الأسير المحرر علي حيدر
بعد أن تحدثنا عن السياسة الإسرائيلية في معتقل الخيام، قبل الشروع في الحديث عن ردة فعل الأسرى على ذلك وآلية حركتهم المضادة نرى أنه علينا أن نمر على موضوع ظروف المواجهة وخيار المعتقلين إضافة إلى المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الأسير أو المعتقل.
* ظروف المواجهة والقرار - الخيار:
إن الواقع إذا ما قيس بالمقاييس المتعارفة لموازين القوة وتحديد الظروف الايجابية والسلبية لكل من طرفي الصراع فإنه لا يقارن وذلك الأسرى داخل المعتقل فضلاً عن أنه يُعمق ويبرز من دلالاته، كي لا والجلاد هو المسيطر بينما الأسير مقيد، والمجرم هو الممسك بوسائل القوة بينما المعتقل أعزل، المحتل قادر على العبث كما يشاء والحر مطوّق بالجدران والأسوار المحصنة...
وبعد كل ما ذكرناه نسأل هل شكلت هذه الظروف مبرراً ودافعاً للأسير لكي يعتبر أن دوره الجهادي قد تجمد؟ وهل أدى هذا الوضع المذكور إلى الإيقاع بالمعتقلين في فخ الإحباط وحبائل اليأس وجعلهم ينكفئون ويتراجعون..؟.
في الواقع إن ما ترجمه المعتقلون - بنسب مختلفة - بأقوالهم وأفعالهم ومعاناتهم يحكي قصة جهاد طويل داخل السجون ويعبر عن وعي وأصالة ورسالة تضرب بجذورها في أعماق النفس فلا تمحوها ولا تزلزلها آلام ولا ضغوطات ولا تغشاها طفرة شك وانهزام، وإذا أردنا أن نجمل بعض هذه المظاهر التي تجسد ذلك نجد انتفاضة هنا، ورفض واعتراض هناك وإصرار ومواقف ثمنها دماء وآلام وجوع ومعاناة...
* سر القوة والصلابة...
لعل ما يرغب الإنسان بمعرفته والإحاطة به هو سر القوة التي مكنت الأسير من مواجهة واقع الأسر والنظرة إلى المعتقل باعتباره ساحة من ساحات الصراع وذلك على الرغم من الظروف والمعطيات التي أشرنا إليها... إلا إنني لن اعتمد أسلوب تعداد النقاط الفكرية والروحية والثقافية... وإنما أريد أن أكتفي بعرض مجموعة من الأجوبة عن سؤال من هو الأسير؟ والتي يمكن من خلالها ومن خلال سردها التعرف إلى أسباب ومنطلقات تلك المواقف التي اتخذوها والنهج الذي انتهجه الأسير المعتقل.
من هو الأسير؟
- الأسير هو إنسان قد تبنى قضية تجاوزت نطاق الذات لتستوعب الوطن الأمة أو هو أقرب إلى ذلك.
- الأسير فيما يفترض أن يكون هو إنسان قدّر فقرر أن يقدم ذاته قرباناً لتحيا الأمة من بعده فكان مشروع شهيد لذا كان منطقه منطق الشهيد الحي أو هو أقرب إلى ذلك.
- الأسير فيما يفترض أن يكون هو إنسان قد اضمحلت كينونته الشخصية في الوطن والأمة فكانت مقاييسه - وهو داخل المعتقل - ما يخدم قضية الوطن والأمة أو هو أقرب إلى ذلك.
- الأسير - فيما يفترض أن يكون - قد تماهى الوطن والأمة مع جوهر ذاته فأضحى الوطن والأمة المحور الذي يحدد خطواته أو هو أقرب إلى ذلك، ولذا أصبح الأسير رمزاً من رموز المسيرة، وعنواناً من عناوين القضية وقضية الوطن والأمة...
ولكن أليس في ذلك نوع من المبالغة وإعطاء للواقع وصفاً أكبر من حجمه، بكل بساطة ووضوح لا... لأن ما ذكر ليس إلا تعريفاً للمجاهد المرابط، ولو لم يكن المجاهد كذلك لما انتدب نفسه للدور الذي يقوم به كما أن التضحيات التي يقدمها المجاهدون تُبرز وبشكل جلي هذه المضامين...
وما الأسير إلا مجاهد وقع في الأسر الذي جعله على تماس مباشر مع الظروف التي تشكل محكاً واختباراً لهذه الروح ولهذه الذهنية التي تتضمنها الأجوبة المطروحة عن سؤال من هو الأسير؟...
ولكن أكثر ما تتجلى هذه المعاني وغيرها ويبرز رسوخها وتجذرها في النفس هو في ذلك المجاهد الذي يبلغ الذروة في العطاء والقمة في التضحية ونكران الذات ألا وهو الشهيد.
في مقابل هذه الصورة البيضاء هناك مخاطر الأسر كفرد حيث أن كل أسير معرض إلى السقوط في أحضانها ومخاطر الأسر كجماعة أيضاً هذه المخاطر كانت كذلك بمثابة أهداف سعى الإسرائيليون والعملاء إلى تحقيقها.
* مخاطر الأسر كأفراد...
إن الوقوع في هذه الأخطار أو النجاة منها ما هو إلا نتيجة صراع ميدانه نفس الأسير وأطراف الصراع فيه متمثلة بالغرائز المادية التي تدفع بالإنسان إلى الموقف والفعل الذي يلبيها، وتغذيها كل ظروف الأسر التي تضغط وتلقي في مخيلته التصورات التي تبرر له كل ما من خلاله يظن أنه قد يحقق له أمانيه في الراحة والأمن والطمأنينة. والطرف الآخر في الصراع متمثلاً بكل ذلك المخزون الفكري والتعبدي المبني على أساس الارتباط باللّه.
والذي يتغذى ويتزود بالتوجه والتواصل والعيش مع اللّه إلى جانب صدى العمليات الجهادية للمقاومة الإسلامية في نفوس الأسرى والمعتقلين (التي سيكون لنا حديث عنها إن شاء اللّه مستقبلاً) أضف إلى ذلك أن حركة التعبئة والرفض والمواجهة التي كان يقوم بها الأسر تؤدي فيما تؤدي إليه إلى جو تعبدي وإيجاد مستوى معين من المعنويات تساهم في تثبيت أصبحت العلاقة بين حركة أسير داخل المعتقل وبين محتواه الداخلي علاقة تأثير متبادل وبالتالي تساهم في تحصين الأسير من الوقوع في الهاوية.
.... فمن خطر السقوط ومحاولات دفع الأسير للانتقال من معسكر المقاومة إلى المعسكر الآخر والذي يجسد ذروة الانحراف إلى خطر الرضوخ للابتزاز والتي كثيراً ما يتعرض لها الأسير وذلك في رهان على مساومته في الأمور الحياتية والنفسية.... ككتابة رسالة تطمين للأهل مقابل تمرير مضمون معين داخلها - أحياناً - وكمعالجة طبية وتحسين وضع (مساومة غير مباشرة) مقابل الامتناع عن أقوال وأفعال معينة وقد يتجلى سقوط البعض بغير المفهوم المذكور أعلاه وبغير مفهوم الرضوخ للابتزاز... وإنما بمعنى أن يقنع الأسير نفسه بأنه طالما أن الظروف ليست في مصلحتنا وطالما نحن غير قادرين على تغيير واقع الحال فإن من الحكمة الانكفاء والتراجع وذلك بتجميد أي نشاط والامتناع عن أي موقف قد يسبب للأسير أذية معنوية أو مادية...
إن المخاطر التي ذكرناها هي ذات طابع سلوكي (الانحراف - الرضوخ - التراجع والانكفاء) لذا فإن من الطبيعي أن يكون لها جزء نفسي أدى إليها ومطلوب من الأسرى أن يحذروا من الوقوع فيه وهو سبب كل البلايا، وخاصة أن الواقع قد كُون بالشكل الذي يؤدي إلى تحقيقه هذا الجذر النفسي وهو الشعور بالإحباط واليأس والهزيمة النفسية وانبعاث مارد التعلق بالشهوات وما يتبعه منحسرات وآهات...
* مخاطر الأسر كجماعة...
يتميز مجتمع الأسر بخصائص تميزه عن كثير من البيئات إذ يتسم بطابع التنوع بمختلف المقاييس الفكرية والسياسية والاجتماعية (... حزب اللّه... شيوعي... أمل... ودكتور... طالب... أستاذ... عامل....) وهذا النوع المكوّن من عناصر متعددة هو في حالة حركة واحتكاك دائمين وذلك في ظروف مشتركة أضحت معروفة.
وان التوتر النفسي وعدم التماسك فضلاً عن الشعور بالهزيمة النفسية واليأس إذا اقترنوا بعدم توافر الوعي الحركي والرسالي المطلوب قد يؤدي بذلك المجتمع (الأسري) إلى أن يعيش ظلمات بعضها فوق بعض وتمتلئ الأنفس غماً وهماً وتتقزم القضايا وتتفجر التناقضات وتستيقظ العصبيات...
ولعل من أبرز المخاطر التي يمكن أن يصاب بها مجتمع الأسر هي الللامبالاة - التفكك - والاستعداء حيث أن من المساوئ التي يمكن أن يبتلى بها الأسرى هو أن يعيش الإنسان هم نفسه فقط وأن لا يبالي بما يجري مع الآخرين ما دام يظن نفسه أنه بخير... وأن الخطر كل الخطر على الأسرى وأوضاعهم في حال عمت هذه الحالة (وهي لم تكن موجودة لدى الأكثرية).
كما أن من المخاطر هو أن يتعامل الأسر مع بعضهم كمجموعات متفرقة أياً كان أساس تجمعها مناطقياً - طائفياً - حزبياً بحيث ترى أن مصيرها وراحتها وتآلفها يتم بمعزل عن بقية الأسرى، والاستعداء هو ذروة المخاطر إذ أنه تحويل لوجهة الصراع وتحكم من خلاله العصبيات وتوضع القضايا الكبرى فيه على الرف وهو تحقيق - وان بغير قصد - لما سعى ويسعى العملاء له.
هو إذاً الضربة القاضية على كيان وترابط مجتمع الأسر الذي يثبت بعضه بعضاً.
ونحب هنا أن نشير إلى أنه علينا أن لا نخلط ما ذكرناه مع الحوار الفكري ودعوة كل أسير إلى الرسالة والخط الذي يؤمن به.
والآن بعد ذكر المخاطر والإشارة إلى الظروف (للمعتقل) وفي ظل هكذا سياسة إسرائيلية متبعة كيف واجه الأسرى والمعتقلون الجلادين الصهاينة وعملاءهم وما كانت آلية حركتهم المضادة، هذا ما سنتركه للعدد القادم.
* موقف وعبرة
الصلابة والتحدي
قد يكون لكثير من المواقف قيمة ودلالة معينة في مضمونها، ولكن ما يؤكد أهميتها ودلالتها فيما تعكسه من صلابة في الموقف ورسالية في الانتماء هو الظرف ورسالية في الانتماء هو الظرف الذي اتخذ في ظله هذا الموقف... فكيف إذا كان هذا في معتقل الخيام وتحت قبضة الجلادين الصهاينة حيث للكلمة ثمنها وللفعل ثمنه وللإصرار ثمنه.
في إحدى سنوات الاعتقال وحيث كان الأخ أبو مصطفى معاقباً في سجن رقم (2) وبينما كان المسؤول العسكري للثكنة (معتقل الخيام) وهو ضابط برتبة نقيب - عامر الفاخوري - يجول في السجن برفقة عدد من أعوانه أوقفه أخ مجاهد يريد أن يتكلم معه.
وبدأ أبو مصطفى الكلام.... أراد الضابط أن يقاطعه فقال له الأخ أبو مصطفى بحزم: لا تقاطعني لم انته من كلامي بعد (الصدمة الأولى).
سكت الضابط ولم يعلق، ثم أكمل الأخ متابعاً: أن كمال جودية (عميل زنزانة) يقدم التقارير بالشباب الذين لا يعجبونه لإنزالهم إلى هذا السجن عقاباً وأنتم فسحتم له المجال بذلك لذا إذا لم توقفوه عند حده أو يرتدع هو عن ذلك وتسنى لي أن أضع يدي عليه سأقتله داخل السجن (الصدمة الثانية. كيف يجرؤ هذا الأسير على مخاطبتي بهذا الشكل وأنا الآمر الناهي هنا).
حاول الضابط أن يتمالك أعصابه فقال: أنت في نفق مظلم ففكر كيف تخرج منه بدلاً من هذا...
قال أبو مصطفى: في كل الأحوال أنا في نفق ولا يهمني ماذا يحدث فإذا وضعت يدي عليه سأقتله.
فبهت الذي كفر ثم ولى مدبراً...
*ا لأسير المحرر الأخ علي حيدر من بلدة مركبا المحتلة، ولد في الأشرفية في العام 1963 في بتي متدين محب لأهل بيت العصمة والطهارة.
ومع اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975 تهجر مع الأهل إلى بلدته مركباً ثم عاد إلى الضاحية بعد عامينمن الزمن. وهناك بدأ إلتزامه الديني يقوى ووعيه الثقافي يكبر أكثر فأكثر إلى جانب تحصيله العلمي في ثانوية حارة حريك الرسمية..
ومع الاجتياح الإسرائيلي انتقل إلى بلدته مركبا ليشارك في أعمال الجهاد والمقاومة إلى أن اعتقل في 8/10/1985 وأودع سجن الخيام.
أمضى أحد عشر عاماً في سجن الخيام قضى سبع سنوات منها في أحد الأقسام المخصصة للعقاب نظراً للنشاطات التعبوية والثقافية التي كان يقوم بها داخل المعتقل.
حاول العدو مساومته ليعقد مؤتمراً صحافياً (بمضمون محدد مسبقاً) مقابل تحسين وضعه الصحي خاصة وأنه تعرض لأمراض عديدة من العام 86 وإلى ما بعد تحرره، ولكن الرفض المطلق كان الموقف الحاسم والدائم.
تحرر في 21/7/1996 ضمن عملية تبادل الأسيرين التي قامت به المقاومة الإسلامية مع العدو الصهيوني.