مما لا شك فيه أن الماء هو أصل الحياة على الأرض ولولاه لما تمكنت المخلوقات من المعيشة. والماء هو المعجزة الإلهية على الأرض وهو الذي شكل أساس الحياة عليها. ويعتقد العلماء أن الأرض في بدايات تكونها كانت عبارة عن أرض يابسة حارة لا يوجد فيها غلاف غازي ولا تنتشر عليها البحار والمحيطات والأنهار. وبعد استقرارها بدأت البراكين تتدفق إلى السطح من أعماقها مما أدى إلى انبثاق الغازات التي تصاعدت إلى أعالي الجو وبضمنها بخار الماء الذي كان محبوساً بين الطبقات الصخرية في أعماق الأرض. وبدأ بخار الماء يتكثف في أعالي السماء ليتحول إلى مطر غزير هبط على الصخور والصحاري ليشكل المحيطات والبحار والأنهار. وكانت تلك بداية الحياة البسيطة على الأرض منذ ملايين السنين. ولا زالت الصخور الموجودة في باطن الأرض تحتوي على كميات هائلة من المياه الجوفية.
وتشير الدراسات العلمية إلى أن كمية الماء الموجودة تحت عمق 800 متر تحت الأرض تبلغ 3000 مرة أكثر من كمية الماء الموجودة في جميع أنهار الأرض و20 مرة أكثر من كمية الماء الموجودة في أنهار وبحيرات العالم. ولذلك فمن غير المستغرب اعتماد الكثير من الناس في دول عديدة من العالم على المياه الجوفية كمصدر رئيس للمياه الصالحة للشرب. وحتى في الولايات المتحدة التي تشتهر بوجود بحيرات المياه العذبة ونهر المسيسبي الكبير فإن 20 في المئة من مصادر المياه العذبة فيها تأتي من المياه الجوفية بواسطة الآبار. إن الماء بجوهر ذاته يحتوي على صفات وخصائص تميزه عن باقي أنواع المعادن أو المركبات المعروفة والعجيب في أمر الماء أنه يتكون من غازين وهما الأوكسجين والهيدروجين وإن درجة انصهار هذين الغازين هي أكثر من 200 درجة تحت الصفر. ومع ذلك فإن الغازين اندمجا ليشكلا الماء السائل الذي تكون درجة انصهاره الصفر المئوي.
والأمر العجيب الآخر في الماء أن سطح البحيرات والأنهار قد يجمد عند حلول فصل الشتاء إلا أن أعماقه تبقى محافظة على شكلها المائع حتى لا تموت الأحياء المائية بسبب اختلاف كثافة الماء عند درجة تجمده. والجليد هو عبارة عن ماء متجمد لكن كثافته أقل من كثافة الماء ولذلك يطفو على سطح الماء رغم كونه متجمداً. في نفس الوقت فإن درجة غليان الماء هي 100 درجة مئوية في الضغط الجوي الاعتيادي. وتزداد درجة الغليان عند زيادة الضغط. وللإبقاء على الماء في حالة سيولة بدرجة حرارة 374 مئوية يجب زيادة الضغط إلى 22 ضغطاً جوياً. وهذا هو سبب اعتقاد العلماء باحتمال وجود ماء في بعض الكواكب كالزهرة مثلاً بالرغم من ارتفاع درجة حرارتها إذ أن الضغط الغالي قد يكون كفيلاً بالإبقاء على الماء. إلا أن الأشعة فوق البنفسجية يمكنها تحليل الماء بواسطة كسر الأواصر الكيمياوية بين الأوكسجين والهيدروجين. ولولا موقع الأرض البعيد نسبياً عن الشمس ولولا وجود الغلاف الغازي المحيط بالأرض لما تمكن الماء من البقاء بعد هذه الفترة الطويلة في تاريخ الكون ولما تمكنت الأحياء من الاستمرار لحد اليوم وتلك لعمري معجزة إلهية لا يدرك عظمتها إلا المؤمن بوجود لطيف خبير.
وفي أعالي الجبال ينخفض الضغط الجوي مما يؤدي إلى خفض درجة غليان الماء. وعلى جبل أفرست مثلاً فإن الضغط الجوي يبلغ ثلث الضغط الجوي الاعتيادي ولذلك فإن الماء يغلي في درجة حرارة 70 درجة مئوية بدلاً من 100 درجة على سطح الأرض. وفي الضغط المنخفض يتحول الثلج إلى بخار مباشرة بدون المرور في مرحلة السيولة، وهي خاصية أخرى من خواص الماء العجيبة. والأرض بحسب موقعها في المجموعة الشمسية وبحسب تركيبتها مكنت الماء من البقاء للمحافظة على الحياة.
* الماء ودرجة حرارة الأرض:
ويجمع العلماء بأن الأرض تمر بمرحلة تزايد في درجة حرارتها بما يسبب ظاهرة البيت الزجاجي (التسخين العالمي) أو يسبب عوامل أخرى. وتزايد درجات الحرارة ساهم إلى حد ما بتغيير مناخ الأرض وهو التغير الملحوظ في العقد الأخير من هذا القرن والذي يبدو بظاهرة اختلاف مناخ المواسم عن الحد المعروف. وليس من العجب رؤية الثلج في موسم الصيف وهو ما حدث في الولايات المتحدة قبل فترة أو وجود فترة حر في موسم الشتاء. كذلك فقد ازدادت حدة العواصف والأمطار الغزيرة في بعض مناطق العالم بينما شحت الأمطار في دول كانت تعتمد أساساً على الأمطار للشرب والزراعة ومنها بريطانيا.
وبسبب المناخ المتقلب بدأت مياه الأمطار بالشحة وانخفض معدل نزول الأمطار ما أدى إلى جفاف الكثير من الأنهار والبحيرات والآبار وازدياد ظاهرة التصحر التي تعاني منها البلاد العربية ومناطق أفريقيا وبعض الدول الآسيوية، وعند ازدياد درجة حرارة الأرض يبدأ سطح الماء بالتبخر والصعود إلى أعالي السماء ما يزيد من درجة ملوحة البحار والأنهار. وزيادة ملوحة سطح الماء تجعله أكثف من الماء البارد الموجود في الأعماق وارتفاع ماء الأعماق البارد والأقل كثافة نحو الأعلى. وهذه العملية تؤثر بدورها على التيارات المائية في البحار والمحيطات التي تنقل الماء عبر الكرة الأرضية وتؤثر بدورها على توزيع الأمطار. وبسبب زيادة درجة حرارة الأرض بدأ جليد القارات المتجمدة بالذوبان التدريجي فزاد من مستوى تبخر الماء وزيادة ملوحة البحار والأنهار. وجليد القارات المتجمدة عبارة عن ماء عذب لكنه يتحول إلى ماء مالح عند اختلاطه مع مياه البحار. في نفس الوقت فإن زيادة نسبة الرطوبة في الجو تؤدي إلى غزارة الأمطار في بعض مناطق الأرض بينما تخلو مناطق أخرى من الأمطار تماماً. والظاهرة الأخرى التي تثير انتباه العلماء أن التيارات البحرية تؤدي إلى دفع غاز ثاني أوكسيد الكربون الذائب مع الماء الموجود على السطح إلى الأعماق وهي العملية التي تخفف من تركيز هذا الغاز في طبقات الجو. إلا أن ازدياد درجة ملوحة الماء وتعطل التيارات البحرية قد تؤدي إلى زيادة كمية ثاني أوكسيد الكربون في أعالي الجو ما يزيد من ظاهرة البيت الزجاجي أو ارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب منع ثاني أوكسيد الكربون الحرارة من التسرب إلى الفضاء الخارجي للمحافظة على درجة حرارة الأرض.
* شحة الماء:
وبسبب تخلخل مناخ الكثير من مناطق الأرض بدأت تلك المناطق ومنها أفريقيا تعاني بالدرجة الأولى من ظاهرة انخفاض مستوى المياه السطحية والجوفية وكلاهما يعتمد على معدل هطول الأمطار الموسمية. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى وجود 25 دولة تعاني من شحة المياه خصوصاً المياه الصحية الصالحة للشرب من بينها 15 دولة أفريقية. وانخفاض مستوى الماء في الأنهار والبحيرات والآبار يرتبط أيضاً بظاهرة ارتفاع مستوى الإصابة بالأمراض التي لها علاقة مباشرة بمياه الشرب وهي البلهارزيا والملاريا والاسهال القاتل. والإنسان لا يعرف قيمة وأهمية الماء حتى يفقده ففي الدول التي تكثر فيها المياه لا يعرف الإنسان قيمة وأهمية الماء ويبدأ بتبذيره بمختلف الطرق. بينما يتعطش الإنسان إلى الماء في دول فقيرة أخرى كالصومال مثلاً.
وحتى في العراق الذي يحتوي على ثروة مائية ضخمة تعاني مناطق كثيرة فيه من شحة مياه الشرب التي تباع بالسيارات المتنقلة وازداد معدل الإصابة بالأمراض التي لها علاقة مباشرة بمياه نتيجة لعدم تعقيم الماء، وهي ظاهرة لم تكن تعرف من قبل في هذا البلد الخصب. وفي الصومال تقوم هيئات الأمم المتحدة بحفر آبار الماء وضخ الماء منها إلى المناطق السكنية. حتى لبنان البلد العائم على بحيرات من الماء والذي كان يقال عنه أنه يمتلك ثروة مائية يحسد عليها سكانه يشترون مياه الشفة. وتعاني دول الشرق الأوسط من شحة المياه أيضاً وهي شحة كانت معروفة سابقاً إلا أنها ازدادت في السنوات الأخيرة بسبب عوامل المناخ والتلوث البيئي وعوامل أخرى. والغريب في الأمر أن "إسرائيل" تسرق المياه العربية بدون أي رادع عربي أو دولي في الوقت الذي تحتاج فيه الدول المجاورة لفلسطين كالأردن وسوريا المياه للأغراض المختلفة. وتحدد "إسرائيل" كمية تبلغ 70 لتراً من الماء يومياً للعائلة الواحدة في غزة في الوقت الذي يعيش فيه الإسرائيليون في الكيبوتزات الزراعية والمدن في بحبوحة ولا يشكون من شحة المياه. والمشكلة التي تعاني منها دول العالم العربي أن المياه المتوفرة لا تتناسب كميتها مع كمية المياه المستهلكة بسبب زيادة السكان وازدياد المشاريع الزراعية.
وتحاول بعض الدول المجاورة للدول العربية كتركيا استغلال الماء كسلاح ضد الدول العربية. وما قامت به مؤخراً من تحديد حصة سوريا والعراق من مياه نهر الفرات ما هو إلا مثال واضح على ذلك بينما تطمع تركيا في بيع المياه إلى "إسرائيل" وحرمان جاراتها العربية المسلمة من ذلك المستخلص بواسطة مشاريع إزالة الملوحة من مياه البحر. وتبلغ كلفة المتر المكعب من المياه المستخلصة بواسطة مشاريع إزالة الملوحة من مياه البحر من دولار إلى دولارين وهي كلفة عالية مقارنة بالمياه التي يحصل عليها مباشرة من الآبار أو الأنهار. من جهة أخرى تقوم مصر بمشاريع زراعية من نوع جديد لإحياء الصحاري واستخدامها للأغراض الصناعية. ومن جملة هذه المشاريع مشروع قناة السلام وهي قناة يبلغ طولها 242 كيلومتراً لنقل المياه من النيل إلى صحراء سيناء لاستصلاح 2,500 كيلو متر مربع على جهتي قناة السويس. وتبلغ كلفة المشروع الذي موله البنك الدولي ملياري دولار. وقامت ليبيا بشق النهر العظيم لنقل المياه إلى مناطق بحاجة ماسة إليها. وبعكس ذلك قام العراق بتجفيف مناطق الأهوار التي كانت تمثل بحيرات طبيعية لخزن المياه بدلاً من تدفقها إلى الخليج. وبالرغم من هذه المشاريع الطموحة إلا أن منطقة الشرق الأوسط ستعاني كثيراً من مشكلة توفر المياه في القرن القادم. ولا عجب أن أطلق البعض اسم حرب المياه على مستقبل الثروة المائية وتوزيعها في الشرق الأوسط خلال القرن القادم وخصوصاً أن "إسرائيل" تطمع كثيراً باستغلال المياه العربية لخدمة أغراضها. وهذا يتطلب وضع استراتيجية مائية متخصصة تشترك فيها الدول العربية لخدمة الأجيال القادمة ودرء خطر العطش عنهم. والإنسان لا يعرف قيمة الماء حتى يفقده.