيادة الشهيد الصدر، مما اضطر النظام الجائر أن يطلق سراح الشهيد في نفس اليوم بعد الظهر، ولكن بدأت قصة الحصار والإقامة الجبرية للمرجع الشهيد وامتدت ما يزيد على ثمانية أشهر ذاق الشهيد الصدر وأخته العلوية وزوجته وأطفاله خلالها ألوان العذاب، وتتحدث الشهيدة بنت الهدى بعد الإفراج المؤقت عنهم قبل الاستشهاد، حيث تقول: "إن ما لاقيناه في أيام الحجز من زمرة البعث الكافر لا يعلمه إلا الله إن السيد أوصانا بكتمان ما حدث ونشتكي إلى الله ممن ظلمنا".

وبدأت أساليب الترهيب والتعذيب لحمل الشهيد على المساومة، وكان الشرط الأول والأساس لفك الحصار والإقامة الجبرية هو "عدم تأييد ودعم الثورة الإسلامية وقائدها".
وجاء الرد البطولي حاسماً: "إن هدفي في الحياة أن أسعى لإقامة حكومة إسلامية فكيف تطلبون مني أن لا أدعم الثورة الإسلامية في إيران وقائدها العظيم؟ّ! كيف تطلبون مني أن لا أؤيد الإمام الخميني وقد حقق ما كنت أرجوه وأسعى إليه؟! إنكم تطلبون المستحيل ولن أبخل بحياتي إذا توقف عليها تحقيق هدفي؟"!

* شهادته
لقد خشي الحاكم الطاغية من وجود السيد حتى وهو محتجز في بيته لا يتصل بأحد، فوجود السيد بحد ذاته وحتى لو لم يباشر أي عمل يعتبر ملهماً ومشجعاً للشعب العراقي وطلائعه. فعمدت اليد الاستكبارية لتذبح هذه العبقرية الفذة من القفا، ليسقط الشهيد أمام عيني أخته العلوية بنت الهدى، مضمخاً بدمائه الطاهرة، وكانت الجريمة الكبرى.

وكم كان ألم الإمام الخميني كبيراً عندما قرع سمعه نبأ الاستشهاد..
وقد خرج للشعب وهو يقول: "إن الشهيد الصدر شخصية علمية مجاهدة وهو من مفاخر الحوزات العلمية ومراجع الدين والمفكرين الإسلاميين..
لا عجب لشهادة هؤلاء العظماء، الذين أمضوا عمراً في الجهاد في سبيل الأهداف الإسلامية على يد أشخاص جناة فضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنما العجب هو أن يموت مجاهدو طريق الحق في الفراش دون أن يلطخ الظلمة الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم".

ويبقى (الصدر) كنهه سراً، فهو الكنز الذي أودع الثرى، فعرجت روحه إلى روضة من رياض الفردوس مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
فسلام على العبقرية الذبيحة.. وسلام على العلم المسفوك..
وسلام عليك يوم ولدت جنيناً عليه مخائل العظماء ويوم استشهدت فخرجت إلى مقعد الصدق عند رب السماء، ويوم تبعث لفصل الخطاب بين آبائك الأصفياء..
وإنا لله وإنا إليه راجعون

* من مؤلفاته
1- تعليقة على منهاج الصالحين للسيد الحكيم قدس سره.
2- الفتاوى الواضحة.
3- دروس في علم الأصول.
4- فلسفتنا.
5- اقتصادنا.
6- الأسس المنطقية للاستقراء.
7- فدك في التاريخ.
8- بحث حول المهدي.
9- بحث حول الولاية.
10- البنك اللاربوي في الإسلام.
11- نظرة عامة في العبادات.
12- المدرسة القرآنية.
13- المرسل والرسول والرسالة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع