مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تأملات في خطبة الجهاد

الشيخ محمد حسن زراقط

 



لا عجب أن نطل على الجهاد من نافذة أمير المؤمنين عليه السلام، فهو الذي نهض بالجهاد ولما يبلغ الحلم، واشتغل به ولم يقعد عنه حتى استشهد في محرابه في شهر الصيام. ومن هنا سوف أحاول استعراض خطبة الجهاد عند أمير المؤمنين وتحليل دلالاتها واستجلاء معانيها، وليكن حسن المطلع إيراد الخطبة الشريفة رغم طولها وضيق الصفحات بها.

* نص الخطبة:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَى وَدِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ اَلْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اَللَّهُ ثَوْبَ اَلذُّلِّ وَشَمِلَه اَلْبَلاَءُ وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَاَلْقَمَاءِ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ وَأُدِيلَ اَلْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ اَلْجِهَادِ، وَسِيمَ اَلْخَسْفَ وَمُنِعَ اَلنَّصْفَ. أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً وسِرّاً وإِعْلاَناً وقُلْتُ لَكُمُ اُغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ وهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنْبَارَ وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ واَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهَدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلْبَهَا وقَلاَئِدَهَا ورِعَاثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ واَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ولاَ أُرِيقَ لَهُ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً واَللَّهِ يُمِيتُ اَلْقَلْبَ ويَجْلِبُ اَلْهَمَّ اِجْتِمَاعُ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقُكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولاَ تُغِيرُونَ وتُغْزَوْنَ ولاَ تَغْزُونَ ويُعْصَى اَللَّهُ وتَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ اَلْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبِّخْ عَنَّا اَلْحَرُّ وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي اَلشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا اَلْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ اَلْحَرِّ واَلْقُرِّ (فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ اَلْحَرِّ واَلْقُرِّ تَفِرُّونَ) فَأَنْتُمْ واَللَّهِ مِنَ اَلسَّيْفِ أَفَرُّ يَا أَشْبَاهَ اَلرِّجَالِ ولاَ رِجَالَ حُلُومُ الْأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ اَلْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً واَللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وأَعْقَبَتْ سَدَماً قَاتَلَكُمُ اَللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ اَلتَّهْمَامِ أَنْفَاساً وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ واَلْخِذْلاَنِ حَتَّى قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ اِبْنَ أَبِيَطالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى اَلسِّتِّينَ ولَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ.

* تحليل النص:
سوف أحاول في تحليلي لهذه الخطبة العلوية الشريفة أن أركز على مجموعة من النقاط الهامة التي وردت فيها ضمن البنود الآتية:

* فوائد الجهاد:
يخبرنا الإمام في هذا النص أن للجهاد فوائد وآثاراً، منها ما يترتب في الدنيا، ومنها ما يترتب في الآخرة. أما في الآخرة، فهو باب إلى الجنة، لا يدخله كل من أقدم على الموت، بل يدخله خاصة عباد الله الذين صفت نياتهم وخلصت أغراضهم. وهذا البعد هو أحد أهم الأبعاد في الحرب المبررة في الإسلام. فإن الحرب لا تخاض من أجل السيطرة والتوسع وفرض الإرادة على الآخرين، بل تخاض للدخول إلى الجنة. والجنة لا يدخلها إلا من قهر رغباته الشخصية وتنازل عن عصبياته من أجل الحق. وفي هذا السياق يندرج التعبير المشهور عن أحد القتلى في بعض المعارك التي خاضها المسلمون بـ: "شهيد الحمار"، فإن هذا الرجل قتل في المعركة ولكنه لم يكن مجاهداً لأنه لم يخلص النية لله، بل كان يريد عرض الدنيا والله يريد الآخرة. وأما الآثار الدنيوية التي تترتب على الجهاد مما يشير إليه أمير المؤمنين عليه السلام، فهي العزة والعدالة الاجتماعية، عندما يخبرنا بأن ترك الجهاد يؤدي إلى الذل والصغار ومنع النصف أي الانتصاف والعدالة.

* إنسانية الحرب في الإسلام:
من التهم التي توجه إلى الإسلام، أن الحروب التي خاضها هي حروب دينية موجهة إلى غير المسلمين بقصد السيطرة عليهم وإجبارهم على الإسلام. ومن هذه التهمة اشتقت كل التهم التي تقول بأن الإسلام انتشر بالسيف. ولكن التأمل في هذه الخطبة يكشف عن أن الحرب الإسلامية لم تكن حرباً دينية أو طائفية بهذا المعنى المذكور، بل هي حرب دينية بالمعنى الأخلاقي، أي الحرب التي يقرها الدين من أجل دوافع إنسانية وأخلاقية. وما يشهد لهذا المعنى في هذه الخطبة هو إشارة الإمام عليه السلام إلى أن أخا غامد بلغت خيله الأنبار "... وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ وَ اَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهَدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلْبَهَا وَ قَلاَئِدَهَا وَرِعَاثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَ اَلاِسْتِرْحَامِ". إذاً مبرر خوض الحرب بحسب الإمام عليه السلام هو الدفاع عن المال والعرض للمواطن في الدولة الإسلامية، سواء كان مسلماً أم غير مسلم. فالإمام يرى أن الاعتداء على مواطني الدولة الإسلامية بغض النظر عن هويتهم الدينية يبرر خوض الحرب للدفاع عنهم.

* الحرب الاستباقية:
من النقاط البارزة في خطبة الجهاد إشارتها إلى الحرب الاستباقية، حيث يقول عليه السلام: "وَقُلْتُ لَكُمُ اُغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلا ذَلُّوا". وهذا ربما يكون أحد المآخذ والتهم الموجهة إلى الحرب والجهاد في الإسلام. ولكن قبل الحكم واتخاذ موقف مؤيد أو معارض من هذا الأمر لا بد من الالتفات إلى أن العدو هو الشخص الذي يضمر العداوة ويتحين الفرص للانقضاض على عدوه. فمثل هذا العدو لا ينبغي غض النظر عنه وإهماله إلى أن يقوم بفعلته، ثم يحار المسلمون في كيفية معالجة النتائج، ومحو آثار العدوان، وبخاصة عندما يكون هذا العدو في حالة الاستعداد للغزو، فمثله يجب أن يغزى قبل أن يغزو. ويتأكد ذلك عندما نلتفت إلى أن معاوية كان منشقاً عن الدولة الإسلامية، وبالتالي كان في حالة حرب مع الدولة الشرعية بكل مقاييس الشرعية الشعبية والدينية.

* القائد والأمة:
يشكو الإمام في هذه الخطبة حاله وتفرق المسلمين عن حقهم وانفضاضهم عن إمامهم، واجتماع أهل الباطل على باطلهم وطاعتهم لأميرهم الخارج عن الدولة الشرعية. وهذا يكشف عن أمرين:
الأول: أن الحق يحتاج إلى رجال تحميه وتدافع عنه. ووضوح الحق هو وضوح نسبي، أي هو وضوح عند أهل الحق. ولا يكفي هذا الوضوح لانتزاع الحق من المعتدي ما لم تتوفر في الأمة طاقات مستعدة للتضحية والدفاع والسعي لانتزاع الحق من المعتدين. والتجربة التاريخية تتجدد على أرض الواقع في عصر القانون الدولي وحقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية. فأي اعتداء على الحق أوضح مما يحصل في فلسطين، وحصل وما زال يحصل في لبنان؟ ولكن ما دامت الأمة متفرقة عن هذا الحق، فلن تناله ولن تصل إلى ما تصبو إليه.

الثاني: إن الحكم والدولة وما يتفرع عنها من مفاهيم وأجهزة تنفيذية، علاقة بين طرفين، أحدهما القائد الذي يتحلى بمجموعة من الصفات التي تؤهله للقيام بهذا الدور، وتتنوع هذه الصفات بين صفات أخلاقية ودينية وعلمية ذات صلة بالإدارة والتخطيط. ولكن مهما علا كعب القائد وتميز في صفاته، فإنه لن يتحقق له ما يريد، ما لم تتوفر الإرادة الطيبة في الأمة، وهذا ما حصل مع أمير المؤمنين عليه السلام، في الفترة الأخيرة من سلطته، ولذلك اشتكى شكواه التي خلدها الدهر عندما قال: "وَلَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع