الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها أذكار | شهر رمضان المبارك

المال الحرام: كيف نجتنبه؟

تحقيق: سوسن زراقط
 

قيل يوماً إنّ صبيّاً نكز بمخيطه قُربة سقّاء فثقبها، وامتعض السقّاء. قام الناس بالبحث عن أهل الطفل ليعلموا سبب فعلته، ليتبيّن أنّ الأمّ خلال فترة حملها بالصبيّ اشتهت تناول الرمّان، فقصدت السوق إلى أن وجدت بائعاً مشغولاً بزبائنه، فثقبت رمّانة بإبرة وامتصّت من حلاوتها. وها هي إبرة الأمّ في الأمس صارت مخيط طفلها اليوم!

إنّه المال الحرام، الذي سنستصرح آراء الناس حوله، لمعرفة كيف ينظرون إليه وإلى تداعياته الدنيويّة والأخرويّة. والأهمّ: هل يصعب تجنّب المال الحرام على الناس؟

* باب للمال الحرام
أمام مفهوم المال الحرام التقليديّ: السرقة، والربا... سألنا مجموعةً من الناس عن مشاهدتهم الحيّة عن المال الحرام اليوم، وهل بات شائعاً بطريقة مختلفة؟

تقول (حنان. ز): "بتنا نرى احتكار التجّار للبضائع وللأدوية وبيعها بأسعار مرتفعة، أو بيع مادة البنزين في السوق السوداء وتهريبها خارج البلاد، في حين أنّ الناس بأمسّ الحاجة إليها. هذه الأموال أليست حراماً؛ بسبب استغلال حاجات الناس، وإهدار وقتهم، وحرمانهم من حقوقهم الأساسيّة؟ كما أنّ قرشَ حرامٍ واحداً كفيل بأن يشقّ الطريق للكسب المستمرّ للمال الحرام؛ فتكون عمليّة متسلسلة، وما إن يفتتح الرزق بالحرام، حتّى يصعب العدول عنه، إلّا إذا تداركتْه الرحمة الإلهيّة. وفي المقابل، إذا كان المال حلالاً لوجه الله، أغدقه الله تعالى بالخيرات والبركات".

* المال الحرام يبين في الذريّة
ماذا عن أثر اللقمة الحرام وبناء الحياة عليه؟ 

تقول (سكنة. ف): "إنّ أثر اللقمة يتعدّى الجانبَ النفسيّ والروحيّ إلى الجانب البيولوجيّ، كما نقرأ في رواياتنا عن أثرها في تكوين النطفة وتغذيتها، إن كان على الحلال أو الحرام؛ فهي تترك أثراً على التكوين الجسديّ للجنين وعلى أخلاقيّاته وسلوكاته لاحقاً". وتضيف: "وكما يؤثّر أكل الحرام على الجسد، فإنّه يؤثّر أيضاً على المجتمع من ناحية فساده وصلاحه، كالرشوة مثلاً، فالراشي الذي يرى رشوته سبيلاً لتيسير أموره، يقترف ذنباً كبيراً في عدم توكّله على الله، ويحثّ المرتشي على كسب المال الحرام، وابتعاده عن الالتزام بالطرق القانونيّة لتنفيذ أعماله. والرشوة كذلك تحفّز الطمع لدى الأفراد، وتؤدّي إلى فساد المجتمع".

* قسوة القلب
وعن أثرٍ آخر للمال الحرام، تتحدّث (ملاك. س): "البركة لا تقتصر على المال والرزق فحسب، بل أيضاً سيُحرم المرء من البركة في المشاعر والعلاقات، خصوصاً الأسريّة منها؛ إذ إنّ المنزل الذي يتغذّى أفراد أسرته على الحرام، ستسوده قسوة القلب، وسيخلو من السكون والهناء، وستسيطر عليه أجواء المشاحنات والمناوشات بالتأكيد؛ بسبب بناء البيت على الطمع والحرص والجباية والشطارة في تحصيل المال وغيره. يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ (البقرة: 74)".

* لماذا يلجؤون للحرام؟!
في سؤال جوهريّ: لماذا يشيع الحرام مع وجود الحلال وإمكانيّة الحصول عليه؟ وهل يصعب فعلاً تجنّبه؟ يقول عليّ. س (تاجر): "نعم، عملنا معياره كسب المال، وكلّما كسبت المال أكثر يعني أنّك تاجرٌ أفضل وأشطر، وعندما يسهل الربح الحرام، كحالنا اليوم، يقع أيّ تاجر في صراع بين ما يؤمن به وما يأتيه على طبقٍ من فضّة. إلى الآن، يسدّدني ربّي أن لا أقع في الحرام ولا أقربه، وهو امتحانٌ حقيقيّ في زمنٍ صعب".

فيما يسرد سامر ع. (تاجر) قصةً عمّا تعرّض له: "حينما انخفضت القيمة الشرائيّة للعملة اللبنانيّة، دخلت في حيرة كبقيّة التجّار، وسألت زملائي في مجال التجارة عمّا سيفعلون. في الحقيقة أجابني بعضهم بأن أحتفظ بالبضاعة لأقوم بتسعيرها بسعر أعلى؛ لأعوّض خسارتي، ولأحافظ على قدرتي الشرائيّة لجلب بضائع أخرى. لكن يومها، كنت أبحث لرضيعي عن علبة حليب، وعرفت التاجر المحتكر وكان صديقاً، اتّصلت به وأجابني بعدم امتلاكه، لعنتُه في نفسي كثيراً، ولم أرضَ بفعله وقد أوجعني كثيراً. قد يسهل الحرام، لكنّه سيأكلنا بالتأكيد؛ لذلك حرّمه الله وهو الخبير العليم، والحلال متاح لكنّه يحتاج منّا قليلاً من الجهد والصبر، ونتيجته رضى الله، والبركة في الرزق".

* علّة المال الحلال والحرام
عن سبب تقسيم المال بين حلال وحرام، يتحدث الشيخ محمّد زراقط: "اقتضت طبيعة الحياة البشريّة، بالنظر إلى تضارب المصالح بين الناس، وضع قوانين تنظّم علاقة الإنسان مع الأشياء التي يتملّكها. فالناس متفاوتون فيما بينهم في القدرة على التملّك، فإذا تُركوا دون ضوابط انتشر الطمع وتملّك عدد قليل منهم على حساب الآخرين. من هنا، وضعت الشرائع ضوابط للحصول على المال وتملّكه، فقُسّم المال إلى قسمين: مال حلال يحصل عليه الإنسان من الطرق المشروعة، كالعمل وبيع المباحات من دون احتكار وما شابه، والمال الحرام، وهو المال الذي يتملّكه الإنسان بطرق غير مشروعة، مثل الغصب والربا وغيرهما". 

* مواقع الابتلاء
يضيف سماحته: "إنّ مواقع الابتلاء في ما يخصّ مصدر المال الحرام كثيرة، فكلّ إنسان مهما كانت طبيعة حياته، يمكن أن يُبتلى بالكسب الحرام، مثلاً: التاجر قد يغشّ، والغنيّ قد يُقرض أمواله بالباطل، والفقير قد يمدّ يده إلى لقمة حرام في يد فقير آخر، والشريك قد يسرق أموال شريكه، والموظّف الذي يعمل بالأجرة عند شخص آخر قد لا يُتقن عمله أو قد يقصّر فيه، فيكون الأجر الذي يحصل عليه مالاً حراماً".

* الإنفاق الحرام
الأمر لا يقتصر على الكسب الحرام، بل أيضاً قد يتعدّى إلى الإنفاق الحرام، فيقول سماحته: "حرمة المال في الشريعة الإسلاميّة لا تنحصر في الكسب فقط، بل إنّ المال الذي اكتُسِب بطريقة مشروعة قد يُنفق بطريقة غير مشروعة، وفي بعض الحالات لا فرق بين الكسب الحرام والإنفاق الحرام. فالشريعة لم تكتفِ بتحريم أخذ الربا على سبيل المثال، بل حرّمت دفع الربا من قِبَل المقترض أيضاً. وبعبارة عامّة، الأحكام الشرعيّة الماليّة موجّهة إلى الإنفاق والتحصيل على حدّ سواء".

* مشاطرة آكل الحرام
يلفت الشيخ زراقط: "إذا كانت بعض الأعمال المحرّمة تحتاج إلى طرف واحد كالسرقة، فإنّ كثيراً من حالات الكسب الحرام لها طرفان يتقاسمان الفعل الواحد ويتشاركان فيه. فالرشوة مثلاً، هي فعل مشترك بين الراشي والمرتشي، وربّما بين طرف ثالث يحاول التوسّط بين الطرفين. وهذه الأفعال محرّمة على جميع الأطراف، ولا يمكن اعتبارها مساعدة قط، بل هي مشاركة في الفعل الحرام".

* الخُمس والصدقة: حقّ المال
يكمل سماحته حديثه في ما يخصّ دفع الخُمس وعدمه: "يستند وجوب الخُمس وغيره من الواجبات الماليّة إلى رؤية إسلاميّة خاصّة إلى المال؛ وذلك أنّ المال من وجهة نظر الشريعة أمانة جعلها الله بين أيدي العباد، وأذن لهم بالتصرّف فيها في حدود معيّنة، واشترط عليهم شروطاً محدّدة يجب عليهم الوفاء بها. ومن جملة هذه التشريعات أنّه جعل للفقراء حقّاً في أموال الأغنياء في الصدقة والزكاة والخُمس، فمن وجب عليه دفع حصّة من ماله ولا يؤدّيها، يكون كمن يأكل من حصّة شريكه، وكما لا يجوز الأكل من حصّة الشريك، كذلك لا يجوز الأكل من حصّة الموارد الشرعيّة التي جعلها الله لهم في أموالنا. نعم، لا يحرم المال كلّه، بل الحرام هو بمقدار الخُمس والحقّ المفروض، فإذا لم يؤدّه الإنسان، كان آكلاً للحرام، ومقصّراً في إيصال حصّة الآخرين إليهم".

* آثار المال الحرام
بيّن الشيخ زراقط أنّ حرمة المال لا تقتصر على مخالفة الحكم الشرعي، بقدر ما تنعكس آثارها على صاحبها أيضاً: "الحياة الدنيا مرحلة يعبر الإنسان منها إلى عالم أكثر واقعيّة، تظهر فيه نتائج أفعاله، وهذا ما ينطبق على كسب المال الحرام، الذي له آثار دنيويّة وأخرويّة". منها: 

1- الآثار الدنيوية: "ورد في النصوص الدينيّة أنّ المال الحرام يترك آثاره السلبيّة على حياة الإنسان فرداً وجماعة. فالرشوة والربا مثلاً، تخلقان فوضى اقتصاديّة واجتماعيّة، وتؤدّيان إلى اختلال أركان المجتمع ودماره. وقد وصف القرآن الكريم آكل الربا بأنّه لا يقوم إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ. وورد أيضاً أنّ أكل المال الحرام يؤدّي إلى قسوة القلب، والجرأة على ارتكاب المعاصي الأخرى".

2- الآثار الأخرويّة: يتابع سماحته: "أبرز الآثار الأخرويّة هو العذاب، والعذاب هنا ربّما يكون أصعب من العذاب الجسديّ الذي تحدّثت عنه الآيات والروايات، ألا وهو العذاب الوجدانيّ أو النفسيّ، من قبيل الإحساس بالندم؛ فإنّ الإنسان في كثير من الأحيان يعصي الله في الكسب الحرام، ثمّ نجده يترك ما اكتسبه وراءه ليتنعّم به غيره حلالاً في بعض الأحيان، فيدخل النار بكسبه ويُدخل غيره الجنّة بحسن التصرّف في ما وصل إليه. والأصعب من ذلك كلّه هو الحسرة على ما ارتكب، والحرمان من رضى الله سبحانه وتعالى".

وهكذا، إنّ الكسب الحرام، وإن أحاطته هالة الرغبة، تبقى حرمته جليّة وأثره بليغاً يطال المرء في الدنيا، ويسوقه إلى سَقَر في الآخرة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع