مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

فـي مواجهة التضليـل الإعلامـيّ

الشيخ د. صادق النابلسي


مهنة الإعلام كأيّ مهنة ثقافية، ينبغي أن تخضع لمتطلّبات النظام وقواعد الأخلاق. فمن الواجب أن لا تبقى تعطّشاً لنشاط لا يُكبح، أو تبديداً لقوى في خدمة قضيّة باطلة. وحتّى عندما يتّخذ الرجال الصالحون منها رسالة، فإنّها لا تخرج عن كونها بحاجة إلى مزايا، وفضائل، وقيم، وأدوات، ومواهب في حُسن استخدامها والتمرّس في أدائها.

•إعلام بثوبَين
إنّ الإعلام مجال الفضائل كما الرذائل. ومن البديهيّ أنّ لكلّ نوع من النوعَين تأثيراً مختلفاً عن تأثير الآخر. فالنوع الأوّل يقود إلى الوحدة، والانسجام، والمحبّة، ومعالجة المشكلات، والتعاون على حلّ الخلافات، وتخفيف التوتّرات، وتشجيع الخير بكلّ مساراته، بينما يقود النوع الثاني إلى تعميق الشروخ والفروق والعداوات بين أفراد المجتمع، مستعيناً بكلّ حيلة ومكيدة لتحقيق مآربه، وإن لزم من هذا الأمر استغلال الحريّة أو الذكاء في صرف مقاصد الناس، وتبديل توجّهاتهم، وحرف أنظارهم، واستغلال جهلهم.

إنّ بعض الإعلام في عصرنا الراهن بات يوحي للفكر البشريّ بالاشمئزاز والنفور؛ لتفلّته من الضوابط النظريّة والعمليّة، ولامتلائه بوسائل التضليل، والتمويه، والتعتيم، والإخفاء، والإغراء، والحيل، ما يرتّب جهداً كبيراً على المتلقّي لفحص الموادّ المنشورة، أو يدفع الإدارات المسؤولة والمراقبة لتهذيبها وصيانتها من كلّ ما يمكن أن يخلّ أحياناً بالمعنى أو الصورة، فيعيق ذلك عمليّة الفهم والإفهام. وكلّنا يعلم حجم ما يُضخّ من أموال أو يُخطّط من مشاريع بهدف السيطرة على العقول، وتشتيت انتباه الجماهير، وإلهائها، أو الإيقاع بقوى الحقّ باستخدام وسائل ترغيبيّة أو ترهيبيّة قادرة على صرف الخصم عن الهدف الحقيقيّ.

•أهميّة نقض الإعلام المضلّل
يمكن ببساطة أن نمثل للإعلام المضلّل بما تعرّضت له المقاومة في لبنان وجمهورها من حروب إعلاميّة وبأساليب تدليسيّة وتمويهيّة في إلباس الكذب صفة الصدق، والباطل صفة الحقّ، أو حين يستخدم العدوّ حجّة مقبولة في الظاهر، لكنّه في الباطن يحقّق هدفاً مموّهاً، ما يستدعي الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في أحيان مختلفة الخروج على الناس، مفنّداً المغالطات، مبيّناً وناقضاً لها. هنا تظهر أهميّة الإعلام المقاوم ودوره، ومعرفته بالمغالطات الشائعة للاقتدار على نقضها سريعاً والتصدّي لمختلف أساليب التضليل والكذب؛ فالإعلام ساحة حرب حقيقيّة يتطلّب العمل فيها، ليس الحماسة والجهد المهنيّ وتحمّل المتاعب فحسب، إنّما الفهم الخاطف لمكائد العدوّ وسرعة المبادرة إلى اتّخاذ القرارات المناسبة. وعلى من يعمل في هذا المجال أن يكون على دراية بأصول الصناعة وضوابطها، وأن يمتلك قدرات تحليليّة وتقويميّة تمكّنه من أن يستشفّ الحقيقة ويقدّرها لينتصر على عدوّه. مثلاً: عندما ادّعى رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو أنّ حزب الله يخزّن أسلحة في مكان قريب من الضاحية الجنوبيّة، لم يتأخّر سماحة السيّد (حفظه الله) عن الردّ مباشرة على الهواء، طالباً من وسائل الإعلام التوجّه فوراً إلى المنشأة المزعومة وكشف زيف ادّعاءاته بسرعة حاسمة.

•أساليب التضليل
إنّ الإعلام المعادي مهما تغيّر قناعه، يستخدم في معاركه التضليل والمغالطات، وأحياناً يستخدم التهجّم والاستعلاء. وسنذكر هنا بعض الأساليب التي تشكّل تأثيراً حاسماً وخطيراً على ساحة المعركة الثقافيّة وفي ساحات أخرى:

أوّلاً: الكذب: كاتّهام الخصم أنّه ينفّذ أجندة خارجيّة، وفي الحقيقة هو يدافع عن قضيّة إنسانيّة ووطنيّة، كاتّهام المقاومة أنّها "ذراع إيرانيّة"، وأنّ ما تقوم به إنّما هو لمصلحة إيران وليس لمصلحة لبنان. أو اتّهامها بأنّها أساس مشكلات البلد الاقتصاديّة والماليّة بسبب "سلاحها"، فيما الحقيقة أنّ الأزمة هي بسبب الطائفيّة والفاسدين والمحسوبيّات والمحاصصة.

ثانياً: التشويه: لطالما استُعمل هذا الأسلوب في إضعاف الخصم وحرفه عن أهدافه. فمثلاً: استعملت أمريكا وحلفاؤها كلمات ضدّ المقاومة، ووصمتها أنّها "إرهابيّة" و"متطرّفة" لمنعها من مواصلة عملها العسكريّ ومواجهة التهديدات على لبنان، أو إنّ المقاومة تقوم بـ"تبييض الأموال" و"تجارة المخدّرات"، لعزلها داخليّاً وخارجيّاً، وتجريمها من خلال محاكم تُعنى بحقوق الإنسان. إنّ هذا التشويه هدفه المسّ بأشرف مبادئ المقاومة، وسمعتها الحسنة، وأخلاقها في التعامل مع الأصدقاء ومع الأعداء أيضاً.

ثالثاً: استخدام الحيل: إنّ العدوّ قد يلجأ إلى مدحك أحياناً ليهزّ قيم المؤمنين بك. فالمدح هنا هو من باب ضرب معنويّات القاعدة الشعبيّة التي كانت تعتقد أنّ المبادىء هي شيء مقدّس لا يُمَسّ، لكنّها تكتشف من خلال هذه الحيلة أنّ الشخص الذي تؤمن به، والحزب الذي تواليه إنّما يلجأ إلى البراغماتيّة والانتهازيّة والواقعيّة المفرطة بالحقوق والثوابت! على سبيل المثال، في قضيّة ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وفلسطين المحتلّة، لجأ الإعلام المعادي إلى إظهار المقاومة وقيادتها متلاعبة، وتخفي أموراً عن جمهورها، وتمارس سياسة ضعيفة تُجاه العدوّ، ما بات يعني أنّ كلّ خطابات التعبئة والثوريّة هي تضليل للجماهير، وأنّ الحقيقة هي شيء آخر! إنّ هذا التلبيس الإعلاميّ الخطير من شأنه أن يترك أثراً سيّئاً على معنويّات الجمهور المؤيّد للمقاومة.

رابعاً: استفزاز الخصم: إنّ إثارة اتّهامات متواصلة في وسائل الإعلام ضدّ الخصم، ستدفعه إلى ردود فعل متهوّرة، وهذا ما سيكون مناسباً لتجريمه والضغط عليه أكثر وإكراهه على التنازل عن قضايا مبدئيّة، أو أنّه سيكون بحالة لن يتمكّن خلالها من السيطرة والتحكّم بقراراته وخياراته. إنّ استعمـــال أسلوب الاستفــزاز والإهانة لــــه مفعول خطير في إثـــــارة جمهور الخصم، وحاجته إلى تنفيس الاحتقان بطرق عنفيّــــة وغير عقلانيّة تماماً، كما حصل خلال وبعد أحـــــداث السابع عشر من تشرين الأوّل عام 2019م. فالإهانات التي تعرّض لها الأمين العامّ لحزب الله (حفظه الله) شخصيّاً ومباشرة على الهواء عبر وسائل إعلام مختلفة، كادت تتسبّب بفتنة واسعة النطاق، وهذا ما كان يرمي إليه العدوّ في تهشيم النموذج الأخلاقيّ الذي يحمله حزب الله طوال مسيرته الجهاديّة.

خامساً: تعميم العيوب الفرديّة والخاصّة: إنّ العدوّ لا يُقدّم عبر إعلامه الأخطاء التي يرتكبها بعض أفراد من خصومه على أنّها أخطاء أو تصرّفات فرديّة شاذّة، بل يسعى بكلّ جهده إلى تكبيرها وتعميمها كوضع وسلوك عامّ وحقيقة معترف بها. وهذا ما سيكوّن انطباعاً لدى الجمهور أنّ أفراد الحركة الفلانيّة أو الدولة الفلانيّة كلّهم سيّئون وفاسدون ومتطرّفون ونحو ذلك من النعوت المشينة.

سادساً: تهشيم القيم التي يحملها الخصم: إنّ العدوّ لا يترك وسيلة إلّا ويستخدمها لتهشيم وتوهين قيم الخصم. فالمقاومة في هذه الحالة على سبيل المثال، ستكون حالة سلبيّة؛ لأنّها تدعو إلى الموت، فيما الأساس لدى الإنسان أن ينشأ على قيم الحياة والسلام والمحبّة والرخاء. فالإعلام بمقدوره تحويل فعل التضحية والفداء في مواجهة الظالمين والمستكبرين إلى حالة موت مجّانيّ، واستنزاف لموارد الدولة، وهدر للطاقات الشابّة، ومعاداة للمجتمع الدوليّ.

•الناس بين التضليل والوعي
من الخطأ التعامل مع هذه التأثيرات الدعائيّة بالاعتماد على العقل وحده، فالناس يتأثّرون بعوامل لا شعوريّة مثل المخزون التراثيّ، والجهل، والعاطفة، والمصلحة، والأنانيّة، ما يحجب الحقيقة من الوصول إلى عقولهم، بل إنّ معظم الناس لا يتقبّلون الأدلّة والبراهين العقليّة، بل يميلون إلى الانحيازات التي تنشأ بسبب العوامل الآنفة الذكر. ولذلك، حين نريد أن نجذب أو نقنع شخصاً أو مجموعة أو شعباً، علينا أن ندرس بيئته الاجتماعيّة، وقيمه، ومعتقداته كخطوة أساسيّة، لنفهم بعد ذلك اتّجاه مصالحه ونوازعه وعواطفه ومستوى ثقافته، فندرك طريقة التعامل المطلوبة.

•خطاب الوعي وبصيرة الناس
إنّ ما يميّز سماحة السّيد حسن نصر الله (حفظه الله) في خطاباته مع بيئة المقاومة وحتّى مع البيئات الصديقة، أنّه يضع في حسبانه تلك العوامل كلّها التي ذكرناها آنفاً، ويتسلّل منها إلى عقلها بالإتيان بأدلّة منسجمة مع عواملها اللاشعوريّة، بشكل لا تتعارض مع أسس الأخلاق وشروط التوافقات الاجتماعيّة.

على الرغم من مهارة العدوّ في التضليل، وإتقانه فنّ الإعلام، لكنّه لم يستطع أن يحقّق نجاحات حاسمة داخل بيئة المقاومة، بل إنّ معظم الحملات كان مردودها عكسيّاً، لا لشي إلّا لأنّ هذه البيئة تعرف بوعي حادّ أنّ العدوّ بارع في التمثيل، وتدرك أنّه يجب أن لا تقع في الأخطاء نفسها التي وقعت فيها شعوب أخرى في المنطقة والعالم، عندما انطلت عليها حيل العدوّ وأكاذيبه، فانزلقت إلى الفتن والنزاعات الدمويّة.

إنّ إحدى أهمّ ميزات بيئة المقاومة هي البصيرة، التي يعرّفها الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّها "الوعي والتنبّه والتيقّظ ورسم الاتّجاه الصحيح"، وهي أيضاً: "البوصلة وكشّاف النور"؛ وعلى هذا الأساس تنطلق بيئة المقاومة مجرّدة من المخاوف وممتلئة بالإرادة، لا تستسلم للضياع والحيرة، بل تقرّر دخول المعتركات الجديدة بكلّ شجاعة مبادرةً إلى الفرصة الجديدة بتألّق أكبر.

فإذا كان المطلوب هو عدم الردّ وإهمال الاتّهامات والأكاذيب، ساد السكوت، وإذا كان هناك ما يستدعي التوضيح، فإنّ الجدال يكون موضوعيّاً، فلا تدخل فيه القضايا الشخصيّة والمهاترات الصغيرة، وإذا كان هناك من يستعمل الشتيمة والسباب، فالردّ يكون أحياناً بالنصيحة أو الإعراض والإغضاء. فلكلّ حالة خصوصيّتها وموقفها الذي يتناسب مع "الرشد والدراية"، التي تحتّم أعلى مستويات الحذر وكظم الغيظ والحلم والصبر على الأذى وغيرها من التصرفات الأخلاقيّة، التي تفوّت على الخصم أو العدوّ مآربه.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع