الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
صدق الله العليّ العظيم
بعد أن تعرّض القسم الأوّل من السورة إلى الجانب الاجتماعيّ وتحمّل المسؤوليّات الاجتماعيّة، كما بيّنّاه في العدد السابق، فإنّ هذا المقال يعرض القسم الثاني من السورة المباركة، وفيه شكل تفصيليّ للمشكلة ولحلّها.
•﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾
أليست الصلاة عمود الدين؟ ألا نقول إنّ: ﴿الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)؟ ألا نقول إنّ الصلاة إن قُبِلت قُبِل ما سواها وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها؟ أليست الصلاة أهمّ واجب في الإسلام؟
في حقل العبادات، هذا شيء مفهوم، ومع ذلك، يقول الله في هذه السورة: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾. عن أيّ مصلّين تتحدّث هذه الآية؟ ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ*الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ*وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
من هنا، ثمّة ثلاثة أسباب لقول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾:
- أوّلاً: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾
"ساهي" من كلمة السهو، والسهو مفهومٌ معناه. قد نقول: الذين هم في صلاتهم ساهون، هذا معناه أنّي أصلّي وأسهو ركعة أو جزءاً أو سطراً. قد تقول: أنا أسهو عن صلاتي، هذا معناه أنّي نسيت الصلاة.
ولكنّ معنى الآية لا هذا ولا ذاك، لماذا؟ لأنّها تقول: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾. فإذا افترضنا أنّ المرء يصلّي، فكيف يسهو عن صلاته؟ هذا يعني أنّ الشخص الذي لا يبالي بروح الصلاة، وبجوهرها، وببنيتها، وبشرائط صحّتها، وبتمامها، فهو لا يحترم الصلاة، ويسهو عنها، ويتساهل بها، ويتجاهلها، ويتنكّر لها، وهذا أمر موجود في كثير من الروايات: "ليس منّي من استخفّ بالصلاة"(1).
ويؤكّد القرآن: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ (البقرة: 238)، ومعنى ﴿حَافِظُواْ﴾ غير معنى صلِّ؛ صلِّ يعني أقم الصلاة، لكن حافظوا يعني واظبوا، أي صلِّ بشروط الصلاة، وبأوقاتها، وبواجباتها.
- ثانياً: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ﴾
الرياء هنا هو أن يصلّي الإنسان ليس لله، بل لأجل الناس، ولأجل كسب مدحهم، سواء في جزءٍ منها، أو في شرطها، أو في أشكالها، وحتّى في مستحبّاتها، فكلّ ذلك يُبْطِل الصلاة.
وثمّة توضيح هنا: فالإنسان يمكن أن يختار بيته للصلاة ويقدِّمه على محلّ آخر لأنّه أدفأ؛ وإذا أراد أن يتوضّأ، فإنّه يتوضّأ بالماء الحارّ؛ لأنّه أدفأ. هذه النيّة غير إلهيّة، لكنّها لا تُفسد الصلاة. أو إذا كان يريد الصلاة في مكان دون آخر؛ لأنّ فيه فراشاً أو سجّاداً مريحاً. هذا لا يضرّ بالصلاة ولا يبطلها، مع أنّها نوايا لغير الله. والنوايا هذه يسمّونها نوايا مباحة.
ولكن، إذا دخل الرياء في عمل أحد، كأن يصلّي لغير الله، أو يطيل الصلاة، أو يفصح في القراءة، أو يقرأ بصوت خاشع، أو يطيل السجود والركوع لأجل كسب مدح من الناس، فالصلاة هنا باطلة.
حتّى إنّ الرياء يحصل في المستحبّات؛ فإذا كان من عادة أحدهم أنّه لا يقرأ القنوت، أو لا يزيد في التسبيحات على تسبيحة واحدة، أو مثلاً لا يقول إلّا تكبيرة واحدة في الصلاة، ولكن لأجل الناس يزيد هذه المستحبّات ويقول سبع تكبيرات في أوّل الصلاة، فهذا كلّه رياء. وهذا الرياء وإن كان في الجزء المستحبّ، لكنّه يبطل الصلاة أيضاً.
الرياء مرضٌ عضال، وقد جاء فيه أنّه "أخفى من دبيب النملة السوداء"(2)؛ إذ الإنسان يُبتلى بالرياء من حيث لا يشعر، وإذا لم ينتبه ولم يفتّش بدقّة في دوافع صلاته جزءاً وكلّاً، شرطاً وواجباً، قد يجد نفسه مبتلى بهذا المرض. ولا شكّ في أنّ الصلاة التي تصدر عن رياء، تُبعد الإنسان عن الله، هذه نقطة مهمّة يجب أن ننتبه لها.
فالصلاة لله تقرّب الإنسان إليه تعالى، ولكنّها إن كانت لغيره سبحانه، فإنّها تبعد الإنسان عنه. لماذا؟ لأنّ الصلاة لله تقوّي إيمان الإنسان. لماذا تقوّي إيمانه؟ لأنّه يمارس إيمانه في عمله، فكأنّه يغذّي إيمانه بالله.
- ثالثاً: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾
يعني الذين يمتنعون عن التعاون ومساعدة الجار، والذين يحجبون عونهم ولا يبذلونه لخلق الله ولمساعدة خلقه.
•الصلاة عمود الدين
إنّ الصلاة التي هي عمود الدين، إذا كانت بالاستخفاف، أو عن الرياء، أو مقترنةً بتجاهل حاجات الآخرين، يخاطب الله القائمين بها: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾.
وهكذا، نرى أنّ هذه السورة المباركة تربط بين جوانب الدين المختلفة، مثل: الإيمان بالله، والتصديق بالدين، والصلاة لله، وخدمة اليتيم، ومساعدة المسكين، وبذلك التعاون للآخرين.
فالخلاصة: إنّ الدين مجموعة لا تتجزّأ؛ فلا يمكن لأحد أن يقول: "إيماني بالله عظيم، وقلبي صافٍ مؤمن"، ولكنّه يتجاهل في الوقت نفسه شؤون الآخرين، ومصلحتهم، وحاجاتهم!
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج10، ص274 - 279، بتصرّف.
1.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 4، ص 26.
2.تفسير جوامع الجامع، الطبرسيّ، ج3، ص835.