مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

وصال (11) - شرح وصيّة الشهيد الحاجّ قاسم سليمانيّ


الشيخ أبو صالح عبّاس


"أولادي، أبنائي وبناتي، يا أبناء الشهداء، يا آباء وأمّهات الشهداء، أيّتها الأنوار المشعّة في بلادنا، يا إخوان الشهداء وأخواتهم وزوجاتهم الوفيّات المتديّنات، الصوت الذي كنت أسمعه يوميّاً في هذا العالم وأستأنس به، فيغمرني بالسكينة كصوت القرآن، وكنت أعدّه أعظم سند معنويّ لنفسي، هو صوت أبناء الشهداء، الذي كنت آنس ببعضهم يوميّاً، وصوت آباء الشهداء وأمّهاتهم الذين كنت أشعر في وجودهم بوجود والدي ووالدتي".

•نظرة خاصّة
من مميّزات القائد الشهيد قاسم سليمانيّ، نظرته الخاصّة إلى الأمور، والتي تصدر عن رؤيته الوجوديّة المبنيّة على القرآن وتعاليم العترة عليهم السلام، ومخزون هائل من التجارب التي صاغت شخصيّته في قالب ناضج ينضح بالروحانيّة والوعي. وبتعبير آخر، لم تكن نظرته إلى الأشياء شبيهة بغيرها من النظرات، شأنه في ذلك شأن النجّار حينما ينظر إلى طاولة خشبيّة، أو الحدّاد حينما يلمس صفيحة حديديّة؛ فنظرة النجّار تختلف عن نظرة الإنسان العاديّ، وكذلك لمسة الحدّاد، وهكذا كان الحاجّ قاسم، فقد كانت نظرته إلى المجاهدين، والشهداء وعوائلهم، والإمام القائد دام ظله، والمستضعفين، والأيتام، تختلف اختلافاً جذريّاً عن غيرها من النظرات، وهذا كان يظهر من خلال كلماته، ومشاعره، ومقاربته لما يحيط به من الأمور. ولعلّ السرّ في ذلك يعود إلى أنّه كان مصدِّقاً بمفاد ما كان يقرأه ويعرفه من آيات أو روايات، وعلى سبيل المثال، ورد عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال: "إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله عَزَّ وجَلَّ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ"(1). ومثل هذه الرواية قد يمرّ عليها الكثير من المؤمنين دون أن يرتّبوا عليها الآثار التي تليق بها، إلّا أنّ الحاجّ قاسماً حينما يقرأ مثل هذه الرواية، فإنّه يصدّقها ويعمل بمفادها، على قاعدة المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم"(2). وانطلاقاً من عمله بما يعلم، وتصديقه بتعاليم أهل البيت عليهم السلام، فقد كان حريصاً على مشاعر إخوانه، وعلى إفراح قلوبهم، ومن الشواهد على ذلك أروي لكم القصّة الآتية:

•ما سبب عودته؟!
يروي أحد المجاهدين، أنّه في السفر الأخير للقائد الشهيد إلى لبنان، طُلب منه مرافقة الحاجّ إلى الشام، فسُرَّ بذلك لحبِّه الشديد له. ولمّا حان وقت المغادرة إلى الشام، ودون سابق إنذار، أبلغوه بإعفائه من المهمّة، وانطلق الموكب من دونه، فشعر بحزن شديد، وأخذ يبكي ودموعه تسيل على خدّيه، يقول: "في تلك اللحظات، وبينما كنتُ غارقاً في أحزاني، وإذا بي أرى الحاجّ قاسماً يدخل إلى غرفتي، وهو ينظر إليّ بعينين ملؤهما الرحمة والمحبّة، ثمّ دنا منّي وأخذ يطيّب خاطري بصوته الشجيّ، وأبى أن يغادر إلّا بعد أن برَّد النار التي كانت مستعرة في قلبي. ولمّا ذهب، أخذتُ أستعلم عن سبب عودته: هل استجدّ ظرف ما اضطرّه إلى العودة والمكوث قليلاً، حتّى تمكّنتُ من رؤيته مجدّداً، أم أنّ لمجيئه سبباً آخر؟! فأخبروني أنّه عند مغادرته الأولى، كان قد قطع مسافة كبيرة باتّجاه البقاع، فوصله خبر بكائي، فما كان منه إلّا أن طلب من السائق أن يعود أدراجه، ولم يكن لعودته أيّ سبب آخر سوى تطييب خاطري؛ إذ لم يحتمل أن يكون سبباً لبكاء مجاهد، ولو من دون قصد!

وهنا بالإمكان أن نستشعر عظمة هذا العمل حينما نلتفت إلى ضخامة المهامّ التي يحملها على عاتقه، وقيمة كلّ دقيقة من وقته، والذي هو بحجم أوضاع المنطقة بأسرها، إلّا أنّ ذلك كلّه لم يصرفه عن تقدير مشاعر أحد إخوانه، وهذا لا يمكن أن يصدر إلّا من قلب إنسان صادق، ومعتقد بما يعرفه في مدرسة أهل البيت عليهم السلام من قيم ووصايا، والتي منها ما يتعلّق بحرمة المؤمن وحقوقه على أخيه، وفضل أن يُدخل السرور إلى قلبه.

•أنوار مشعّة
ومن هذه الزاوية الاستثنائيّة، كان الحاجّ قاسم ينظر إلى عوائل الشهداء، وإلى زوجاتهم الوفيّات، فقد كان يراهم أنواراً مشعّة، ويستأنس بأصوات أيتام الشهداء وآبائهم وأمّهاتهم، ويسكن إليها كما يسكن لصوت القرآن الكريم -وفق تعبيره-، ويرى فيها أعظم سند معنويّ لنفسه في الحياة، كما كان يشعر بوجود والديه العزيزين على قلبه كلّما جلس مع آباء الشهداء وأمّهاتهم. 

•فليتجلَّ الشهيد في ذواتكم
"أعزّائي، فلتدركوا قيمة أنفسكم ما دمتم روّاد هذه الأمّة، اجعلوا شهيدكم يتجلّى في ذواتكم، بحيث يشعر كلّ من يراكم –أهل الشهيد وأولاده- بوجود الشهيد في أنفسكم، ويشعر بالروحانيّة نفسها، والصلابة والخصائص كافّة".

بعد أن أعرب لهم عن مشاعره الصادقة، أخذ يذكّرهم بقيمة أنفسهم باعتبارهم روّاد هذه الأمّة، ويوصيهم بأن يفسحوا المجال أمام الشهيد ليتجلّى في ذواتهم. وهذه مسؤوليّة كبيرة، تعني أن يجسّدوا منهج الشهيد وقيمه في سلوكهم، بحيث يذكّرون الناس بعظمة الشهيد الذي ارتقى إلى بارئه في سبيل الله، ودفاعاً عن الإسلام والمقدّسات، ويشعر كلّ من يراهم بعبق الشهيد وقداسته في أفعالهم وأقوالهم ومظاهرهم الخارجيّة. وهذا يعدّ بحقّ واجباً ثقيلاً، لا يقلّ أهميّة عن دم الشهيد نفسه، باعتباره يحقّق نوعاً من التخليد الفعليّ لقضيّة الشهيد، ويقدّم دليلاً على انتصار تلك الدماء الطاهرة على المستكبرين والظالمين، الذين يريدون أن يُطفئوا شعلة الإسلام، وأن يعيثوا الفساد في قيم المؤمنين وقضاياهم الحقّة، والتي من ضمنها قداسة الشهيد نفسه والقضيّة التي استشهد لأجلها.

وذلك لا يكون من دون رعاية ما أسماه بخصائص الشهيد، وقد أشار إلى خاصّيّتين منها، وهما الروحانيّة والصلابة؛ إذ إنّ الروحانيّة تعبّر عن تفجّر الحالة المعنويّة في القلب، أمّا الصلابة فتدلّ على البصيرة، والعقيدة الراسخة، والثقة بصوابيّة هذا الطريق الذي مضى عليه الشهيد حتّى قضى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).

•العفو منكم
"ألتمس منكم العفو وبراءة الذمّة. لقد عجزت عن أداء حقّ الكثيرين منكم، ولم أفِ أيضاً بحقّ أبنائكم الشهداء، فأستغفر الله، وأطلب العفو منكم".

في هذا المقطع يعود القائد الشهيد إلى نفسه الطاهرة مبدياً مشاعر التقصير حيال الشهداء وعوائلهم، فيتوجّه إليهم طالباً منهم العفو، وإبراء ذمّته ممّا عدَّه عجزاً عن أداء حقوق الكثيرين منهم، ثمّ يتوجّه إلى ربّه مستغفراً، ليعود ويطلب منهم العفو من جديد، وهذا يدلّ على عظمة النفس التي كان يحملها، ودرجة القداسة التي كان ينظر بها إلى الشهداء، وعوائلهم، وإلى إحساسه المرهف، وتثمينه الاستثنائيّ لقضيّة الفداء، والتضحية، وأيضاً لقيمة الدماء والأرواح التي كان مسؤولاً عنها قبل أن تعرج إلى بارئها المتعال.

•فلتحملوا جثماني
"أحبّ أن يحمل أبناء الشهداء جثماني، علَّ الله عزّ وجلّ يشملني بلطفه ببركة ملامسة أيديهم الطاهرة لجسدي".

يختم الحاجّ قاسم هذا المقطع بما بدأ به من إشارة إلى قداسة أبناء الشهداء، مشيراً هذه المرّة إلى حقيقة فريدة تتعلّق بأيديهم الطاهرة، وكأنّه كان يرى فيها نوعاً من الشفاعة الخاصّة، ولأجل ذلك لم يتوانَ عن الإعراب عن حبّه لأن يحمل أبناء الشهداء جثمانه، لعلّ الله عزّ وجلّ يشمله بلطفه، ببركة ملامسة أيديهم الطاهرة. 

1.الكافي، الكلينيّ، ج2، ص190.
2.المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، الفيض الكاشانيّ، ج1، ص148.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع