السيد عباس نور الدين
قال أمير المؤمنين عليه السلام في ذكر أحد أهداف بعث الأنبياء وإرسال المرسلين: "... ابتعثهم (إلى الناس) ليستأدوهم ميثاق فطرته...". لقد جاء التعبير هنا حول هذا الهدف الكبير بأداء الميثاق. وكأن هناك عهداً وميثاقاً موقعاً من قبل طرفين، حيث يأتي الأنبياء للمطالبة بالالتزام بهذا العهد كونهم أمناء على أخطر قضية في الوجود وهي الإنسانية.
لقد جعل الله الإنسان إنساناً عندما ركّب فيه فطرة هي أصل خلقته، توجهه نحو الخير والكمال، وتنفّره من الشر والنقص... وبهذا تزود الإنسان بما يحتاجه طوال مسيرته الشائكة المليئة بالامتحانات. وهذا الفعل الإلهي هو التوقيع الرباني على الميثاق. أي أن الله تعالى لما خلق الإنسان وزوده بهذا التوجه الذي يشمل كل وجوده سبحانه دعاه إليه تكويناً، ويسّر له سبيل الوصول.
هذه الفطرة التي تطلب وتعشق الكمال المطلق ولا تريد سواه، هي الضامن. في حال فعاليتها لتوجيه مسيرة الإنسان وسعيه باتجاه المطلوب.
وحيث أن الإنسان يغفل عن هذا الأمر، أو يحجب عن هذا التوجه ويضع عليه تلك الأستار الكثيفة من النسيان (نسوا اله فأنساهم أنفسهم) فإن الله لسعة رحمته بعبده، يرسل إليه الأنبياء ليذكروه ويطالبوه ويرجعوه إلى أصل خلقته، لعله يسمع مجدداً نداء ذاته وفطرته.
وهكذا يمكن اختصار السعي الإيجابي للإنسان بأنه عملية رجوع مستمر إلى الفطرة بعد إزالة الموانع والحجب الساترة لتوجهاتها وفعاليتها، حتى إذا وصل إلى منبع الفطرة الزلال، لا يبقى بينه وبين الحق مانع ويدرك سعادته المطلقة ويحقق إنسانيته التي هي مظهر خلافة الله على الأرض.
لم يكتف الأنبياء بالدعوة والمطالبة أو بالتعليم والتذكير، بل حملوا معهم تلك البرامج العملية التي تمكن الناس من استعادة أو إحياء فطرتهم وجعلها في قمة التأثير والعمل.
وكانت هذه البرامج عبارة عن ذلك النظام الشامل للعبادة والطاعة التي تقوم في جوهرها على إزالة الحجب وتصفية باطن الإنسان كي يرجع إلى فطرته الطالبة للحق سبحانه.
ومن أعظم تلك البرامج الصلاة، التي هي عبادة جامعة، يمثل كل جزء فيها طريقاً للرجوع إلى الفطرة. وحيث أن الكلام قد وصل إلى الاستقبال فلنتعرف إلى ما فيه في هذا المجال.
يقول إمامنا الخميني (قدس سره) : "اعلم أيها السالك إلى الله أنك إذا حرفت وجهك الظاهري عن الجهات المتشتتة لعالم الطبيعة، وتوجهت إلى النقطة الواحدة، فقد ادعيت فطرتين من الفطرة التي خمرت بيد الغيب وأخفيت (أودعت) في ذاتك".
استقبال القبلة أثناء الصلاة وعدم التوجه إلى ما سواها هو نوع من التمرين والمجاهدة لإظهار الأمور الفطرية الموجودة في أعماق الإنسان، ذلك لأن الفطرة الإنسانية تتجلى بأمور عديدة، كل واحدة تسوق الإنسان إلى معدنها وأصلها.
"وقد خمّر الحق تعالى طينتك بها بيدي الجلال والجمال. وأنت تُظهر هاتين الحالتين الفطريتين بصورة ظاهرية دنيوية وتقدم الشهادة عليهما والبينة على عدم احتجابك عن نور هاتين الفطرتين الإلهيتين وذلك بصرف الظاهر عن الغير والتوجه إلى القبلة التي هي محل ظهور يد الله وقدرة الله" (آداب الصلاة - ص 205).
وعندما يتعرف السالك إلى هذه الأمور الفطرية، ويلتفت إلى ما في العبادة من إحياء وإظهار لها من مكامن نفسه إلى كل وجوده، تصبح عبادته عملية تكامل مستمر، وأداءً للميثاق الذي قطعه مع ربه في قوله تعالى: (ألست بربكم).
أما الاستقبال فقد عرفناه وأما هاتان الفطرتان فهما "التنفر من النقص والناقص، والثانية عشق الكمال والكامل".
وما يحققه الاستقبال هو أنه يؤكد هاتين الفطرتين عندما يوجه الإنسان إلى الكعبة التي هي محل ظهور يد الله وقدرته، ويمنعه من التوجه إلى غيرها الذي هو النقص والمحدودية. أي أن الشق الأول من استقبال القبلة أثناء الصلاة عبارة عن التوجه إلى الكمال، والثاني الذي يستلزمه هو الإعراض عن النقص.
هذا الادعاء بالنسبة للأنبياء والكمّل من أهل المعرفة أمر حقيقي، حيث يكون توجههم تعبيراً عن فنائهم في الحق وظهوراً لقوة فطرتهم التي هي الفطرة الصافية الكاملة. وعلى هذا الأساس، لا تكون عبادتهم سيراً من النقص إلى الكمال، ومن المحدود إلى الكامل. بل هي تجوال وسياحة في الكمال ومراتبه.
أما بالنسبة لنا أصحاب الحجاب، فإن الإدعاء عبارة عن تفهيم القلب أنه لا كمال ولا كامل في جميع دار التحقق سوى الذات المقدسة الكاملة على الإطلاق، وما يوجد في كل الوجود من الكمال والجمال والخير فهو من نور جمال تلك الذات المقدسة، وليس لموجود جمال ولا كمال ولا نور، ولا بهاء إلا بجمال تلك الذات المقدسة وكمالها ونورها وبهائها.
وهذا التفهيم والتلقين المستمر للقلب المشفوع بالعبادة والعمل هو الذي يرسخ المعنى في القلب، ويجعله شاهداً على هذه الحقيقة، فيتنور وجود السالك بهذا النور الذي هو نور الفطرة. وبعدها لن يحتاج إلى إعمال روية، بل نفس هذه الفطرة تدعو الإنسان بنفسها إلى الله بالدعوة الجبلية الفطرية، ويصبح "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض" لسان حال الذات والقلب.
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إذا استقبلت القبلة فآيس من الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه. واستفرغ قلبك عن كل شاغل يشغلك عن الله تعالى. وعاين بسرّك عظمة الله تعالى. واذكر وقوفك بين يديه يوم تلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى مولاهم، وقِف على قدم الخوف والرجاء".