مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شروط صحة وقبول الحج

بقلم الشيخ محمد توفيق المقداد(*)


ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام (الحج حجان: حج لله وحج للناس، فمن حج لله كان ثوابه على الله الجنة، ومن حج للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة).
يشير هذا الحديث بوضوح إلى شرط أساس من شروط صحة فريضة الحج، بل شرط من شروط القبول عند الله عزَّ وجلَّ وهو "الاخلاص" الذي يعني أن ينطلق المؤمن في عمله قاصداً به وجه الله عزَّ وجلَّ دون غيره، ومن دون أن ينتظر المديح أو الثناء أو التكريم او غير ذلك من الناس على العمل الذي ام به، وإنما يقوم به طاعة لله وامتثالاً لأمره دون سواه.


وقد ورد الاخلاص في العديد من آيات القرآن الكريم وكلها تشير إلى أن العمل إنما يكون عظيماً وذا قيمة عند الله مع الإخلاص، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:  ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾َ  وقوله تعالى:  ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين﴾َ  وقوله تعالى أيضاً: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً..) وكذلك: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، ومنها قوله تعالى:  ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون﴾َ  ومنها أيضاً:  ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، وعن إخلاص الأنبياء عليه السلام ورد قوله تعالى:  ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين﴾. وعن ثواب المخلصين في الآخرة يقول القرآن الكريم:  ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ،  أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ، فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ ، وفي الخطاب القرآني لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴾.

وعلى مستوى أحاديث أهل بيت العصمة عليهم السلام فإننا نجد الكثير منها، وكلٌ منها يشير إلى أهمية الإخلاص في صحة العمل وقبوله عند الله عزَّ وجلَّ، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى: "الإخلاص سر من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي" وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "بالإخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين"، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإخلاص عبادة المقربين" و"الإخلاص أعلى الإيمان" و"في الإخلاص يكون الخلاص" و"كلما أخلصت عملاً بلغت من الآخرة أملاً"، وعن الصادق عليه السلام: "ولا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون لأنه إذا لم يكن هذا المعنى يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال:  ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ وقال: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

لذا نجد أن ما ينافي الإخلاص وخصوصاً "الرياء" مبطل للعمل وفق فتوى آية الله العظمى الإمام الخامنئي (دام ظله) وكذلك وفق فتاوى مراجعنا العظام طوال تاريخنا العام، لأن الرياء هو عبارة عن إشراك غير الله في نية العمل العبادي، وهذا الإشراك مبطل للعمل ولاغٍ له ويترتب عليه وجوب الإعادة مع الإمكان أو القضاء مع حصول الإثم الذي ينتج العقاب يوم القيامة، وفي سؤال موجّه إلى الإمام الخامنئي (دام ظله) عن شخص مبتلى بالرياء في عباداته وهو يسعى ويجاهد نفسه للتخلص من تلك العادة المبطلة للعمل، فما هو حكم أعماله؟ وكان الجواب هو (يجب الإتيان بالعبادات (الحج، الصلاة، الصوم، وغيرها) بقصد القربة لله عزَّ وجلَّ، ومن أجل التخلص من الرياء فعليه التفكر في عظمة الله عزت آلاؤه، وفي ضعف نفسه واحتياجه كغيره إليه تعالى، وعبوديته، وسائر الناس له تعالى شأنه وعز اسمه).

وهكذا يتضح أن الأساس في صحة الحج وقبوله عند الله عزَّ وجلَّ لا يكون عبر التلفظ الجيد بالتلبية أو عبر لبس ثوبي الاحرام بشكل صحيح والالتزام بما يحرم على الحاج بعد لبسهما ولا بالطواف الدقيق حول الكعبة ولا بالسعي للأشواط السبعة ولا بالرجم ولا بالحلق ولا بالمبيت، وإنما صحة الحج وقبوله مشروطان بالنية الخالصة لله عزَّ وجلَّ قبل أي شيء آخر، ثم باتقان العمل عن وعي وادراك ومعرفة بالغرض الأساس من كل فعل من أفعال الحج كما ورد ذلك في الأحاديث الكثيرة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، لأن من شروط صحة العمل أحياناً، بل من شروط قبوله معرفة الأهداف المطلوبة من العمل، لأن هذه المعرفة دخيلة في كيفية تعامل الإنسان مع تكليفه ومع الواجب عليه.
ولذا فعندما يعرف الحاج ما هو الهدف المترتب على كل منسكٍ من مناسك الحج فإنه سيندفع للقيام به بشوق وشغف ورغبة ودقة واتقان خوفاً من عدم حصول ذلك الهدف الذي سيؤدي إلى ضياع الكثير من الأجر والثواب من جهة، وإلى الشك في قبول العمل أو في صحته من جهة أخرى.

وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام العديد من الروايات التي توضح الهدف الحقيقي من كل منسك من مناسك الحج، فمثلاً في الاحرام ورد أن الهدف منه هو "وأحرم عن كل شيء يمنعك عن ذكر الله ويحجبك عن طاعته" وفي الطواف ورد أن الهدف منه هو "وَطُفْ بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت" وفي الرمي ورد أن الهدف منه هو "وَارمِ الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات"، ولا بأس بأن يتعرف كل مسلم إلى هذه التفاصيل المهمة لعبادة الحج حتى يقوم بأدائها بالطريقة التي تجعل من ذلك الحج مقبولاً عند الله وزاكياً ونامياً.

وهذا النوع من الحج المشبع بالإخلاص وبالمعرفة هو الذي تترتب عليه تلك الفوائد التي جعلها الله جوائز وهدايا من قبيل غفران الذنوب ودخول الجنة والحفظ في المال والأهل والولد، وهذا النوع من الحج هو الذي يجعل الإنسان آمِناً من الفزع الأكبر يوم القيامة ولو لم يصل إلى مكة لأداء المناسك فيما لو مات في الطريق كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام (من مات في طريق مكة، ذاهباً أو جائياً أَمِنَ من الفزع الأكبر) أو (من مات محرماً بعثه الله ملبياً).

أما من أراد الحج لكي يباهي به الناس ويمارس الخداع والنفاق، فإن الله عزَّ وجلَّ لن يقبل ذلك الحج وسيرده إلى صاحبه ليأخذ أجره ممن نوى له ذلك الحج كما نرى ذلك من بعض أهل الدنيا الذين لا يريدون من هذه العبادة الجليلة إلا أن تكون باباً لهم إلى قلوب الناس وعقولهم ليكسبوا ثقتهم أو ليزيدوا من أرباحهم أو ليصلوا إلى مواقع معينة لا مجال للوصول إليها إلا عبر التكسب بهذه العناوين الإيمانية ولو عبر أساليب النفاق والخداع والكذب والغش.

إن أمثال هؤلاء الذين يحجون بهذه النوايا الباطلة البعيدة عن روحية الإخلاص والطاعة الحقيقية لله هم النماذج السيئة عن الاستغلال البشع لمفاهيم الإسلام وأحكامه، وهؤلاء الذين ينطبق عليهم حديث الصادق عليه الصلاة والسلام عندما يتحدث عن علامات الظهور حيث عدَّ منها: (.. ورأيت طلب الحج والجهاد لغير الله... فَكُنْ على حذرٍ واطلب من الله النجاة...).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المخلصين له في الفعل والقول وأن لا يجعلنا ممن يكون عملهم هباءً منثوراً وأن يرزقنا شفاعة محمد وآله صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع