الشيخ حسن أحمد الهادي
لا خلاف بين المسلمين في أنّ حكم الربا هو الحرمة كتاباً وسنّةً. والربا في الإسلام من الذنوب الكبيرة، فقد عبّر القرآن عنه بمحاربة الله ورسوله، وصرّح سبع مرات بحرمته(1)، كما في قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰا﴾ (البقرة: 275)، وتوعّد المرابين بحرب من الله ورسوله. والمعاملة الربوية باطلة مطلقاً من دون فرق بين العالم والجاهل بها، فيجب على كلّ من المتعاملَين ردّ ما أخذه إلى مالكه.
أمام هذه الحرمة المؤكّدة، وأمام مجموعة من المعاملات الحديثة التي قد يشوبها الربا، نعرض في هذا المقال بعض المعاملات الربويّة وكيف يمكن إجراء معاملاتنا الماليّة صحيحة طاهرة دون الوقوع في شبهة ربويّة.
•بين القرض والربا
الدَين معاملة ماليّة ذات نتائج وآثار واسعة في الحياة الاقتصاديّة والمعيشيّة للأفراد والمؤسّسات والدول، مضافاً إلى كونه عملاً أخلاقيّاً وإنسانيّاً نبيلاً. وقد جاء الإسلام بتشريعاته الفقهيّة والأخلاقيّة ليجعل من الدَّين ظاهرة حضاريّة وعملاً شريفاً، فضلاً عن الأهداف الاقتصاديّة والماليّة التي يستهدفها من وراء ذلك؛ في سبيل إنعاش حياة الفرد والمجتمع وتطويرها.
كما يرفض الإسلام أن يتحوّل الدَّين وسيلةً للاستغلال، وأداةً بيد الجشعين والمستغلّين من المرابين ومصّاصي الدماء، كون هذا السلوك الماليّ المحرّم في الشرائع السماويّة من أجلى مصاديق الظلم والاعتداء على الآخر، والذي يؤدّي بالمجتمع إلى الانهيار والسقوط في أوحال القهر والغلبة، حيث تتجمّع الثروة الماليّة لدى فئة قليلة من الناس عن طريق تعاملهم بالربا، على حساب حرمان الآخرين من حقوقهم الطبيعيّة في تلكم الثروة والتمتّع بها.
لذا حرّم الإسلام الربا بأشكاله كافّة، واعتبر القرض أفضل من الصدقة، وأنّ من يقرض محتاجاً فإنّه كمن يقرض الله تعالى، وعلى الله جزاؤه. كما حثّ الإسلام أصحاب المال المقتدرين على إقراض المحتاجين، وتأجيل المعسرين رحمةً بهم، وألزم المَدين الحرص على أداء الدَّين لمالك المال، مضافاً إلى ما اتّخذ بحقّه من ضمانات قانونيّة لحماية حقّ الدائن.
•ما هو الربا؟
هو بيع أحد المِثلَين بالآخر مع الزيادة(2)، مثل بيع أحد المتماثلين المقدّرين بالكيل والوزن بالآخر، كالحنطة والشعير، مع زيادة في أحدهما حقيقةً كبيع كيس من الحنطة الجيّدة مثلاً بكيسَين من حنطة رديئة، أو بكيس ودرهم، أو اقتراض مبلغ من المال بشرط إعادته مع زيادة، ولا فرق بين كون الزيادة عيناً أو عملاً.
•أقسام الربا
قال الإمام الخمينيّ قدس سره إنّ الربا قسمان: معامليّ، وقرضيّ(3).
1- الربا في المعاملة: أي في البيع، حيث يُشترط أن يكون الثمن والمثْمَن من جنس واحد، وأن يكون ذلك الجنس من المكيل أو الموزون دون المعدود ودون المقدّر بالمتر أو الهكتار كـ"القماش والعقار"، فإذا كان المبيع والثمن من جنس واحد، وكانا من المكيل أو الموزون، وكان أحدهما أزيد من الآخر، كان البيع ربويّاً، دون ما إذا كان معدوداً كالبيض، كما في بعض البلدان، فإنّه لا ربا مع الزيادة، وكذلك مع اختلاف الثمن والمثْمَن في الجنس، ولو مع الزيادة كبيع الحنطة بالأرزّ. ويمكن التخلّص من الربا المعامليّ بالاختلاط، بأنّ يُختلط في أحد العوضين شيء من غير العوضين المتجانسين.
2- الربا القرضيّ: وهو أن يُعطي المُقرض قرضاً للمُقترض، ويشترط عليه الزيادة عند التسديد. والشرط كلّ نفع زائدٍ على مقدار القرض. قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "لا يجوز شرط الزيادة (في القرض) أن يقرض مالاً على أن يؤدّي المقترض أزيد ممّا اقترضه. وهذا هو الربا القرضيّ المحرّم الّذي ورد التشديد عليه. ولا فرق في الزيادة بين أن تكون عينيّة (كمائة ألف ليرة بمائة وخمسين ألف ليرة)، أو عملًا (كخياطة ثوب له)، أو منفعةً أو انتفاعاً (كالانتفاع بالعين المرهونة عنده)، أو صفةً (مثل أن يقرضه دراهم مكسورة على أن يؤدّيها صحيحة)"(4).
•نماذج للمعاملات الربويّة
وتجدر الإشارة إلى أنّه في الماضي، كان الربا المشهور هو الربا المعامليّ، فيما السائد في عصرنا الحاضر هو الربا القرضيّ.
ويمكن تقريب معاملة الربا القرضيّ بالنموذجين الآتيين:
- الأوّل: عندما يكون المقترض مضطرّاً إلى أن يأخذ قرضاً ماليّاً لإدارة شؤون حياته، لكنّه لا يستطيع أن يفي به لعدم تمكّنه من ذلك، وبسبب هذا التأخير، يُضاف عليه مبلغ من المال؛ فيتضاعف عليه الدّين كلّما تأخّر في التسديد. وحرمة هذا القرض واضحة؛ لأنّ فيه ظلماً واضحاً للمُقترض وإجحافاً بحقّه.
- الثاني: عندما يكون المُقترض مضطرّاً إلى أن يأخذ قرضاً ماليّاً لجعله رأساً للمال في عملٍ منتج كمؤسّسة أو معمل، فيكون هدفه من القرض تطوير مؤسّسته وعمله ليحصل على ما يكفيه من الرزق والربح، وفي الوقت عينه، يشترط أن يُرجِع إلى المُقرض نسبةً ماليّة إضافيّة فوق رأسمال القرض بعنوان الفائدة، وهذا يدخل أيضاً تحت الربا المحرّم للفائدة المترتّبة عليه. وقد ورد في الحديث النبويّ الشهير: "كلّ قرض يجرّ منفعةً فهو حرام"(5).
•كيف نتخّلص من الربا؟
ورد في الشريعة الإسلاميّة الكثير من المعاملات الماليّة التي استثنيت من الربا، ولا يترتّب عليها آثار المعاملة الربويّة، منها:
1- الاستفادة من المعاملات الماليّة المحلّلة: إنّ الإسلام لم يقفل باب الحلال في جني الأموال، فكما أنّه حرّم الربا، فإنّه في المقابل حلّل كثيراً من المعاملات، ومنها معاملة المضاربة. والمضاربة هي أن يضع صاحب مال مالَه عند عامل ليتّجر ويضارب به، فهو يُقدِّم العمل ويبذل نفسه، فيما صاحب المال يُقدِّم المال، وذلك وفق اتّفاق على تحديد نسبة الربح لصاحب المال؛ أي النسبة المئوية: 20% أو 30% من الربح، بينما في المعاملة الربويّة، لا يوجد تحديد لنسبة الربح، بل تُحدّد مقطوعيّة لصاحب المال، فيأخذها سواء حصل ربح كثير أو قليل، بل حتّى لو لم يحصل أيّ ربح.
2- ثقافة القرض الحسن: كلّ قرض لم يقُم على أساس الربا وكان مُخلَصاً لله تعالى، ولا يُبتغى منه الفائدة الماليّة من المقترض على المستوى الفقهيّ، ويكون خالياً عن الشوائب، كالرياء، والسّمعة، والمنِّ والأذى على المستوى الأخلاقيّ، وفيه الخير والمنفعة العامّة، فهو من القرض الحسن، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 245).
•الآثار السلبيّة للربا
تكثر الآثار الناتجة عن المعاملات الربويّة، ويمكن إبرازها بالمقارنة بين المعاملات الربويّة وغير الربويّة، ومنها:
1- إنّ حركة المال والفوائد المترتّبة في المعاملات الماليّة المحلّلة أو البيع تكون في صالح الجميع؛ البائع والمشتري والمجتمع بالغالب. أمّا في المعاملات المحرّمة أو الربويّة؛ فإنّها تكون في صالح المرابي فقط.
2- إنّ القرض الحسن اصطناع للمعروف، وأخذ بنظام البرّ والإحسان الذي هو الأساس في بقاء توزيع الثروة بين أبناء المجتمع توزيعاً عادلاً .بينما في الربا قضاء على اصطناع المعروف، ومن ثُمَّ الانحراف بحركة المال لصالح المرابي على حساب حرمان المجتمع منه. وقد حرّم الله الربا لئلّا يمتنع الناس من اصطناع المعروف، كما جاء في الروايات.
3- إنّ الكبائر الأخرى كالسرقة والزنا... تلحق آثارها بالفرد، وتتعدّى لأفراد محدّدين، إلّا أنّ الربا قد تعمّ بلواه شرائح واسعة، وقد يفسد نظام النوع الإنسانيّ ككلّ؛ لأنّه يؤدّي إلى القتل والتنازع والظلم، وسلب الممتلكات الضروريّة للحياة العزيزة والكريمة، كسلب البيوت والأراضي ومصادر الرزق ونحوها من المُقترض عند العجز عن دفع الفوائد الربويّة.
4- في البيع والتجارات، ثمّة احتمالات للربح والخسارة؛ وقد يكون الربح أو الخسارة قليلاً أو كثيراً، ويكون التعلّق بالله تعالى ودعاؤه لنيل البركة والتوفيق للأسباب المؤدّية للنموّ والربح موجوداً وفعّالاً، بخلافه في المعاملة الربويّة؛ فالاعتماد عند المرابي على ما يجنيه من الفوائد، ما يضعف الحاجة إلى الالتجاء إلى الله والدعاء بنظر المرابي؛ لأنّ الفائدة متحقِّقة على أيّ حال.
5- الربا يؤدّي إلى انتفاء العاطفة الإنسانيّة بين بني البشر؛ لأنّ المرابي همّه تحصيل المال الربويّ، أبقيَ الطرف الآخر المسكين على قيد الحياة أم مات، فليس هذا من شأنه، ولا يعني له الأمر شيئاً، لذلك يَنقل التاريخ أنّ الّذي كان يعجز في الجاهليّة عن الالتزام بمقتضى المعاقدة الربويّة، كان يضطرّ إلى أن يدفع لصاحب المال ابنه فيكون عبداً وَرِقّاً له مقابل الربا المتراكم. ومثله يحصل في زماننا، بأن يدفع المقترض أغلى ما يملك من مقوّمات حياته وأسرته وأرحامه أحياناً، كمنزله وأرضه ومصدر رزقه، ليحفظ نفسه وكرامته.
6- الربا يؤدّي إلى اتّساع الشرخ بين أصحاب الأموال وبين شريحة الفقراء، ما يولّد مشاعر الحقد، والكراهية، وحبّ الانتقام، والبغض الشديد من الفقراء للأثرياء، وقد يؤدّي إلى الانتقام الفعليّ، وتتفشّى ظواهر هذا الانتقام بصور مختلفة، من السرقة، والاختلاس، والخيانة، والاحتيال... لتصل إلى القتل.
في الختام، يَعُدُّ الإسلام المال أمراً مهمّاً ومُصلحاً لشؤون الخلق، بل هو وسيلة أساسيّة للغاية، وتحصيله والكدّ في سبيل كسبه من الحلال هو من أفضل العبادة، كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"(6). ولكن مثله مثل أيّ وسيلة، إذا تحوّلت إلى غاية، فإنّها ستنحرف عن الصواب، وقد توصل إلى الهلاك؛ وسيلجأ عندها الإنسان إلى الكنز والادّخار، وحجب المال عن المستحقّين واعتماد المعاملات الماليّة المحرّمة التي تحصد له الكسب والزيادة السريعة كالربا، بينما نجد أنّ الشريعة توجّه هذه العلاقة بالمال باتّجاه آخر، كما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجّهها الله ولم يُعطكموها لتكنزوها"(7).
1.كما في سورة البقرة، الآيات: 275، 276، 278، 279؛ وسورة آل عمران، الآيات: 130، 131؛ وسورة النساء، الآية: 161.
2.تذكرة الفقهاء، الحلّي، ج 10، ص 134.
3.تحرير الوسيلة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ج1، ص 536.
4.(م. ن.)، ج 1، ص 653.
5.تذكرة الفقهاء، (م. س.)، ج13، ص27.
6.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 12، ص11.
7.الكافي، الكلينيّ، ج4، ص32، وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 6، ص 17.