إعداد: محمود دبوق
الكتاب: السيرة النبوية.
الكاتب: الدكتور محسن باقر الموسوي.
الناشر: دار الهادي.
قبل الانطلاق في الحديث عن السيرة النبوية يبدأ الكاتب كتابه بدراسة حقبة ما قبل الوحي كونها إحدى النوافذ المهمّة للكشف عن عظمة الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله متحدثاً عن البيئة التي نشأت فوقها الرسالة. وعن أبعاد الاختيار الإلهي لجزيرة العرب لتكون مهداً لهذه الرسالة. ثم يكمل الحديث عن الظروف الاجتماعية التي أحاطت بولادة رسول البشرية صلى اللَّه عليه وآله. وما بين الوحي وتلك الظروف كان له صلى اللَّه عليه وآله سيرة تجلّت فيها شخصيته في أجمل وأروع صور الإنسان الكامل المهيأ للنبوة. وكانت كلمات السماء والوحي، فشكَّل صلى الله عليه وآله الخلية الأولى وبدأ بأهله فكان علي عليه السلام محط الآمال والرفيق الذي يطمئن إليه وهو غلام لا يتجاوز الثانية عشرة، ثم خديجة ثم زيد بن حارثة ربيب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.
* مرحلة البدايات
في المرحلة السرية للدعوة اعتمد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أسساً في اختيار الأشخاص لحظ فيها قدراتهم الذاتية وتنوّع قبائلهم وكونهم من بقع جغرافية مختلفة وذوي أعمار شبابية، ومنها السرية كأسلوب مؤقت واحترازي، إضافة لمبدأ الاتصال المنظّم، وفي استراتيجة التربية فقد اعتمدت القيادة أمرين فالأول عزل الطليعة الإسلامية عن المجتمع الإسلامي والثاني حثّ هذه الطليعة للتجذر في أوصال المجتمع بعد انتهاء مرحلة البناء الذاتي للدعوة إلى هذا الدين. وهكذا كان من المحتم أن تقفز دعوة الرسول صلى الله عليه وآله إلى العلن وبدأت بدعوة أقرباء النبي صلى الله عليه وآله لضرورات، ثم المواجهة التي اتخذت طابعاً سلمياً في البداية وبدأت العروضات على النبي وكان ردّه المعروف لعمه أبي طالب ولغيره، ثم شهرت قريش سلاح الحرب النفسية فأوعزوا إلى شعرائهم بأن يهجوا النبي صلى الله عليه وآله ورد عليهم فريق من المسلمين، ولما لم ينفع ذلك كله مع المسلمين بدأت حملات التعذيب فأمر الرسول صلى الله عليه وآله أصحابه أن يتوجّهوا إلى الحبشة سراً لوضع حد لعمليات التصفية. بعدها بدأت القبضة الحديدية وكان الحصار في شعب أحد الجبال شعب أبي طالب ودام ثلاث سنوات ولعبت أموال خديجة دوراً هاماً في تغطية حاجات المحاصرين، وكانت مهمات عديدة بعد الحصار لتحويل المسلمين من طور الطليعة إلى طور المجتمع إلى أن أطلَّ عام الأحزان ففقد رسول اللَّه اثنين من أشد المساندين وهما أبو طالب وخديجة، وبعد سلسلة أحداث كان لا بدَّ من أن يوجّه النبي صلى الله عليه وآله اهتمامه نحو مكان آخر هو يثرب لتصبح قاعدة إسلامية قوية، وانتقل المسلمون من حالة الاضطهاد إلى أن أصبحوا حاكمين على أوضاعهم ومسيطرين على مقاليد الأمور في المدينة.
* الدولة ومرتكزاتها:
بعد أن ثبتت الأوضاع واستقرت بفضل شخصية النبي صلى الله عليه وآله والرسالة التي حملها إلى أهل "المدينة"، بدأ صلى اللَّه عليه وآله بإنشاء الدولة الإسلامية كنموذج جديد دخل على حياة أولئك الناس، وبهذا يدخل الكاتب إلى تفصيل وضعية الدولة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والتي مرّت بثلاث مراحل فكانت الأولى: تثبيت القواعد من خلال بناء المسجد كقاعدة للسلطة ورمز للمركزية ووحدة الصف، ولمّا كان الأمر يتطلب حركة نوعية لتغيير الأوضاع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وحركياً فقد آخى النبي صلى الله عليه وآله بين المهاجرين والأنصار وأرسى دعائم هذه الدولة فسارع إلى إبرام اتفاقية شاملة وضعت الخطوط العريضة لأسلوب التعامل مع غير المسلمين بما فيهم اليهود، وكانت أشبه بدستور الدولة التي ظهرت معالمها دون إلغاء شخصية ودور القبائل على المستوى الاجتماعي، أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة بناء الدولة التي عمل فيها رسول اللَّه على سد الثغرات وتنمية الثروة الاقتصادية وإنشاء الخزينة، أضف إلى ذلك موضوع الاستعداد العسكري فكانت البيعة على الجهاد والتحالف السياسي على مواجهة الأعداء وعمليات التسليح والتدريب والتعبئة المعنوية وإنشاء السرايا، ثم إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الانتشار فبعث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بالرسائل داعياً إلى الإسلام كلاً من الملوك والزعماء فكانوا ما بين متجاوب ورافض.
* عناصر الدولة:
يتحوّل الكاتب بعد الإجابة عن كيفية إقامة الإسلام للدولة وماهية ذلك إلى الحديث عن عناصر تلك الدولة وهي ثلاثة: فالأول هو السلطة الأساسية ممثلة بالرسول القائد صلى الله عليه وآله، والثاني جهاز السلطة الذي يحمل كل معاني السلطة الإسلامية العادلة وعلى رأسها الوزارة ولو لم يكن اسمها على هذا النحو آنذاك لكن أمير المؤمنين عليه السلام كان وزير النبي بحق بما يحمله هذا الإمام من مزايا كان يراها فيه اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله، وصار هناك جهازٌ إداري وبعد تعيين الولاة من قبل الرسول صلى الله عليه وآله كانت تتم محاسبتهم، وكانت هناك ولأسباب منطقية هي من معالم الدولة أجهزة أخرى كالجهاز القضائي والفني والمالي والدبلوماسي، والعسكري، والإعلامي والتعليمي والأمني والمحاسبة وأخيراً جهاز المهمات الخاصة الذي أولى النبي صلى الله عليه وآله إلى أفراده قتل بعض رؤساء القبائل ممن سمّاهم القرآن بأئمة الكفر الذين كانوا يمنعون الناس من الاقتراب من الإسلام وكانوا المسؤولين عن الحروب والفتن التي كانت في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. أما العنصر الثاني فهو الأرض فبدونها لا يمكن إقامة الدولة ويفصّل الكاتب القوانين الإسلامية التي تقسم الأرض بحسب الملكية وبحسب السيادة، ثم العنصر الثالث وهو الأمّة والتي يعتبر الشعب عمادها وهو جماعة من الناس يعيشون على أرض واحدة ضمن نظام سياسي ولهذه الأمة سمات ومنها الديناميكية والمشاركة الذاتية من قبل الأفراد والجماعة على حد سواء ضمن مجتمع إسلامي ينتمي إلى المبادئ وهو مجتمع متجانس وموحد ثقافياً وسياسياً وفيه تكامل اقتصادي وله سياسة الدولة الإسلامية مع الداخل ومع الفئات الأخرى كالمنافقين والمؤلفة قلوبهم أما السياسة الخارجية فقد شملت إقامة جبهة عريضة من الديانات الثلاث الإسلام واليهودية والنصرانية في قتال العدو المشترك وهو الوثنية ثم العلاقة مع اليهود التي مرّت بمراحل إلى أن وصلت إلى حد المواجهة والمعارك الكلامية والتآمر وصولاً إلى المواجهة العسكرية، أضف للعلاقة مع النصارى والسياسة مع المشركين التي بدأت بمرحلة الاستنزاف للمشركين وكانت معركة بدر وهي معركة الوجود كما يصفها الكاتب ثم معركة أُحد وهي معركة التصحيح إلى المعركة الشاملة في الخندق، وينتهي الفصل إلى مرحلتي السلام المشروط مع المشركين ثم التحرير وسقوط قلاع الشرك إلى العلاقات الدولية مع الدول: البيزنطية وفارس ومصر والحبشة.
* عطاءات الرسالة:
"الحضارة الإسلامية هي نقطة الهدف التي تُوّجت بها مسيرة الإسلام، وحتى الدولة الإسلامية لم تكن إلا أداة لتحقيق العدالة والحريّة والمساواة ولنشر الفضيلة والقيم، فهي وسيلة والحضارة هي الهدف"، ولمّا كان الشرك باللَّه مانعاً كبيراً أمام تلك الحضارة ولأنه صلى اللَّه عليه وآله يريد أن يعلن انقشاع تلك الغيمة والسحابة السوداء فقد أرسل علي بن أبي طالب عليه السلام إلى مكة ومعه سورة براءة التي أريد من خلالها اظهار تعامل الإسلام مع الشرك كظاهرة غير طبيعية وحالة شاذة ولم يعد هناك أي مبرر لوجودها بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الموعظة والارشاد، وهكذا كانت تظهر سمات الحضارة الإسلامية وأهمها التوحيد وأنها رسالة للبشرية جمعاء وهي تغييرية وشاملة، وأما معطيات تلك الحضارة فظهرت من خلال قدرتها على بناء الإنسان الفاعل، والنظام القادر على إسعاد البشر إضافة لبعث القيم البناءة فيه ومنها: السلام، والتعاون بين أفراد المجتمع، وتحمل المسؤولية والمؤاخاة بين المؤمنين وظل صلى اللَّه عليه وآله يوصي أصحابه (إياك وهجران أخيك فإن العمل لا يُتقبل مع الهجران) كما أراد صلوات اللَّه عليه وآله أن يقاوم عوامل الضعف في المجتمع فعمل على بعض مشاعر الأمل لتحصل بذلك صياغة الإنسان من جديد، ومنها أيضاً الحضُّ على التفكّر والتفكير بعدما ألغى المجتمع الجاهلي ذلك ولا ننسى العدل والعمل الصالح كونهما من القيم البنّاءة والفاعلة التي شكّلت بحق عامل الولادة الجديدة لهذا المجتمع الذي انتشله رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من الغرق وأودعه شاطئ الأمان وأخرجه بمنّة ورحمة من اللَّه تعالى من الظلمات إلى النور. الكتاب يقع في أربعمئة وخمس وستين صفحة من القطع الكبير، يسرد وبطريقة نموذجية السيرة النبوية المباركة بما يحمله من أسلوب تفصيلي غير ممل يأخذ طابعاً جديداً ومميّزاً في تناوله للسيرة النبوية.