تعتبر المذكرات والكلمات التي أوردتها "نجمة السادات الطباطبائي" كريمة السيد الطباطبائي وزوجة الشهيد قدوسي، في حوارها مع مجلة "زن روز" من أروع ما كتب عن العلامة السيد وحرصاً منا على دقة الموضوع ننقل الحوار بكامله.
إنني أصغر بكثير من أن أتجرأ على وصفه والكلام عنه، فالكلام عنه هو من وظيفة تلامذته. وبالنسبة لي شخصياً، فلم يكن لي الاتصال الوافي به، لأنني تزوجت في سنّ مبكرة، وانتقلت من منزله. إلا أنني لا زلت أذكر أخلاقه منذ أيام طفولتي.
فقد كانت أخلاقه محمدية، بكل ما للكلمة من معنى. فلم أره يوماً عصبياً، ولم أسمع صوته مرتفعاً أبداً، ومع ذلك كان حازماً وصلباً، غير متسامح في أداء الصلاة إلا في وقتها. وبالجملة، كان حازماً في تطبيق الأحكام الشرعية بدقة، محباً لتلاوة القرآن كثياً، ويصوت مرتفع وجميل، دقيقاً في مواعيده وبرنامجه اليومي. وقد سمعته يوماً يقول: "إنه لم يُخلّ ببرنامجه اليومي من سن السادسة والعشرين. كان مع كثرة الأعمال التي يقوم بها، لا يرد سائلاً، ولا يتذمَّر من أحد. وحتى في سنيِّ مرضه الأخيرة كان حريصاً على مقابلة الناس، والرد على أسئلتهم.
كان شديد الصلة بتلاميذه، خصوصاً الشهيد مطهري. وكان يقول في ذلك: "لذاتي الكبيرة هي في جلوسي مع أصدقائي (تلامذته) فالدنيا تشرق أثناء وجودهم معي".
كان قليل الكلام، موصياً بذلك، وإذا تكلم فيأتي كلامه دون تكلف، مفهوماً لكل الناس. كان متواضعاً، متجنباً لإظهار شخصيته الرفيعة. وكان إذا ما مدح بشيء كأداء الصلاة في وقتها، يقول: إنها عادة اعتدت عليها وليست بشيء يذكر". ويرد على من يمدح درسه: "إنه كلام الله والدين ما أنا سوى ناقل له".
كان يحرص على الحضور إلى درسه وحيداً، بدون مرافقة أو حراسة. وحينما كان يدرس العلوم الإسلامية في طهران، كان ينتقل في سيارات النقل المشترك (الأوتوبوس). كان يحب البقاء مع الناس دائماً وأن يكون كواحد منهم. وقد كان يجلس معهم في حرم المعصومة عليها السلام في قم المقدسة.
وكان يردد دائماً: "الشخصية هي موهبة من الله ولا يستطيع الإنسان كسبها بالأمور الدنيوية".
كان أبي مرهف الإحساس ذا روحية عالية، إذا ذكر الله أمامه تغيرت أحواله. وكان إذا مرَّ بمنظر طبيعي تظهر منه حالات عجيبة، لا ندري معها في أي عالم وهو. كان يقول لي: "أحياناً يغفل الإنسان عن الله، فيصاب بالحمَّى أربعين يوماً ليصرخ من أعماق قلبه: "يا الله".
كان رضوان الله عليه عاطفياً، يشعر بآلام الآخرين، ويتألم لألمهم ويتأثر لمصابهم، إلا أنه، من جهة أخرى، إذا ما أصيب بمصيبة أو عرضت له مشكلة كان صبوراً كتوماً، لا يعبأ بالإهانة الموجهة إليه. وكان يقول: "يجب أن لا يحقد عبد الله على أحد". وعندما كان أصحابه يطلبون منه الرد على منتقديه الذي يتهمونه بالكذب، كان يقول لهم:
"لا حيف في ذلك، يجب على المرء أن لا يتأثر بهذه الأمور"، وبكلمة موجزة، كانت أخلاقه أخلاقاً محمدية.
* س: كيف كان تعامله في البيت، مع عائلته؟
ج: الصفات التي تحدثنا عنها فيما مضى، ترجمها السيد واقعاً عملياً في تعامله معنا في البيت. فقد كان - بالرغم من كل أشغاله وأعماله التي لا تنتهي - يخصص لنا ساعة ظهيرة كل يوم، نقضيها معه بشكل مرح لا تحس معها أنك أمام فيلسوف عظيم.
كان يجلُّ والدتي كثيراً ويعاملها بكل محبة. ولم أسمع مرة - طوال الفترة التي قضيتها معهما - بجدال دار بينهما. كان دائماً يمدحها ويثني عليها ويذكرها بالخير، ويدعو لها ويذكر صبرها في النجف الأشرف، وتصبّرها على فقد ثمانية من أولادها أثناء الولادة. كان لطيفاً جداً معنا، وأعطانا الكثير من وقته الثمين. وكثيراً ما كان يجلس ليعلمنا الرسم والكتابة.
كان رضوان الله عليه يهتم كثيراً بأداء أموره الشخصية في البيت بنفسه، فقد كان يسبقنا لترتيب مكان نومه، وينظف غرفته بنفسه، ويتسابق مع والدتي في ذلك، حتى في أواخر أيامه عندما كان مريضاً، لم يرضَ أن أخدمه. وعندما كنت أزوره، كان يصر على أن يحضر لي الشاي بنفسه ويقول لي: "أنت ضيفي، والأهم من ذلك أنك من السادة، فلا يجوز أن آمرك".
عندما مرضت أمي (مرض الموت) لم يسمح لها أن تقوم بأي شيء من أعمال البيت، وطلب منها أن تبقى مستلقية على السرير، وترتاح. وقد قام هو بخدمتها وخدمتنا، وعطل جميع أعماله لمدة 27 يوماً كذلك حتى فارقت روحها الحياة (رحمة الله عليها). وبعد موتها كان دائم التردد على قبرها، وله في ذلك عبارته المعروفة: "على العبد أن يؤدي حق الغير، ومن لم يستطع أداء حق العبد، فلن يستطيع أن يؤدي حق المولى". وهنا لا بد من ذكر ملاحظة مهمة ألا وهي أن والدتي كانت بحق امرأة مثالية بكل ما للكلمة من معنى. كانت مصداقاً للمرأة المؤمنة المجاهدة الصابرة و...".
* س: كيف كان العلامة الطباطبائي، صاحب هذه الشخصية العلمية العظيمة، يوفق بين أعماله الكثيرة ودوره كأب لعائلة كبيرة؟
ج: كما قلت سابقاً، فقد كان يخصص والدي لنا ساعات معينة كل يوم، وغالباً ما تكون بعد الظهر، حيث كان ينادينا: انتهت دروسي الخاصة. تعالوا لنجلس معاً". وكان يقول: "هذه أفضل ساعاتي، وفيها أنسى كل متاعبي. كان على علاقة شديدة بنا وبأمي، وكان إذا ما أتانا ضيف قام لمساعدتها في خدمته، مع أنها لم تكن تسمه له، لأنها هي صاحبة الكلمة في البيت. فقد كانت تهتم بنا وبدراستنا، وهي التي تدير المنزل، وكان رضوان الله عليه يرتاح لها كثيراً.
* س: كيف كان تعامل العلاّمة مع أطفاله من الناحية التربوية؟
ج: إن الاحترام الذي كان يكنه السيد العلامة للجميع، لم يقتصر على الكبار فقط، بل تعداه ليشمل الأطفال أيضاً، خصوصاً الفتيات منهم. فقد كان يصفهن بالنعمة الإلهية، وكان يوصيهن دائماً بالصدق، ويتلو القرآن الكريم على مسامعهن بصوت مرتفع، ويروي لهن بعض الأحاديث التي يعتقد بتأثيرها فيهن. كان يلاعب الأطفال ويمازحهم، مراعياً في ذلك كل اعتدال، وكان يجيب على أسئلتهم بدون كلل أو ملل، وكثيراً ما كان يوصيني بالانتباه للأولاد وإعطائهم حريتهم مع الحرص على تأديبهم، ويقول لي: "من الخطأ أن يتنابز الأهل والوالدان، ويتشاجرا أمام أعين أطفالهم". وقد لمست ذلك في بيتنا. فإن الحياة الودية والتفاهم اللذين كانا يحكمان العلاقة بين والدَّي قد أثرا فينا كثيراً.
وكما قلت سابقاً، فقد كان يعامل البنات معاملة خاصة، ويُكنُّ لهن محبة خاصة. وكان يعتقد أن هكذا تعامل معهم سيجعلهن زوجات وأمهات صالحات. وحين كان اعتقاد والدتي أن على البنات أن يشاركن في أعمال المنزل، كان جوابه لها: "لا تضغطي عليهن، فهن بحاجة إلى الراحة، ولم يحن موعد عملهن بعد". وكنا إذا ما طهينا طعاماً وأخطأنا فيه تقوم والدتي غاضبة، فيقوم هو يهديء من روعها قائلاً: إنهن أمانة الله في أعناقنا، ويجب أن نحترمهن، لأن في ذلك مسرة لله تعالى وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
تربيته لي لم تقتصر على أيام طفولتي، بل تعدتها إلى عهد زواجي. فقد كان يوصيني دائماً، وكلما ذهبت لزيارته: أن أحسن معاملة زوجي وأهله، وخصوصاً والدة زوجي.
كان يحب أولادي كثيراً، وخصوصاً ولدي "حسن". فقد جاءني في طهران ليعزيني باستشهاد ولدي "حسن"، فلم أعرف كيف أقابله، وكانت حالته كحالتي، وعندما رآني قال لي: "ماذا أقول لك يا نجمة"؟ قلت: "لا شيء الشكر لله"، قال: أحسنت، فإن الله الذي أعطاك إياهم (أولادك) قد أخذ أفضلهم، فالحمد لله".
إلا أن القلب في النهاية يحزن لفقده لذا كان يقول: "عندما تعود بي ذاكرتي إلى "حسن" وكيف كان يسألني، ترتعد جميع أعضائي ويتغير حالي".
أما من الناحية التعليمية، فقد كان يرغب لأخي الكبير أن يتعلم العلوم الدينية، ولكنه لم يفعلها لأسباب أجهلها، فانزعج والدي منه. وبالنسبة للإناث، فكان الهدف الأول لهن، في نظره، هو الزواج. وهذا الأمر يقع في المرتبة الأولى، ويأتي بعده تحصيل العلم في الدرجة الثانية. وكان لا يمانع تعليم البنت حتى بعد زواجها.
* س: هل كان لزوجته دور وتأثير في نجاحه العلمي، من وجهة نظره (عليه الرحمة).
ج: كان دائماً يذكر والدتي بالخير ويقول: "إن هذه المرأة هي التي أوصلتني إلى هذا المقام، وهي شريكتي في ذلك، وكل كتاب كتبته فإنها تملك نصفه".
* س: بشكل عام، كيف ينظر السيد العلامة إلى المرأة؟ وما هو دورها في المجتمع بنظره؟
ج: كان رضوان الله عليه يقول: لو لم يكن للمرأة دور مهم، لما جعل الله نسل الأئمة من السيدة فاطمة عليها السلام. إن المرأة الصالحة تحول العالم إلى جنة، والمرأة الطالحة تحوِّله إلى جحيم، كذلك البيت. إذاً فالمرأة لها در مهم في الحياة الإسلامية، وهي شريك الرجل في أكثر الأشياء. وكان يرى أن على المرأة التي تنتهي من تربية أولادها أن تنطلق في المجتمع وتسعى لإصلاح ما فسد فيه.
*س: كيف كانت علاقته بآية الله الشهيد قدوسي؟
ج: العلاقة بين والدي والشهيد قدوسي (زوجي) قديمة. فقد كان زوجي تلميذاً لوالدي، تعلم منه الأدب والعلم، كما تعلم من أبويه. وكان أبي يثق به كثيراً، لذا قبل زواجي منه على صغر سنِّه. والعلاقة بينهما كانت قائمة على الاحترام. وكثيراً ما مدح أبي الشهيد وأثنى على قدراته العقلية. فقد سمعته يقول مراراً: "إن الله أعطى هذا الرجل عقلاً وحلماً عجيبين". لهذا السبب كان يولِّيه الكثير من أعماله، وكان يقول: "أن العمل الذي أعطيه لأية الله قدوسي ينجح دائماً، وأنا أقف به وبأعماله".
عندما استشهد آية الله قدوسي لم نخبره بسبب حالته الصحية ولكنه عرف بالأمر (من دون أن يخبره أحد من الناس) فتحمَّل المصاب وصبر، وقد بدا عليه ذلك.
* س: كيف كانت علاقته الدنيا وبالأمور المادية؟
ج: حياتنا الاجتماعية كانت عادية أو أقل. وقد عشنا حوالي أحد عشر سنة في النجف الأشرف حياة علمائية، بمعنى أن وضعنا الاجتماعي كان كسائر أوضاع الطلبة. وإضافة إلى ذلك فقدت والدتي ثمانية أطفال بعد الولادة مباشرة. وكان صبرها في ذلك عجيباً. وكان والدي يراعي شعور والدتي كثيراً في ذلك.
كان والدي لا يحب الإسراف في كل شيء، وخصوصاً في الطعام، وكان لا يتناول إلا صنفاً واحداً عن المائدة.
عندما رجعنا إلى إيران، عشنا حوالي العشر سنوات في تبريز، إلا أن والدي أصرّ بعدها على الذهاب إلى قم، وترك الراحة والطقس الجميل في تبريز، فقضى بقية حياته في قم عالماً متواضعاً لا تهمه الأمور المادية في شيء.
* س: كيف كان ينظر العلامة الطباطبائي إلى الإمام قدس سره وإلى الثورة الإسلامية؟
ج: كانت علاقته بالإمام وطيدة منذ القدم، يسودها الاحترام المتبادل. ومع أنه كان قليل الاهتمام في السياسة، إلا أنه كان من مؤيدي الثورة، يتابع اخبارها، ويعمل على نصرتها قبل النصر وبعد. فمن الوقائع التي حصلت معه أنه: غضب كثيراً عندما أبعد الشاه الملعون الإمام المقدس قدس سره إلى الخارج، ورفض قبول شهادة الدكتوراه في الفلسفة التي قررت جامعة طهران منحه إياها. واعتبرها هدية الشاه له ليسكت ويرضى عنه، وقال: لن أخاف من الشاه ولن أقبل شهادة الدكتوراه.
* س: ما هو سر رقيه واعتلائه؟
ج: تحدثت عدة مرات حول هذه المسألة مع الشهيد قدوسي رضوان الله عليه وكان رأيه أن القدرة الذاتية شرط، إلا أن المثابرة والجد شرط أهم. فقد كان أبي صاحب همة عالية ومثابرة. فإذا بدأ بعمل يكمله بجد ونشاط، وقد برز هذا من خلال مؤلفاته. وعلى سبيل المثال نراه عليه الرحمة قضى عدة سنوات يعمل على تفسير القرآن ليلاً نهاراً. والظاهر أن فقد والدته في الخامسة من عمره، وأبيه في التاسعة قد أثر في حياته كثيراً، فجعله يعتمد على نفسه منذ الصغر. وقد درس الابتدائي، وانتقل بعدها إلى الحوزة، وكان يقول أنه كان يهوى الرسم كثيراً. وقد صرف عليه الكثير من أمواله في شراء أدواته وتعلمه. كان يحب العلم كثيراً، ويذهب من مدينة إلى أخرى ومن قرية لأخرى سيراً على الأقدام لطلبه. ولا يثنيه عن ذلك حرٌّ ولا برد، ولا شمس ولا مطر.
وباعتقادي، أن سر نجاحه هو هذه المثابرة والجدية في العمل.