صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قراءة في كتاب: مع العلامة الطباطبائي في أثره الخالد "رسالة الولاية"


آية الله جوادي الآملي


كتب المرحوم العلامة الطباطبائي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ سيرته الذاتية بأكثر من قلم وفي أكثر من لوح. كتبها بقلم الترجمة تحت عنوان حياتي؛ وبقلم العلم من خلال تأليف الآثار العلمية وتصنيف الكتب القيمة؛ وبقلم العمل الصالح أيضاً، الذي مثّل السيرة العملية لهذا العظيم.
كما أن تلامذة مدرسته أيضاً حفظوا هذه الكتابات الثلاث في ألواح مختلفة. فجماعة عرفت المرحوم العلامة الطباطبائي عن طريق ترجمته وشرح حاله، فكانت معرفتهم بسيرته معرفة ظاهرية صورية. وجماعة أخرى ارتوى ظمأ روحها من نبع علوم العلامة ومعارفه، وهؤلاء هم الذي وعوا الحقائق وأدركوا كنهها عن طريق مطالعة كتبه العلمية كتفسير الميزان وكتبه الفلسفية والأخلاقية. وجماعة ثالثة هي تلك التي ألفت السيرة العملية للعلامة وأنست بها، فضلاً عن إحاطتها بما أحاطت به الجماعتان السابقتان.

فما كتبه العلامة الطباطبائي بقلم العمل قد نُقش في ألواح قلوب المريدين من أبناء المجتمع الإسلامي، لأنه مثّل السيرة الذاتية الفضلى للمرحوم، إذ إنه أحلّ نفسه بالعمل مكاناً في القلوب:  ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾  (مريم: 96). وعرفه آخرون عن طريق علومه وانجازاته العلمية. أما الجماعة الثالثة فقد أودع الله تعالى في قلوبهم محبته الإلهية فضلاً عن النهل من علومه وأفكاره. فالله سبحانه هو هكذا بالنسبة للصالحين يودع محبتهم قلوب الناس، ويصيرها ـ القلوب، وعاء حب ولوح محبة.

إن السرّ الذي مكّن المرحوم العلامة الطباطبائي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ من احتلال هذه المنزلة الرفيعة، هو العمل بالقرآن المجيد. لقد أوفى بعهده فأوفى الله سبحانه بعهده أيضاً، إذ يقول عزّ من قائل: ﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة: 4). وأن العهد الذي أخذه الله تعالى على نفسه تجاه الناس هو قوله عزّ وجل:  ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (العنكبوت: 96). فالذي جاهد نفسه في هواها واجتهد في عبادتنا وقطع ارتباطه بما سوانا، نفتح له سبُلنا الموصلة إلى ثوابنا، ليس فقط نجعله أيضاً يتمتع بالهداية التشريعية ـ مثلما أنعمنا على الآخرين ـ بل يصبح قادراً أيضاً على الاستفادة من الهداية التكوينية الخاصة، وتشمل حاله هدايتنا التكوينية التي ترشده إلينا. يقول عزّ من القائل: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾  (التغابن: 11). فالذي يؤمن بالله ويفي بعهده، وعده الله سبحانه بأن يهدي قلبه بالهداية التكوينية إلى الكمال المطلوب، وأن لا يتخلى عنه في منتصف الطريق. فالقلب الذي تحقق له الوصل واطمأنَّ، يفيض بمعارف كثيرة من ديار الحبيب إلى سالكي الطريق الآخرين، يقول عزّ من قائل: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ (النور: 54). فهناك بين العلماء وأوساط المؤمنين من سعى إلى ترويض النفس وتطويعها لتمكينها من الانتصار في ميدان الجهاد الأكبر، وقد أوفى الله سبحانه ويفي بعهده لمثل هؤلاء.

والمرحوم العلامة الطباطبائي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ كان واحداً من هذه العدة المعدودة التي وفت بالعهد الإلهي. إذ جاهد نفسه، التي هي "أعدى الأعداء". وروّضها وطوّعها بما مكّنه من النيل من العلوم الإلهية الجمة، العلوم التي لا تتوافر في المدارس ولا عند الأساتذة، من الممكن الحصول على العلوم المكتسبة في المدرسة أو لدى الأستاذ، أما العلم "الموروث" فلا يمكن كسبه بغير طريق العبادة وتهذيب النفس. وأن الذين يتحقق لهم العلم الموروث هم "ورثة الأنبياء": "العلماء ورثة الأنبياء". فالأنبياء الإلهيون ينقلون العلوم الإلهية إلى ورثتهم عن طريق الوصل؛ وقد تمكن العلامة الطباطبائي في ظل إخلاصه في العمل من الاستفادة من تلك الأبواب الإلهية المفتوحة، وكذلك من فتح نوافذ الحكمة أمام الآخرين أيضاً.

* "رسالة الولاية"
إن أفضل أثر للعلامة الطباطبائي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هو هذا الأمر الذي عنونه بـ"رسالة الولاية". ومما ذكره سماحته في بعض بحوث هذه الرسالة قول: "إن هذا الكلام غير موجود في الكتب الأخرى". فسماحته لم يذكر في أي مكان آخر من مؤلفاته تعبيراً بهذا السمو والعظمة. ويضيف سماحته بهذا الخصوص: "وهذا البرهان من مواهب الله سبحانه المختصة بهذه الرسالة والحمد لله". وهذا يعني أن هذا البرهان الذي نذكره في مجال "الولاية" من المواهب الإلهية المختصة بهذه الرسالة وغير متوافر لا في مصنفاتي الأخرى ولا في مصنفات الآخرين.

لقد اهتم سماحته بمسألة "الولاية" أكثر من أي موضوع آخر. والولاية هنا تعني أن الإنسان يصل إلى مرحلة يرى فيها العالم والآدم تحت تدبير الحق المتعال وحده. فالإنسان الذي يجتاز ذاته يمسي تحت ولاية الله تعالى؛ أما إذا أظهر من نفسه استقلالاً وإرادة واختياراً فلن يكون تحت ولاية الله مطلقاً. فالذي يصل إلى مقام الولاية ويصبح من أولياء الله الخاصين لن يظهر من نفسه إرادة واستقلالية. وذلك ناتج عن أنه لا يرى "ذاته" ولا "أوصافه" ولا "أفعاله"؛ ليس هذا فحسب، بل ولا يرى أيضاً أفعال الذوات الأخرى أو الآخرين وأوصافهم. ومن هنا فهو لا يركن إلى نفسه ولا إلى الآخرين؛ فهو واع ولسان حاله: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ (الأعراف: 196).

وكما قال رسول الله ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ أن هذه الولاية التي يمسي فيها الإنسان تحت تدبير الحق المتعال، ويوكل تدبير ذاته وصفته وفعله إليه سبحانه وحده ولا أحد غيره، لا تختص بالأنبياء الإلهيين وحدهم. "الرسالة" و"النبوة" أمر خاص، أما "الولاية" فهي أمر عام. وأن باب "الولاية" مفتوح أمام الإنسان إلى الأبد. أن كلاً من مقام "النبوة" و"الرسالة" من المواهب الخاصة، إذ أن "الله أعلم حيث يجعل رسالته"، وأما طريق تهذيب النفس الذي يأخذ بالإنسان إلى ظل ولاية الحق ويستلزم طلب العون مباشرة من مسؤولته، الله سبحانه، فهو مفتوح أمام الجميع، وكما سيأتي، أن مشاهدة أسرار العالم لا تختص بالأنبياء وحدهم، بل الآخرون أيضاً باستطاعتهم أن يصلوا إلى هذا المقام مع هذا الفارق هو أن الأنبياء يبصرون بقوة ووضوح وشمول، أما تلامذتهم فهم دون ذلك، ولكن هذا لا يعني أن ادراك أسرار الغيب مقتصر على الأنبياء وحدهم، وليس باستطاعة الآخرين تحقيق ذلك... لا توجد نعمة أسمى من نعمة أن يكون الإنسان تحت "ولاية" الله سبحانه ورعايته، ولا بد للإنسان من البحث عن سبيل تحقيق ذلك، وقد أوضح القرآن الكريم هذا السبيل.

* العلامة سالك طريق الولاية
كان العلامة الطباطبائي، كأساتذته الخاصين، تابعاً لهذه الطريقة وسالكاً هذا الطريق، لذا تمكّن من كتابة "رحلته" ـ سفرنامه ـ التي تجلت في "رسالة الولاية". فالسيرة الذاتية تخوض في صلب التاريخ بنحو ما، أما "الرحلة" فهي تتحدث عن "السير في الخلق إلى الحق". وما لم يخض الإنسان غمار الطريق عن قرب، لن يتمكن من تسجيل ذلك أو التحدث به. فهناك مَنْ يرحل دون أن يوفق في التحدث للآخرين. أي أنه لم يرغب في ذلك. ولكن المرحوم العلامة هو من ثلة العلماء الذين سلكوا هذا الطريق، وبقدر ما قطع منه استطاع أن يدل الآخرين عليه، أي جعل "المشهود" "مبرهناً". لقد كان المرحوم العلامة يمتلك القدرة على جعل "الحضور" "حصولاً"، و"الشهود" "مفهوماً"، و"العرفان" "برهاناً"، وتمكن من الاستدلال على ما تحقق له وحرَّره بقلمه.

* عصارة "رسالة الولاية"
إن ملخص ما ذكره العلامة في هذه الرسالة الشريفة هو أن الإنسان اجتاز عوالم، وهناك عوالم أخر ما زالت أمامه، والإنسان عبارة عن "موجود حقيقي"، وان حياة هذا الموجود، في الماضي والحاضر، كانت وما تزال على ارتباط بالعوامل الماضية والحاضرة والآتية، وهو في الوقت الحاضر يتسم "بحقيقة خاصة" وهي الحياة الاجتماعية، ولا بد للحياة الاجتماعية من قانون، والقانون سلسلة من اعتبارات الحكمة العملية التي تؤمّن للحياة الواجبات والمحرمات، المسموح والممنوع، وإذا ما كانت هذه القوانين بمثابة سلسلة من الأمور الاعتبارية والإنسان "حقيقة" متصلة بالحقائق الماضية والآتية، فمما لا شك فيه أن مثل هذه الأمور الاعتبارية ترتكز إلى قاعدة تكوينية. وبطبيعة الحال، إن اعتبارية القوانين ليست من النوع الذي يكون بيد المعتبر ولم يكن لها ارتباط تكويني، أو أنه حصل في استنباطها خطأ، أو أنها لم تنقل بصورة صحيحة؛ بل قد تم استحصالها بصورة سليمة، تتمتع بارتباط تكويني صحيح، وبلسان الاعتبار تمت توعية الإنسان بالتكوين بصورة صحيحة. فالقرآن الكريم يعتبر عالم المادة وعالم الدنيا، عالم اعتبار. فالدنيا من هذه الجهة هي دنيا الاعتبار. وبالطبع إن السماء والأرض وسائر الموجودات هي ذات تكوين مادي وحقيقي، في حين أن العناوين الاعتبارية ليست أكثر من لهو ولعب وغرور. فالقرآن الكريم عندما يتحدث عن الدنيا ـ هذا الجانب من الدنيا ـ يقول:  ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون﴾َ (الروم: 7). ويشير هذا التعبير إلى أن الآخرة هي باطن الدنيا، ولذلك أمر جلّ وعلا بالاعراض عن هؤلاء الذين لا يرون إلى الظاهر والغافلين عن الباطن: ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ (النجم: 30).

* الانقطاع عن الدنيا
إذا كانت الدنيا ليست أكثر من أمر اعتباري، وأن الآخرة هي باطن هذه الدنيا؛ فما القوانين الإلهية إلاّ سلسلة اعتبارية ناشئة عن الباطن وتقود الإنسان إلى "الباطن"، وقد تمت صياغتها بما يتناسب مع الباطن والفطرة. لذلك ذكر الله سبحانه الدين بالفطرة. وهذا يعني إن الارتباط بين التكوين والاعتبار وثيق إلى درجة بحيث أنه إذا أراد ذلك التكوين أن يظهر بصورة اعتبار فإنه يصبح أحكاماً دينية. وإذا ما كان ممكناً إن تظهر المقررات الاعتبارية بصورة تكوين فإنها تتجلى في الفطرة الحقيقية الإنسانية. إذاً فلهذا الاعتبار أساس تكويني، وأن هذا الأساس التكويني يرتبط بالحقائق التكوينية السابقة للإنسان، وكذلك بالوقائع التكوينية لمستقبل الإنسان أيضاً. وأن الإنسان بواسطة هذه الاعتبارات يمد جسراً إلى تلك المرتكزات التكوينية، وهنا يتصل مسير الحقائق مع بعض. وفي غير ذلك ليس باستطاعة الإنسان أن يوجد ارتباطاً مع ماضيه على أساس الاعتبارات الصرفة، ولن يتمكن من أن يكون على اتصال بمستقبله. فالذين يسيرون في طريق الاعتبار الوعر، إذا ما وجدوا طريقهم، أي من طريق العمل إلى الدين، ومن طريق أداء الواجب الإلهي إلى الحقائق التكوينية، يكونون في درجات مختلفة، كما أن وعيهم لكلام الأنبياء متباين أيضاً. أساساً أن الأنبياء يتحدثون إلى الناس على قدر فهمهم. وكما قال رسول الله ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ "إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم". فكل إنسان يعي كلام الأنبياء الإلهيين والأئمة الأطهار على قدر فهمه وقدراته العقلية. إذ أن أحاديث هؤلاء صعبة مستصعبة لا يطيقها كل شخص. وبهذا الشأن ما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة من عبارة: "ومحتمل لعلمكم..." إذ أجيز لنا أن نسأل الله تعالى في المشاهد المشرفة ـ بعد الثناء على مقام الإمامة الشامخ ـ أن يمنَّ علينا بالتوفيق لتعلّم علوم الأئمة (عليهم السلام) لذا نخاطب المعصومين ونقول: "... ومحتمل لعلمكم" أي حمل علومكم، تلك العلوم التي ذكروها بأنها: "لا يحتملها إلاّ ملك مقرّب، أو نبي مرسل، أو عبد امتحن الله قلبه بالتقوى". فنحن ضمن تلك المجموعة من العباد التي طهّرت قلوبهم التقوى، ومستعدون لتحمل علومكم رغم أنها صعبة مستصعبة.

إذاً، وكما اتضح، أن كلام الأنبياء والأئمة يمتلك سلسلة من الحقائق والبواطن فضلاً عن هذه الظواهر والأمور الاعتبارية، وإذا ما أدرك أحد ذلك الباطن فسوف يجد الطريق إلى صلب التكوين والفطرة، وللباطن درجات، الباطن له باطن أيضاً. لذا فإن أشخاصاً مثل سلمان الفارسي وأويس القرني وكميل بن زياد النخعي وميثم التمار الكوفي، ورشيد الهجري وجابر الجعفي ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ كان يطلق عليهم أصحاب الأسرار لأنهم كانوا من صحابة الأئمة (عليهم السلام) الخالصين. فمثل هؤلاء كانوا يعون أنهم يستندون إلى الاعتبار بالحقائق التكوينية، لذا كانوا يجهدون من خلال تهذيب النفس للانتقال من ظاهر الاعتبار إلى باطنه. فهم يعون أن إدراك الباطن، الذي هو مقام "الولاية" غير متيسر مطلقاً بدون العمل بالظاهر وحفظ جوانبه، لذا عملوا على احترام الشريعة والمحافظة على ظواهر الأحكام أكثر من الآخرين.

وليس هناك وسيلة لإدراك الباطن من خلال الظاهر، غير الانقطاع عن الدنيا. فالمبهور بالظاهر لا يجد طريقه إلى الباطن أبداً. وقد وصف الله سبحانه الدنيا بأنها خادعة، وعرّف باطن الدنيا بـ"الآخرة". فما لم يتجاوز الإنسان الدنيا التي هي "رأس كل خطيئة" وينقطع عنها، لن يؤذن له بالورود إلى الباطن مطلقاً. إن ما ينشغل به الإنسان هو "الدنيا"؛ فكل علاقة غير العلاقة الحقة، دنيا؛ وما لم يتخلّ الإنسان عن هذه العلاقة وينقطع عنها، فليس له طريق إلى الباطن مطلقاً. فالذين يؤذن لهم بالورود إلى الباطن هم من لم يحمل وزر الاعتبار وحب الدنيا. والمبتلى بعبء العلاقة الثقيل لا يجد الطريق إلى الباطن، لأنه: "تخففوا، تلحقوا"، و"نجا المخففون".

* درجات الانقطاع عن الدنيا
تتباين درجات الذين يجدون طريقهم إلى الباطن بالانقطاع عن عالم الطبيعة، ويصنفون في أكثر من مجموعة. فجماعة لها في مقام العلم والعمل انقطاع تام. وهؤلاء هم المقربون الذين يصفهم القرآن المجيد بـ"السابقون المقربون". ثم تأتي جماعة من الممكن أن لا تكون في مقام العلم متكاملة، ولكنها في مقام العمل متقدمة. أي أما إنهم في مقام العلم والعمل بدرجة متوسطة، أو أنهم كاملون في مقام العلم ومتوسطون في مقام العمل، وهؤلاء في المقياس الإلهي هم جزء من "أصحاب اليمين"، الذين لن يتحقق لهم عمق الباطن. لن يجدوا الطريق إلى باطن الباطن رغم إدراكهم الباطن. وهؤلاء في درجة "الولاية" التي هي غير درجة "المقربين" و"السابقين"، لأن المقربين والسابقين يحظون بالولاية الخاصة، ويشرفون على أصحاب اليمين والأبرار، كما قال جلّ وعلا:  ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ (المطففين: 18 ـ 19). وهذا يعني أن صحيفة أعمال الأبرار وحقيقة وجودهم مسجلة في كتاب باسم عليين. وأن هذا العليين يشاهده المقربون.
إذاً فالذي هو من السابقين والمقربين وذو انقطاع كامل، هو الكامل في العلم والعمل، وقد وصل إلى منزلة يشاهد منها صحيفة أعمال الأبرار وينظر إليها. شخص هو في الظاهر مغمض العينين إلاّ أنه يعلم كل شيء من باطن آخر، ولا يخفى أن علمه هذا اتصل به من الباطن وليس من الظاهر.

أما المجموعة الثالثة، فهم الذين لم يتمكنوا من أن يصلوا بأنفسهم إلى باطن الدنيا، وواصلوا الطريق في ظاهره فحسب ولم يروا الباطن. ولم يكن ظاهر الدنيا شيئاً غير الخداع. فلو كان هؤلاء قد عملوا بأحكام الدين الاعتبارية لتيسر لهم الانتقال إلى باطن الدنيا، ولكن ولأنهم لم يعيروا أهمية للاعتبارات الدينية، ولم يحترموا هذه الأحكام، فقد بقوا في ظاهر الطبيعة الذي هو "متاع غرور"... ولم يجدوا الطريق إلى الباطن أبداً. هؤلاء هم أصحاب الدنيا الذين يعبّر عنهم منطق القرآن بـ"أصحاب الشمال" و"أصحاب المشأمة" وأمثال ذلك. هؤلاء لا يملكون نصيباً من باطن الدنيا، وكما قال عزّ وجلّ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7).

وهكذا يتضح أن سلوك الطريق المؤدي إلى باطن العالم والأنس بأسرار الغيب، لا يقتصر على الأنبياء والمرسلين فحسب، بل بإمكان تلامذتهم أيضاً، وإثر الاقتداء العلمي والعملي بهم، أن يحققوا هذه المنزلة وذلك المقام. فليس الأمر بهذه الصورة وهي أن مشاهدة أسرار الغيب خاصة بالأنبياء والمرسلين، وليس باستطاعة الإنسان قبل الموت أن يصل إلى حقائق الملكوت ومشاهدتها. بل باستطاعة غير الأنبياء والمرسلين أن يجدوا الطريق إلى أسرار العالم ويتمكنوا من الأطلال على أسرار الغيب طالما كانوا في الدنيا.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع