وئام أحمد
كثيرةٌ هي المآسي التي ولّدتها الحروب، قتْل، تهجير،
تيتيم أطفال، ترميل الزوجات... واللائحة تطول... فعندما نقلّب صفحات التاريخ،
نتذكّر هذه القصص الحزينة، فنتألّم، ويتلاشى الألم مع إغلاق الكتاب....
ما يميّز السينما عن غيرها من الفنون، أنّها جعلت الواقع كالمرآة أمامنا، وربما
جعلت تلك الصور التي تعكسها المرآة تتجاوز كلّ حدود الزمن. إنتاج جديد يُضاف إلى
رصيد الأفلام الإيرانيّة الناجحة والمؤثّرة، ويضيف إلى أرشيف الدفاع المقدّس قصّة،
تميّزت كغيرها من آلاف القصص بالواقعيّة والمشاعر.
فيلم "شيار 143"، أو "الأخدود"، هو فيلم إيرانيّ معاصر، يتحدّث عن أمّ تربطها علاقة
مميّزة بوحيدها "يونس"، الذي يندفع وراء عشقه للجهاد، تاركاً وراءه أمّاً تحيك من
لحظات الزمن ثوب الانتظار، الذي ينتهي بعد خمسة عشر عاماً.
*مقاربة لتفاصيل الفيلم
لا يخفى على المشاهد، أنّ الفيلم يُعتبر من الأفلام الناجحة، ذلك أنّه يتناول
مقطعاً من الحياة الاجتماعيّة لإحدى عوائل شهداء الدفاع المقدّس. والقصّة كتبتها
المخرجة "نرجس أبيار" كرواية سابقاً، بعد إجراء وتمحيص في ملفّات الحرب المفروضة
على إيران، وبعد أن تحيّرت كثيراً في آلاف القصص التي تركتها تلك المأساة
العالميّة، يقع الاختيار على قصّة "أُلفت".
أ. الأمّ الصابرة
تقول المخرجة، إنّها بعد أن كانت قد أنهت هذه الرواية، ولاقت نجاحاً كبيراً في عالم
الروايات الإنسانيّة، قرّرت أن تحوّلها إلى فيلم سينمائيّ، فاختارت من الحبكة
القصصيّة لها قصة الأم الصابرة "أُلفت".
ربما لم تلتفت المخرجة "أبيار"، إلى أنّ نقطة القوّة التي بنت عليها فيلمها
السينمائيّ، ستتحوّل إلى مأخذ كبير عليها لدى الكثير من النقّاد السينمائيين، ففي
مناظرة طويلة ومُضنية بينها وبين الناقد السينمائيّ المخضرم "مسعود فراستي"، رأى
أنّ نقطة الضعف الأساسيّة في هذا الفيلم أنّه أدبيّ وليس سينمائيّاً، فالرؤية
الإخراجيّة التي حكمت كافّة مفاصله هي أدبيّة؛ أي أنّها لم تكن متولّدة من عين
سينمائيّة بحتة.
ب. المبالغة في إظهار الحزن
بالإضافة إلى ذلك، نقف عند نقطة أخرى وهي عاطفة الأمّ الجيّاشة؛ ما جعلنا نشعر بأنّ
المخرجة تعمّدت جَعْل طابع الفيلم أنثويّاً بامتياز. لا يستطيع أحد أن يزايد على
أنّ الأم هي منبع العاطفة والأحاسيس، ولكن في "شيار" تخطّت المخرجة هذه النقطة،
فترانا نرى "أُلفت" تبالغ كثيراً في إظهار حبّها لولدها. فهي تعارض -بدايةً- ذهابه
إلى الجبهة، اعتقاداً منها أنّه صغير السن، مع أنّه كان في التاسعة عشر، وشدّة
تعلقها به جعلتها تحمل المذياع لخمسة عشر عاماً علّها تسمع من الإذاعات العراقيّة
باسمه أسيراً، مع ما تبعه ذلك من إحراج كبير في المحيط كون تلك الإذاعة تبثّ أغانيَ
مخالفة للشرع الإسلاميّ.
إضافة إلى ذلك، فإنّ الأم تعيش حالة من الصدمة والهستيريا جرّاء غياب ابنها، خاصّةً
عندما كانت تسمع خبراً عنه، فتراها مرّة تقيم الأفراح والولائم لمجرّد سماع خبر عن
عودته، لتكتشف فيما بعد أنّ الذي أخبرها كان مشتبهاً بينه وبين شخصٍ آخر. وهذا لا
يتوافق مع حالة عوائل الشهداء الذين قد نذروا أنفسهم وحياتهم لخطّ الولاية، والسير
في عشق "الخميني" قدس سره، لأنّنا عندما نشاهد فيلماً يخاطب شريحةً محدّدةً من
مجتمع الجهاد، علينا أن نرى، هل هذا يتوافق مع ما كانوا عليه؟ هل أنّ عوائل الشهداء
عندما يشاهدون هذا الفيلم، يجدونه يتحدّث عن معاناتهم، ويترجم الحالة التي كانوا
عليها في لحظات الانتظار؟ ربّما في خاتمة الفيلم نجد أنّ الصورة التي قدّمتها
المخرجة كانت فعلاً راقية جدّاً بكلّ ما للكلمة من معنى، وكلّ تلك الصدمات والأحزان
التي مرت في أحداث الفيلم تلخّصها "أبيار" في احتضان "أُلفت" لرفات ولدها، ذلك
الطفل الذي لطالما ناغته ودلّلته، لطالما ضمّته إلى صدرها وهمستْ في أذنه لينام،
يعود إليها كما ولدته، طفلاً معمّداً بغسل الشهادة، نقيّاً طاهراً من كلّ ذنوب
الدنيا، مختصراً سِنِيَّ عمره كلّها في لحظة تعبّد في التكليف.
استطاعت المخرجة بحقّ، أن تقدّم للمجتمع فيلماً إنسانيّاً يقارب أوجاع عوائل
المفقودين من المجاهدين، الذين ما تزال جراح شهادة أولادهم تنزف كون أجسادهم لم تعد
ليحتضنها تراب الوطن.
*آراء النقّاد حول الفيلم
- عن رأيه بالفيلم قال السيّد الخامنائي دام ظله: "لقد شاهدت الفيلم؛ كان فيلماً
جميلاً جدّاً. نحن لسنا خبراء في عالم السينما، ولكن يمكن أن يتكوّن لدى المشاهد
نوع من الحسّ النقديّ؛ فإذا نظرنا إلى القصّة -وإحدى الأساسيّات التي تفتقر إليها
أفلامنا هي القصّة الجميلة شديدة الجاذبيّة- سنجد أنّ قصّة هذا الفيلم جميلة
وجذّابة، وأنّ فيه حبكة قصصيّة، وقد جرى عَرْضها خلال الفيلم ببراعة؛ كذلك الأمر
بالنسبة إلى الإخراج فقد أنجزته السيدة "آبيار" بصورة جيّدة جدّاً".
- كما اعتبر الناقد، والشاعر، واللغوي الإيرانيّ عبد الجبّار كاكايي فيلم "الأخدود
شيار 143" من أفضل أفلام الحرب التي شاهدها. وعلّل تفضيله الفيلم بعدّة أسباب،
منها: التصوير الواقعيّ لإحساس الأم التي تفقد ابنها، وكذلك لغة الفيلم وأداء
الممثّلين و...
- قال كاكايي: إنّ فيلم "الأخدود 143" (شيار 143) هو من أفضل أفلام الدفاع
المقدّس التي شاهدتها إلى الآن وذلك من عدّة جوانب. الجانب الأساس هو أنّ للفيلم
نظرة مختلفة عن الحرب، نظرة ذات طابع إقليميّ ومنفصلة عن الأيديولوجيا والقراءة
النمطيّة للحرب.
وقال أيضاً: لقد استطاعت "مريلا زارعي" أن تؤدّي دور الأمّ في تعبير عن شعور
حقيقيّ عند الأم التي تنتظر أبناءها بفارغ الصبر.
- وعبّر المخرج "إبراهيم حاتمي کيا" عن إعجابه بالفيلم بقوله: إنّ شخصيّة
"أُلفت" مع الأداء الخلّاق للممثلة "ماريلا زارعي"، أعاد للأذهان دور الحاج كاظم في
فيلم "العين الزجاجيّة"، وقد ترك في السينما كما في أذهان الناس ذكريات جميلة
ومعبّرة.
*السينما مرآة الواقع
ربّما لا يتّسع المجال لمقاربة الفيلم بنظرة تحليليّة تفصيليّة، لكن يبقى أن نقول
إنّ المخرجة قد نجحت في هذا الفيلم؛ لأنّ السينما هي مرآة للواقع، فبالقدر التي
تصيب به تصوير هذا الواقع، تكون ناجحة، كما حصل مع المخرج "مسعود ده نمكي"، الذي
دخل عالم المخرجين في السينما الإيرانيّة من فيلم وثائقيّ غير موفّق "فقر وفحشا"
ولكنّه عدل في مسيرته الفنية بفيلم ناجح "إخراجى ها 1" إذ اختار القصّة التي تقارب
الواقع، وتعب على تظهيرها كما يجب.
نختم حديثنا بكلام للقائد المفدّى الخامنئي دام ظله في رأيه حول سينما الدفاع
المقدس، حيث يقول: "لا حاجة لدينا لاختراع الأساطير؛ فالآخرون مجبورون على اختراع
الأساطير أو اكتشاف حالة خاصة والحديث عنها 100 عام و200 عام و500 عام! كأن يعثروا
على امرأة مثلاً في مكان ما من العالم قدّمت تضحية ما، ويشهروا اسمها ليطرق مسامع
البشرية جمعاء. لدينا المئات والآلاف من هذا النوع من النساء، والرجال، والشباب،
كلّ هذا النوع من الأبطال كانوا في بلدنا، وكان الدفاع المقدّس ساحةَ بروزهم
وظهورهم. ويجب علينا أن لا نسمح بذهاب هذا التاريخ أدراج الرياح".
* بطاقة الفيلم
- اسم الفيلم الأصلي: شيار 143.
- سيناريو وإخراج: نرجس آبيار.
- بطولة: مريلا زارعي، مهران أحمدي، كلارا عبارسي، جواد عزتي، حسام بيكدلو،
يد? شادماني، زهراء مرادي، علي نفيسي، حميدة صادقي، سامان صفاري، محيا دهقاني...
- نال الفيلم عدّة جوائز في مهرجان الفجر منها جائزة "الحكّام"، كما عرض في
العديد من دول العالم منها لبنان.