حوار مع الشيخ يوسف دعموش
رغم أنّ معرفتي به لا تزيد على ثماني سنوات، ولكنّها كانت كفيلة بمعرفته حقّ معرفة؛ إذ لازمته في محاضراته وحتّى أثناء توجيهه لطلابه. كان شديد الإلمام بالمواضيع التي يُثيرها، فيعالجها بدقّة وعناية، ويحيطها من مختلف جوانبها. كنّا فعلاً نقف أمام قامة علميّة مميّزة وعلمٍ غزير لا ينضب، وكنّا ننهل من هذا العلم ما يفيدنا في دنيانا وآخرتنا. هكذا بدأ سماحة الشيخ يوسف دعموش كلامه لنا.
•الأب والأخ
عندما كنّا نتحدّث مع السيّد محمّد باقر قدس سره، كنّا نشعر أنّنا نتحدّث مع أخ وليس عالماً وأستاذاً، إذ كان يتعاطى معنا كأبناء أو إخوان له، يهتمّ بنا ويسألنا إذا كنّا بحاجة إلى أيّ مساعدة، وإذا كان هناك همّ من أمر ما، يبادر فوراً إلى التخفيف عنّا، وإذا سمع أنّ هناك محتاجاً من طلبة العلم، خصوصاً أولئك الذين كانوا يدرسون على يدَيه، كان يبادر فوراً لتقديم العون ويسأل عن كلّ ما يحتاجون إليه، وكان يحاول أن يقدّم لهم ما يمكن أن يساعدهم. بالفعل، كان مثال التواضع أمام تلامذته حتّى لا يُشعرهم أنّه مختلف عنهم أو أنّه بعيد عنهم، وإنّما هو واحد منهم.
كما أنّه كان يسأل عن تلامذته إذا ما تغيّب أحد منهم عن الدرس، وهذا ما حصل معي ذات مرّة، إذ غبت عن الدرس مدّة أسبوع، فسأل عن أحوالي للاطمئنان عليّ. هكذا كانت علاقته بتلامذته، وهو ما يكشف عن الودّ والانسجام بينهم، وطبعاً هذه الأخلاق مستمدّة من أخلاق أهل البيت عليهم السلام.
•ضريبة الحبّ والولاية
أذكر أنّني أرسلت إليه في يوم من الأيّام أنّني أريد رؤيته لأمرٍ مهمّ، فأخذني إلى مكتبة بدل المجلس الذي يحضر فيه الناس، كي يكون معي على انفراد. قلت له: "سيّدنا، لِمَ علينا أن نتلقّى دائماً الضربات من الآخرين؟ ولِمَ يجب أن نكون دائماً في موقع الدفاع بدل أن نكون في موقع الهجوم على من يؤذينا أو يُسيء إلينا؟"، فنظر إليّ بهدوء وتبسّم، وقال: "أوّلاً هذه ضريبة حبّنا وولائنا لأهل البيت عليهم السلام، وثانياً هم خائفون منّا؛ لأنّنا نملك الحجّة القاطعة في ما نطرح وفي ما نفعل، فيحاولون أن يواجهونا بالكتب التي تُظهر أنّهم أصحاب حقّ ونحن أصحاب باطل. طبعاً هذا الحديث على إثر كتاب نزل إلى السوق اسمه "نظريّة الإمامة عند الشيعة الاثني عشر" وكان الهدف منه ضرب هذه النظريّة وإبعادنا عن خطّ أهل البيت عليهم السلام- لذا لا تخف على مذهبك ودينك أبداً، وابقَ على موقفك وخذْ كلّ ما تستفيد منه، وانهل من المعارف الإسلاميّة بشكل كبير، وانطلق إلى ساحة العمل".
•إجابة مقنعة
في إحدى المرّات، كنّا جالسين عند السيّد قدس سره، وإذ بشخص يدخل علينا، ويحاول أن يُظهر أنّه أكثر فهماً وعلماً من سماحته، فسأل: "هل وصل ذو القرنين إلى ماء عين الحياة؟". فأجابه السيّد محمّد باقر: "نعم"، فقال: "ولِمَ لم يشرب منه؟" على الفور، ردّ السيّد: "لأنّه كان عاقلاً". فسأله ذاك الشخص: "وكيف ذلك؟". فأجابه سماحته قدس سره: "لأنّه إن شرب من ماء الحياة، فمعناه أنّه سيُخلَّد؛ ولنفترض أنهّ عاش أوّل مائة سنة وثاني مائة سنة، فعندها سيتمنّى الموت. ولكي لا يعيش هذه التجربة، ما اختار أن يشرب من ماء الحياة، وأراد أن يعيش كما باقي الناس ويموت مثلهم أيضاً". وحقيقة كان هذا الجواب جميلاً ومقنعاً جدّاً من قِبَل السيّد قدس سره.
•صعوبة العيش
عشنا مع السيّد محمّد باقر أجمل الأيّام، على الرغم من أنّنا كنّا نعيش ظروفاً شديدة مليئة بالقسوة والآلام، بسبب الظلم الذي كنّا نتعرّض له من الطاغية صدّام حسين، وكنّا نخرج من بيوتنا ونتوقّع أن لا نعود إليها؛ حتّى وصل الأمر بنا في بعض الأحيان إلى أن نتوقّف عن الدراسة ونلزم منازلنا لشهر تقريباً، لئلّا يُلقى القبض علينا من قِبَل البعثيّين.
•احبِكوا السؤال جيّداً
من جملة الأمور التي كانت تهمّ السيّد محمّد باقر، أن يطرح تلامذته أسئلة واضحة وصحيحة ومحبوكة بشكل جيّد. ففي يوم من الأيّام، كنّا في مجلس مكتظّ، فالتفت إليه أحد المشايخ وسأله مسألةً ما، فصحّح له السيّد سؤاله، وقال له: "إذا كنت تقصد كيت وكيت، فجوابه هو كيت وكيت". وعند انتهاء المجلس وخروج الغرباء منه، قال السيّد للموجودين: "أنتم محسوبون على السيّد محمّد باقر الصدر؛ لذلك يجب أن تكونوا حذرين قبل طرح أيّ سؤال ولا تخطئوا فيه، وقبل أن تطرحوا سؤالكم عليّ، عليكم أن تدرسوه وتصحّحوه".
•سموح وخلوق
كان السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره معروفاً بسَعة صدره وتسامحه وأخلاقه النبيلة، حتّى مع الذين كانوا يؤذونه. وأنا أذكر أنّ شخصاً كان يؤذيه في كثير من الأحيان، حتّى إنّه تحدّث إليه بكلمات قاسية ذات مرّة، فما كان من السيّد إلا أن حبس الغصّة في قلبه ولم يردّ له الإساءة. وهكذا، لم يحمل السيّد الضغينة لأحد، بل كان يسامح كلّ من يسيء إليه.
•الثقة بتلامذته
كنت قد تعرّفت على السيّد محمّد باقر قدس سره عن طريق السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، الذي كنت وإيّاه في مدرسة واحدة وخطّ واحد. وكنّا في البداية لا نلتقي كثيراً بسماحته؛ لأنّه كان في منطقة أخرى، ولكن بعد مجيئه إلى منطقتنا، توثّقت العلاقة به بشكل كبير، وأصبحنا من تلامذته. فأرسل لي ذات يوم مع أحد الإخوان أنّه يريد رؤيتي، ثمّ طلب منّي التوجّه إلى حي البيّاع (من أحياء بغداد) في مهمّة تبليغيّة، على أن أبقى فيها، بينما كنت وقتها أدرس في النجف. هذا من الأمور التي حصلت مع السيّد محمّد باقر الصدر، والتي تدلّ على مدى ثقته بتلامذته، وخصوصاً اللبنانيّين منهم، والذين كانوا يحتلّون موقعاً مهمّاً بالنسبة إليه.
•علماء لا طلبة فقط
كان السيّد الشهيد قدس سره يشدّد على أنّه يريد لنا أن نكون علماء بكلّ معنى الكلمة، وليس مجرّد طلبة، وأن نصل إلى مرتبة عالية في العلم. وأنا بالفعل أردت متابعة الدراسة والتعلّم، ولكنّ الظروف التي قاسيناها هناك، مضافاً إلى طردنا من العراق وعودتنا إلى لبنان، حالت دون ذلك. وكان سماحته يركّز في التعليم على كتاب (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد)، وهو كتاب أخلاقيّ، لأنّه كان يعتبر أنّ الأخلاق هي قوام الحياة لطلبة العلم، مضافاً إلى التركيز على السنن التاريخيّة بشكل كبير؛ لأنّه أرادنا أن نستحضر التاريخ لنتعلّم منه ما يفيدنا في حياتنا في الدنيا والآخرة.
•العابد الزاهد
جسّد الشهيد قدس سره خطّ أهل البيت عليهم السلام وتعاليمهم بحقّ، انطلاقاً ممّا نهله من علوم الإمام جعفر الصادق عليه السلام. كانت حياته مليئة بالعظمة والقداسة والروحيّة العالية، والأخلاق الفاضلة، وكان صاحب علم غزير، وفهم للأمور، وإخلاص لله سبحانه وتعالى، وكان أيضاً تاركاً الدنيا وما فيها. لم يكن لديه بيت ثابت، وإنّما كان ينتقل من بيت إلى آخر، إلى أن استقرّ لاحقاً في بيت لم يكن ملكاً له أيضاً. كان يعيش في بيت متواضع، حتّى إنّ مكتبته الغنيّة بالكتب، كانت صغيرة ومتواضعة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مأكله ومشربه. فهو لم يسعَ وراء الدنيا يوماً، بل كان همّه أن يحفظ الناس، وخصوصاً الطلبة، الذين أعطاهم كلّ علمه، لذلك كان بحقّ مدرسة معطاءة.
•رسالة إلى أبي جعفر
ينقل السيّد عبد الكريم القزوينيّ هذه القصّة قائلاً إنّه في أحد الأيّام، طلب منه السيّد أبو القاسم الخوئيّ إيصال رسالة لأبي جعفر -أبو جعفر هو السيّد محمّد باقر الصدر-، فوصل إليه وسلّم الرسالة. وبعدما فتحها السيّد محمد باقر وقرأها، قال له: "اجلس، وسأعطيك الجواب الآن". وتبيَّن لاحقاً على لسان السيّد القزوينيّ، أنّ السيّد الخوئيّ أرسل إليه مسألة وطلب منه تقديم جواب عنها، على أن يرسل إليه الجواب بعد يومَين، ولكن السيّد الصدر سلّم الجواب سريعاً للسيّد القزوينيّ، الذي بدوره توجّه بها إلى السيّد الخوئيّ. وبمجرّد وصوله، سلّمه الرسالة، وما إن بدأ بقراءتها حتّى قال: "به به به به" -كلمة (به) تدلّ على التعجّب- "كنت أعلم أنّ لا أحد يمكن أن يحلّها إلّا أبو جعفر"!
•خسارة لا تعوّض
فالسيّد محمّد باقر الصدر له قيمته العلميّة والإنسانيّة، وباستشهاده خسرنا هيئة علميّة، وشخصيّة عظيمة وفذّة يصعب تعويضها، لأنّها كانت تتميّز بالعلم والفهم والتقى والورع، والجمع ما بين مختلف العلوم مثل الرياضيات، والاقتصاد، والفقه، والأصول، والفلسفة، وغيرها.