مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإخلاص الحقيقي

السيد عباس نور الدين


* إمكانية تحقّق الإخلاص:
قد يتصور البعض من خلال البيان السابق إن الوصول إلى الإخلاص التام أمر غير متيسر إلاّ لفئة قليلة جداً من البشر. وبناءً على هذا التصوير يعرضون عن هذه الحقيقة ويبدأون بطرح منهج آخر أو تزول أولويته من منهجهم. ونحن هنا لا نشكّ إطلاقاً في صعوبة الوصول وشدّة شروطه، ولكن لا ينبغي أن تجعلنا هذه الصعوبة نتنازل عن حقيقة جوهرية في السلوك المعنوي. وهنا نشير إلى عدّة ملاحظات أساسية:

أولاً: ما هو المقصود من أنّ فئة قليلة جداً من الناس تنال توفيق مقام الإخلاص. هل يعني هذا أنّ الموفقية كامنة في أصل خلقتهم وأن تميزهم عن غيرهم لا يعود إلى سلوكهم ومجاهداتهم؟ فإذا كان أحدنا يظن ذلك فقد أساء الظن بخالقه واتهمه بالظلم. ذلك لأنّ الله تعالى يعطي جميع مخلوقاته الاستعدادات المتساوية لبلوغ أعلى المقامات. ولكن الفوارق والامتيازات الواقعية ترجع إلى سلوكهم الذاتي الذي اختاروه بإرادتهم. نعم تميزت ثلة قليلة من البشر وعبر التاريخ بميزة الإخلاص من جهة وصعوبة هذا المقام وعظمته.

ثانياً: إنّ الصعوبة ليست ناشئة من التعقيد والإبهام بل من المقارنة مع الكلمات والمقامات الأخرى – دنيوية كانت أو معنوية – وهذه الصعوبة ليست على مستوى فهم معنى الإخلاص ولا على مستوى منهج الوصول إليه.

ثالثاً: إنّ الإخلاص توجهٌ وليس عملاً بالمعنى الدقيق. أي أنّ الشريعة الإلهية التي تنظم سير الإنسان العملي وتتضمن جميع ما ينبغي أن يؤديه الإنسان أو يتركه في كلّ شؤون حياته لا تتضمن تكليفاً مستقلاً تحت عنوان الإخلاص بحيث يكون هذا التكليف إلى جانب التكاليف الأخرى. بل إنّ الأمر بالإخلاص كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، يشير إلى روح جميع العبادات والأعمال. فإنّ جميع الأوامر الإلهية تختصر بأمر واحد هو الإخلاص، كما هو واضح من الآية المباركة أي أنّ الله تعالى لم يأمر إلاّ بالإخلاص له. وهذا الدين بكلّ تعاليمه وأحكامه العملية إنّما جاء لتحقيق هذا المطلب الأساسي. وبالتالي فلا وجود لأعمال خاصة للوصول إلى الإخلاص كما يتصور البعض.
ولنتأمل في هذه الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ  ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾  قال: ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملاً. وإنّما الإصابة: خشية الله والنية الصادقة والحسنة. ثم قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل. والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّ وجلّ. والنية أفضل من العمل إلاّ وأنّ النية هي العمل ثمّ تلا قوله تعالى:  ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾ [يعني على نيته] (أصول الكافي/ج2).

رابعاً: فليس مطلوباً من السالك في توجهاته جميعاً إلاً أمر واحد وهو أن لا يطلب من وراء العمل شيئاً إلاّ الله تعالى. وهذا هو المعنى الحقيقي للعبودية. والعبودية بدون الإخلاص لا معنى لها، كما أنّها لا تعني شيئاً بدون الالتزام والعمل.
خامساً: بعض السالكين – ونظراً إلى صعوبة هذا الأمر – يتساهلون بعد فترة من المجاهدات الشرعية بالتوجه إلى الإخلاص كنقطة مركزية في كل سيرهم المعنوي. ونحن نقول لهم هنا: إذا كنتم ترجون الوصول إلى أيّ مقام بدون الإخلاص فهذا ظن خاطئ يرديكم لأنّ الإخلاص شرط واقعي والمقامات الحقيقية أمور أو عوالم واقعية والوصول إلى الواقع والحقيقة لا يمكن أن يتمّ إلاّ بوسيلة واقعية. ومن سلك في الاعتبار وصل إلى الوهم والخيال. نعم كلّ وسيلة واقعية يمكن التعبير عنها بلسان الاعتبار. ولكن استحضار الاعتبار لا يكون سبباً حقيقياً.

إنّك إذا كنت تظنّ أنّه بإمكانك الوصول إلى الجنّة أو النجاة من النار بدون الإخلاص، فاعلم أنّك محجوب عن الحقيقة وبعيد عنها بعد السماء عن الأرض. لأن أول مراتب الفوز وهي النجاة من النار مشروطة بالإخلاص. ومعناه هنا أن ترى هذه النجاة من النار قد يكون راجعاً إلى الخوف على النفس. فهنا يكون التوجه إلى الجنة أو النار استقلالياً. وهذا هو الذي ذكره أهل الله على أنّه مبطل لعمل أو منافٍ للإخلاص.
أما المعنى الآخر للطلب أو الخوف، فهو إنّ الطالب أو الخائف هنا يكون ناظراً إلى الجنة على أنّها من الله أو ساحة لقاء الله أو مظهر جمال الله ورحمته الواسعة أو أنّه يخاف من النار على أنّها مكان الطرد والبعد عن جوار الله وهي ظهور قاهرية الله وانتقامه. فهذا النظر لا يكون استقلالياً بل هو نابع من التوجه إلى الله. كلّ ما في الأمر أنّه أقل درجة من التوجه التام إلى الله والاستغراق في سبحات وجهة الباقي المستهلك فيه جميع المظاهر والأسماء.

ونحن إذا عدنا إلى التعريف الأول للإخلاص نقترب من فهم هذا النزاع أكثر. فإنّ التوجه إلى الله يستلزم – ولا شك – معرفته لأن التوجه متفرع من المعرفة. وحيث أنّ الذات الإلهية المقدسة في عين وحدتها وبساطتها لها تجليات إطلاقية هي الأسماء والصفات الجمالية والجلالية، قد يكون نصيب بعض العارفين الاقتصار على معرفة بعض التجليات، وعلى هذا الأساس يكون لهم نصيب من الإخلاص.
سؤال آخر يبرز هنا حول المدى الذي يمكن أن يبلغه الإنسان في معرفة الله تعالى. والإجابة عنه تطلب في الأبحاث العقائدية وأفضل الإجابات يمكن تحصيلها مما أنتجته مدرسة الوحي وبينه العارفون السالكون مسلك التفريد والشهود. ولكن إياك أن تشك للحظة واحدة في أنّ الإخلاص في التوجه في أعلى مراتبه أمر غير ميسور لأحد أو أنّه ميسور للبعض فقط. فإنّ حقيقة الإخلاص التام بمعنى عبادة الله لأنّه الله ولا شيء غيره حتّى أسماؤه أمر كامن في أعماق البشر وهو أصل فطرتهم. وكل توجه آخر ينبع من هذه الفطرة الصافية.

فانطلاقاً من هذا المبدأ وهو أنّ جوهر الإخلاص كامن في أعماقنا ومتحد مع فطرتنا، وانطلاقاً من ضرورة الإخلاص لله مطلقاً في كلّ عمل: على السالك أن يبدأ سفره المعنوي متوكلاً على الله في كلّ شيء، وواثقاً بحسن إجابته، وراجياً لوعده الذي لا يخلف، كما قال سبحانه:  ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. وما أجمل أن يعلم الإنسان أنّ هذه المشقات العظمى هي التي تستبطن يسراً وسهولة، وإنّ الدخول في هذه الأهوال والصعاب هو طريق السلام واليسر. قال الله تعالى:  ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا  *  إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
البرنامج العملي للوصول إلى الإخلاص:

التقوى هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الإخلاص. والعمل الممتزج بالمراقبة هو الذي يعطي للتقوى بعدها الإلهي. فليس كلّ عامل بأوامر الله هو التقى بل الذي يلحظ صدور المر من الله تعالى. وهذه الملاحظة هي التي تسمى برنامج المراقبة. التقي هو الذي يلاحظ دائماً أوامر الله ونواهيه للعمل بالأوامر واجتناب المناهي. فهو مراقب لسيده. وعلى أثر هذه المراقبة يوفق التقي لعبور مراتب التقوى الأولى فيكتشف مراتب أخرى من الأوامر والنواهي ويبدأ برعايتها فيصل إلى المرتبة الثانية من التقوى. وهكذا يرتقي حتّى يصل إلى أعلى مراتب التقوى حيث لا يكون متوجهاً أو مراقباً إلاّ مولاه ومستغرقاً في ذاته لأنّها مطلوبة كما قال:  ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ وقال عزّ وجلّ:  ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾
فما هو الذي جعل السالك منذ البداية يرتقي في سلم التقوى؟ إنّه بكلّ وضوح: طلب الإخلاص والشوق للوصول والاستمرار في النظر إليه.
فهذا السالك قد أدرك بعقله أنّ طلب غير الإخلاص لا يحقّق سيراً معنوياً له. وعلى أثر هذا الإدراك عزم على المضي نحوه مهما كلّف الأمر. فنزل إلى ساحة العمل (استجاب لنداء التقوى) وإذ به يتفاجأ بعوائق كثيرة ويكتشف شوائب عديدة تختلف شدة وضعفاً. فماذا يفعل؟

لقد علم أنّ الشريعة هي التي تقدّم له برنامج السير في أودية الحياة. وعلم أنّ الشريعة الصافية تراعي إزالة الشوائب بحسب درجات شدتها وقساوتها. وهكذا مضى في جهاده بكلّ وعي لبرنامج الشريعة متعبداً لتفاصيلها وأحكامها.
وما سنذكره في هذا المقال يرتبط بفهم العوائق التي تمنع السالك من الوصول إلى حقيقة الإخلاص. فهذا الفهم هو الذي يحتاجه اثناء التوجه إلى المقصود. وإذا أردنا أن نشبّه السفر بأكمله بهذا المثال نقول:
"قد يتوجه الإنسان أحياناً إلى أحد الأشياء (إلى قلعة مثلاً). ولكن نظراً إلى بعده عنها، فإنّه لا يراها بشكل واضح. وهي محاطة بغابات من الأشجار الكثيفة. فعليه أن يزيل الأشجار لكي يراها جيداً، لكن إزالة الأشجار تحتاج إلى تحرك. فكلما عبر مسافة مزيلاً الأشجار من أمامه وجد أنّ عليه أن يقطع مسافة أخرى للوصول إلى الرؤية التامة.
فالقلعة هنا هي الإخلاص والأشجار هي الشوائب ومسيره هو برنامج الشريعة (أي: التقوى).
وفي هذا الدرس تعرفنا بشكل إجمالي إلى القلعة وهي الإخلاص وسنذكر الآن الأشجار التي تعترض المسافر في كلّ مرحلة من مراحل سفره تحت عنوان مراتب الإخلاص. وبعدها يأتي تفصيل الطريق العملي تحت عنوان العوالم المتقدمة على الإخلاص.

* مراتب الإخلاص:
سنستفيذ في هذا المجال مما بينه الإمام الخميني قدس سره في كتابه آداب الصلاة مع توضيح حيث يلزم.
1- فإحدى مراتب تصفية العمل – سواء كان قلبياً أو قالبياً ظاهرياً أو باطنياً – هي تصفيته عن شائبة رضا المخلوق وجلب قلوب المخلوقين. سواء كان قلبياً أو قالبياً ظاهرياً أو باطنياً – هي تصفيته عن شائبة رضا المخلوق وجلب قلوب المخلوقين – سواء كان هذا لكي يحمدوه أو ينفعوه أو لكي لا يسقط في أعينهم. وهذه الشائبة هي التي تسمى بمرض الرياء.
ولكن، من المهم أن نعلم بأنّ الرياء على مراتب، كلّها تعود إلى الشرك كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ كلّ رياء شرك". وحيث أنّ للشرك مراتب عديدة مقابلة للتوحيد. ففي كل مرتبة يوجد نوع من الرياء. ومن أراد المزيد من المعرفة حول هذا المرض الخطير المحبط للآمال فليرجع إلى شرح الحديث الثاني من "الأربعون حديثاً" للإمام الخميني قدس سره.

2- المرتبة الثانية: تصفية العمل من تحصيل المقاصد الدنيوية والمآرب الفانية الزائلة. فقد يؤدي الإنسان عملاً شرعياً ولكن غايته من ورائه تكون الحصول على مطالب دنيوية كتوسعة الرزق والسلامة في الدنيا من الآفات والعافية وأمثالها. فهذه الغاية منافية للإخلاص. وعلى السالك أن يصفي أعماله منها.
توضيح: إنّ ما جاء في الروايات والأحاديث الكثيرة من الحثّ على الأعمال وبيان نتائجها الدنيوية كالسلامة والصحة والتوسعة ليس لأجل أن يجعل العباد من هذه النتائج غايات لأعمالهم. وجميع هذه الفوائد العاجلة يطلبها السالك على نحو الوسيلة أو يطلبها لأنّ الله يأمره أن يطلبها. فعندما يطلب العبد سعة الرزق من مولاه فقد يطلب ذلك على أساس أن تكون هذه السعة وسيلة للتقرب إليه كالتمكن من الجهاد ودعم المقاومة. وقد يطلب العبد ذلك لأنّ الله أمره أن يسأله ويستعطيه، "يا موسى سلني ملح عجينك". وهذا لا يتنافى مع الإخلاص في شيء بل هو طريق إليه. والحديث عن التصفية يرتبط بالغاية وليس بالوسائل.

3- المرتبة الثالثة: تصفية العمل من طلب الوصول إلى الجنات الجسمانية كالحور والقصور وأمثالها من اللذات الجسمانية. والعابد المخلص إنّما يطلب هذه الجنات لأنّ الله يأمره بذلك وهو يشتاق إلى الجنة من شوقه لوعد الله ورحمته.

4- المرتبة الرابعة: تصفية العمل عن طلب النجاة من العقاب والعذاب الجسماني، وهذه العبادة بهذه النية لا قيمة لها عند أولي الألباب وخارجة عن نطاق العبودية لله. ولا فرق في نظر أهل المعرفة أن يعمل الإنسان عملاً من خوف الحدود والتعزيزات في الدنيا أو خوفاً من العقاب الأخروي. فالداعي إذا كان (في الجميع) للنفس فلا يكون لله وهو منافٍ للإخلاص.

5- المرتبة الخامسة: تصفية العمل من طلب الوصول إلى السعادات العقلية واللذات الروحانية الدائمة الأزلية الأبدية والدخول في سلك الكروبيين (نوع من الملائكة المقربين) والانخراط في زمرة العقول القادسة. وهذه المقامات وإن كانت عظيمة ومهمة ويهتم بها الحكماء والمحقّقون (العارفون) اهتماماً كبيراً، ولكنها بحسب مسلك أهل الله تعد من نقصان السلوك وسالكها (طالبها على أساس الغاية) يعد كاسباً. وقد اتضح من خلال البيان السابق معنى مخالفة هذه الغايات للإخلاص.

6- المرتبة السادسة: هي في إزاء هذه المرتبة، حيث ينبغي تصفية العمل من خوف عدم الوصول إلى هذه اللذات.
وقد ذكرت مراتب أخرى للتصفية. كلّ واحدة تكون مانعةً من الوصول إلى معدن الإخلاص وكمال الانقطاع. فالمقامات النورانية العالية وإن كانت مطلباً عند البعض إلاّ أنها حجاب للذات ينبغي اختراقها. والسالك إذا كان يطلب من الله توفيق الخشوع وحالة الخضوع والروحانية فلا ينبغي أن يجعل هذا الطلب غاية لعبادته لأنّه محبط للأعمال. وأمّا طلب الخوارق والكرامات فإنّه من المآرب الدنيوية والحظوظ الشيطانية التي ترجع إلى صنم النفس. فليتجنب كل سالك هذه المطالب وليحذر من الوقوع في فخها.
ونلفت نظر الأعزاء إلى أنّ مجرد تصور المقام لا يعني أنّنا وصلنا إليه. فإذا كان أحدنا قد تصور آخر مقام للتصفية وعزم على الوصول إليه واستحضره في ذهنه دائماً فهذا لا يعني أنّه قد بلغه. نعم، إنّ هذا التصور والاستحضار من شروط السير والطلب المستمر للإخلاص أمر أساسي. ولكن شتان بين الحصول والحضور.
إنّ المراقبة المستمرة أثناء المجاهدة هي التي تكشف للسالك حقيقة توجهاته. فما أكثر ما يكون أحدنا معتقداً بأنّه لا يريد من الدنيا شيئاً، ويبني على أساس أنّه في طور الانتقال من المرتبة الرابعة إلى المرتبة الخامسة، فتهب عليه عواصف الابتلاء فجأة ليعرف حينها أنّ قلبه ما زال طالباً للدنيا خاطباً لودّها.

7- المرتبة السابعة ومن درجات الإخلاص: تصفية العمل من رؤية استحقاق الثواب والأجر. حيث يعمل العبد عملاص وهو يرى أنّه يستحق عليه الثواب. وهذا – كما يقول الإمام – لا يخلو من الإعجاب، ولا بدّ للسالك من تخليص نفسه منه، لأنّه من نقصان المعرفة بحاله وبحق الخالق تعالى شأنه.
فالسالك لا بدّ له أن يجهد ويفهم القلب بالرياضات القلبية والسلوك العقلي والعرفاني، إنّ جميع الأعمال من الهبات الإلهية والنعم التي أجراها الحق تعالى على يد عبده. فإذا تمكّن التوحيد الفعلي في قلب السالك فلا يرى العمل من عند نفسه ولا يطلب الثواب عليه، بل يرى الثواب تفضلاً والنعم ابتداءً منه تعالى: "نعمك ابتداء وإحسانك التفضل". وفي دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "لك الحمد على ابتدائك بالنعم الجسام والهامك الشكر على الإحسان" وفي مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه السلام: "وأدنى حد الإخلاص بذل العبد طاقته ثم لا يجعل لعمله عند الله قدراً فيوجب به على ربه مكافأة لعمله".

8- المرتبة الثامنة وهناك درجة أخرى للإخلاص وهي عبارة عن تصفية العمل من الإستكثار منه والفرح به وتعلق الخاطر به.
قد لا يكون طلب العامل من عمله أن يحمده الناس أو يثنوا عليه، بل يتعلق قلبه بآثار نفسه. وهذا التعلق ناشئ من حب النفس فيحب على أساسه أفعاله حتى ولو كانت صالحة وموافقة للشرع الأنور. والمسافة هنا بين الإخلاص وعدمه صغيرة جداً بل قد لا تظهر إلاّ بعد سلسلة من المجاهدات أو حين حدوث الابتلاءات. ولعل أفضل اختبار للإخلاص هنا هو عندما يمكن أن يقوم بالعمل نفسه شخص آخر. فإذا حصل في النفس انزعاج (عندما يطلب من الغير القيام به)، فليعلم أنّ العمل كان فاقداً للإخلاص منذ بدايته.

قال الإمام الكاظم (عليه السلام): "كل عمل تريد به الله عزّ وجلّ كن مقصراً عند نفسك فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون إلاّ من عصمه الله عزّ وجلّ".
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّا نعلم بالضرورة إنّ أعمالنا وأعمال جميع البشر بل أعمال جميع ملائكةالله الروحانيين ليس لها قدر يذكر إذا قورنت بأعمال رسول الله والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين). وفي الوقت نفسه فإن اعترافهم بالتقصير وإظهارهم العجز عن القيام بالأمر مذكور يصل إلى حد التواتر. بل فوق حد التواتر. وهذه المسألة تنتج لنا ألاّ نفرح بشيء من أعمالها. بل علينا إذا قمنا بالعبادة والطاعة طول عمرنا أن نكون خجلين وننكس رؤوسنا في محضره..". (آداب الصلاة).

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع