الشيخ محمود كرنيب
يستحضر لفظ "الأمّ" الكثير من المعاني الجميلة والمشاعر الجيّاشة والقيم السامية؛ من حبّ، وعطف، وتضحية، وإيثار، وتفان، وحنان، ونُبل، حتّى الأمان والطمأنينة، وكلّ ما يملأ النفوس راحةً، وسعادةً، وهناءً، وحنيناً تؤجّجه الذكريات لأيّام الطفولة على حضن الأمّ وحجرها. وهذا ناتج عن التجارب التي عاشها أبناء وبنات آدم جيلاً عقب جيل، فحُفرت في الذاكرة، بل في تكوين النفوس، إن لم نبالغ فنقول: الجينات، راسمة تلك الصورة الجميلة، وذلك المثال الرائع الخالد لجمال الأمّ وكمالها.
•بوالدَيه إحساناً
على الرغم من تغيّر الأزمنة وتبدّل العصور وتطوّر الإنسان، لم تزدد الأمّ إلّا سموّاً في المقام. ولئن رفعت الإنسانيّة رؤوسها نحو الكواكب والمجرّات للتعرّف إليها وربّما غزوها فاستعمارها، إلّا أنّها ما زالت من حيث المقام المعنويّ جاثية على أعتاب الأمّهات؛ إذ "الجنّة تحت أقدام الأمّهات"(1).
لذا، فقد قدّرت الأديان السماويّة، لا سيّما الإسلام، الأمّ وشيّدت لها، مستقلّةً ومع الأب، مقاماً قرنه الله تعالى بتوحيده وعبادته، وجعل شكر الإنسان لهما صائراً إليه تعالى، وما يدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً﴾ (الأحقاف: 15).
قال صاحب تفسير الميزان العلّامة الطباطبائيّ قدس سره: "... وكيف كان فبرُّ الوالدَين والإحسان إليهما من الأحكام العامّة المشرّعة في جميع الشرائع... ووصّينا الإنسان؛ فعمّمه لكلّ إنسان"(2).
•"الأمّ" في القرآن
قد لا يتيسّر لنا، لضيق المجال، أن نتعرّض لتمام ما جاء من آيات القرآن الكريم حول الأمّ لنثبت ما ندّعيه؛ إذ لم يرتقِ دين ولا شريعة دينيّة أو غير دينيّة إلى المقام الذي جعله الإسلام كتاباً وسنّة، وعلى ضوئهما شريعة للأمّ. ومن الآيات التي يجدر الوقوف عندها، قوله تعالى في تتمّة الآية السابقة: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾؛ إذ إنّه تعالى بعد بيان الوصيّة ببرّ الوالدَين معاً كتوجيهٍ منه؛ يذكر بعض معاناة الأمّ وفضلها على ولدها. هذه اللفتة دليل زيادة في فضلها واستحقاقها مقام الأولويّة على الأب في امتثال الوصيّة بالبرّ. قال العلّامة الطباطبائيّ قدس سره في الميزان: "... ثمّ عقّبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته أمّه في حمله ووضعه وفصاله؛ إشعاراً بملاك الحكم وتهييجاً لعواطفه وإثارة لغريزة رحمته ورأفته، فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾؛ أي حملته أمّه حملاً ذا كره؛ أي مشقّة، وذلك لما في حمله من الثقل، ووضعته وضعاً ذا كره وذلك لما عنده من ألم الطلق..."(3).
ونكمل الآية، إذ يقول تعالى بعد ذلك: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾. في الآية حثّ على امتثال الوصيّة بالوالدَين، خصوصاً من خلال المدح. وإنّ قوله تعالى إنّ الإنسان البالغ من عمره زمن، وهو الأربعون، وهو عمر اشتداد قواه الجسديّة والمعنويّة والعقليّة، وما يستتبع ذلك الكمال في العقل والقدرة بعرفان نِعَم الله عليه وعلى والدَيه؛ إشارة إلى أنّ ذلك العرفان وذلك الشكر هما مقتضى كمال العقل وكمال القدرة، فيقرّ الإنسان بالحاجة إلى التوفيق، بل حتّى الإلهام الإلهيّ، لما يؤدّي فيه حقّه تعالى بالشكر وحقّ الوالديَن كذلك، بل فيه ما يلوح إلى جعل النعمة على الوالدَين نعمة عليه، كما النعمة بالوالدَين.
•دور الأمّ على ضوء القرآن
نتوقّف في محطّة قرآنيّة أخرى، متأمّلين ما جاء عن أمّ النبيّ موسى عليه السلام في القرآن؛ لنستكشف شيئاً من معالم دور الأمّ، قال تعالى في سورة طه: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى*إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه: 37 - 39). وبالتأمّل في الآية، وبإخراجها عن خصوصيّة المورد، نستفيد ما يلي:
1- من نِعَم الله التي امتنّ بها على الناس، وحتّى الأنبياء من أُولي العزم؛ الأمّ. فإنّ الأمّ منّة إلهيّة عليهم. وإذ تُصوّر الآية شدّة اهتمام أمّ موسى عليه السلام بسلامته وحفظه، فهي لم تكن لتتخلّى عنه لولا ذلك الوحي الإلهيّ بضمان سلامته وردّه إليها، بل حتّى لتأكيد ذلك الأمان، أنبأها الله تعالى بالمشروع الإلهيّ له بجعله من المرسلين؛ وهذا يدلّ على أنّ من أدوار الأمّ هي الحفظ والأمان للولد.
2- تهيئة الأجواء الملائمة لحُسن التربية؛ بمعنى الانضباط العاطفيّ والسلوكيّ والنفسيّ للأمّ؛ إذ قال تعالى: ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ (طه: 40)؛ وفي ذلك إشارة إلى أنّ الله تعالى اعتنى بقلب أمّ موسى عليه السلام لجعله مطمئنّاً، فتنضبط على ضوء ذلك عاطفة الأمومة وسلوك الأمّ. وهذه إشارة إلى ضرورة إيجاد الأجواء النفسيّة الملائمة لإنشاء الولد وتربيته.
3- قال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾؛ فهذا يشير إلى أنّ أجواء المحبّة هي التي تؤدّي الهدف من خلق الإنسان. وعليه، فإنّ الله الذي زرع المحبّة والعشق في قلب الأمّ تُجاه مولودها، أراد عين ما أراد من إلقاء المحبّة على موسى عليه السلام، وهو أن تضع الأمّهات أبنائهنّ على عين الله؛ أي أن تقوم بوظيفة التربية بمحبّة لتصنع الأمّهات من أبنائهنّ خلفاء الله وأنصار خلفائه.
فإن كانت أجواء المحبّة في بيئة التنشئة والتربية صناعة على عين الله، فلا يخلو إنسان من تلك الأجواء؛ لأنّ الأمّ هي مظهر الحنان والحبّ، ومصدر بثّ الأحاسيس السامية؛ كالمحبّة والصفاء، فتستطيع تزويد أفراد أسرتها بها وبجميع أسباب السعادة والهناء لتسرى عدوى ذلك إلى المجتمع الأوسع.
وللتأكيد على ما سبق، فإنّ الطفل عندما يولد، يحتاج إلى حبّ بلا شروط، لا مال ولا جمال، ولا غير ذلك، بل يريد حبّاً غامراً محيطاً بكيانه؛ فالأمّ تحبّ ولدها وتغذوه بحبّها إرضاعاً ومناغاةً وتقبيلاً... إلخ، بلا مقابل، سوى الأمل بصيرورته أفضل الأطفال، ثمّ أفضل الأولاد، ثمّ أفضل الشباب، ثمّ أفضل الرجال.
وخلاصة الدور الذي أوكل إلى الأمّ؛ هو صناعة الإنسان والإنسانيّة، بل صناعة المجتمعات، والحضارة.
•أجر الأمّ
نختم بشيء من الكلام حول أجر الأمّ، ونشير إلى أنّ للأمّ أجرَين: دنيويّ وأخرويّ.
أوّلاً: الأجر الدنيويّ: وهو البرّ بالوالدَين، خصوصاً الأمّ؛ إذ قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (البقرة: 83). سُئل أبو عبد الله عليه السلام عن الآية: ما هذا الإحسان؟ فقال: "الإحسان أن تُحسن صحبتهما، وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيَين"(4). بل إنّ في رسالة الحقوق ما يدلّ على أنّ الإنسان لا يستطيع أداء حقّ أمّه من الشكر، فقد جاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "حَمَلَتكَ حَيْثُ لا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَطْعَمَتكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبها مَا لا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَنَّهَا وَقَتكَ بسَمْعِهَـا وبَصَرِهَــا... وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَــا... فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَعَ وَتَجـُوعُ هِيَ، وَتَكْسُوكَ وَتعْرَى، وَتُرْوِيكَ وَتَظْمَــأُ، وَتُظِلُّكَ وتَضْحَى،... تُبَاشِرُ حَرَّ الدُّنيَا وبَرْدِهَا لَكَ وَدُونَكَ، فَتَشْكُرَهَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَلا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاّ بعَونِ اللَّهِ وَتَوفِيقِهِ"(5).
ثانياً: الأجر الأخرويّ: في مقاربة الأجر الأخرويّ، يكفي أن نستلهم من عجز الإنسان عن أداء حقّ أمّه في الدنيا مع ما يمكن أن يتّسع له العمر من عمل يوسم بالإحسان إليها، مع العلم أنّ أجرها أيضاً أعظم من أن يُقدَّر. وكذلك كيف يمكن تقدير أجر مَن يقوم بصناعة الإنسان والإنسانيّة؟ لا بدّ لنا هنا من أن نتوقّف مع الحديث النبويّ القائل: "الجنّة تحت أقدام الأمّهات"(6)، إذ نستفيد ما يلي:
1- الأمّ قدوة: إذ معنى الرواية كأنّه أمر بلزوم قدَمَيها، وهو الاقتداء بها؛ لأنّ القدمَين ترمزان إلى سعي الإنسان، ولعلّ في بعض ما روي: فالزمهما، فثمّ الجنّة.
2- أيضاً، إنّ صفة الأمومة في المرأة ضمان للجنّة.
3- وربّما لنا أن نقول: إذا كانت قدما الأمّ قد وطئتا الجنّة، فما بال قلبها، وما بال رأسها؟ وذلك ربّما يشير إلى أنّ أدنى ما للأمّ الصالحة هو الجنّة.
فيما باقي مقامات القرب التي تستحقّها فمسكوت عنها؛ حتّى تعمّ صفات الأمّ الربّانيّة كلّ الوجودات المقدّسة لتكون في أرقى تجلّيات الأمومة، كما غدت سيّدة نساء العالمين عليها السلام أمّاً لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم سيّد الخلق أجمعين.
1.مجمع البيان، الطبرسيّ، ج8، ص11.
2.تفسير الميزان، الطباطبائيّ، ج18، ص205.
3.(م.ن).
4.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج15، ص304.
5.شرح رسالة الحقوق، القبانجي، ج1، ص545.
6.مجمع البيان، (م.س)، ج8، ص11.