مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

خطيبـــةٌ هزّت عروش الطغاة

الشيخ محمود عبد الجليل


لو أردنا تسليط الضوء على الحوراء زينب عليها السلام في الكوفة والشام والدور الذي أُنيط بها، فإنّنا سنلاحظ وبشكلٍ جليّ أنّها كانت المكمِّلة لثورة الإمام الحسين عليه السلام على الحكم الأُمويّ، وذلك من خلال الكلمات التي أطلقتها في مجلسَيْ ابن زياد في الكوفة ويزيد بن معاوية في الشام، وفي مرحلة حسّاسة وخطيرة لا تقلّ أهميّتها عن أهميّة الثورة نفسها. وقد كانت العقيلة زينب عليها السلام دقيقة في خطاباتها، حكيمة في استخدامها لمختلف الأساليب البلاغيّة.

•زينب عليها السلام في الكوفة
ثمّة مجموعة من النقاط التي تستوقف المتأمّل في كلامها عليها السلام في الكوفة، ما يدلّ على جوانب عميقة من شخصيّتها الجليلة عليها السلام:

1- قوّة الاستهلال: استهلّت خطبتها في الكوفة بالحمد لله، وهذا ما يؤكّد مقالتها لابن زياد عندما سألها: "كيف رأيتِ صنع الله بأخيك؟"، فأجابته بلسان الواثق بالله وبتقديره: "ما رأيتُ إلّا جميلاً"(1)، وكذلك استخدامها لتعبير "أبي محمّد" في الصلاة عليه وعلى آله الطاهرين، للدلالة على منزلتها من رسول الله، وأنّ الاساءة لها هي إساءة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته.

2- قوّة تقريعها لأهل الكوفة: وتوبيخهم، ودقّة وصفها لحالهم وما جُبلت عليه نفوسهم وطباعهم، فقالت: "يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر... إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيْمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلّا الصَّلَف(2) النَطِف(3)؟ وذلّ العبد الشَنف(4)؟ وملق(5) الإماء؟ وغمز(6) الأعداء؟ وكمرعى على دمنة(7)؟ أو كفضة على ملحودة(8)؟ ألا ساء ما قدَّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون..."(9)، حيث استخدمت عليها السلام أبلغ التعابير في الدلالة على تسفيههم وكشف حقيقتهم، حيث وصفتهم بأنّهم كالنبات الأخضر الذي يسرّ الناظرين في حين أنّه ينبت في المزابل القذرة، وكذلك كالألواح التي توضع على القبور، ولكنّها تخفي في طيّاتها ما يتأذّى الناس من رائحته النتنة، وفي ذلك دلالة على أنّ ظاهرهم لا يحكي عن باطنهم وواقعهم.

3- الكشف عن أنّ المقتول في كربلاء هو شخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "... أيّ كبدٍ لرسول الله فَرَيتُم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟!"(10).

4- تحميلها المسؤوليّة لعامّة أهل الكوفة: إمّا بسبب مشاركتهم المباشرة في قتل الإمام الحسين عليه السلام أو بسبب تخاذلهم عن نصرته، وأن لا جدوى من ذرف الدموع: "أتبكون وتنتحبون؟ إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها(11)، ولن ترحضوها(12) بغسل بعدها أبداً... ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة... وَيلكم يا أهل الكوفة!... أفعجبتم أن قطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تُنصَرون. فلا يَستَخفّنكم المُهَل، فإنّه لا تَحفِزُه البِدار، ولا يَخافُ فَوتَ الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد"(13).

وفي الدلالة على عظيم الأثر الذي تركته خطبة الحوراء في الكوفة، ما يصفه الرواي بقوله: "فوالله لقد رأيتُ الناس يومئذٍ حَيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي! كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يبزى(14)"(15).

•زينب عليها السلام في الشام
وأمّا خطبتها في الشام، وكلامها البليغ والمؤثّر الذي صدحت به في قصر يزيد، فيعدّ من أفصح وأبلغ الخطب وأشدها تبكيتاً، إلى درجة جعلت أهل الشام ينظرون؛ أهي زينب الخطيبة أم علي بن أبي طالب؟! كأنّ روح عليّ عليه السلام وشجاعته سكنتاها. ويشعر القارئ لخطبتها بقوّتها ورباطة جأشها على الرغم من كونها سبيّة، فلم تثنها المصائب عن مخاطبة يزيد دون خوف أو تردّد وبلغة ارتجاليّة، تنساب معها الكلمات بأسلوب بليغٍ وقويّ. فيما أفصحت أنّ أصل الكلام معه من الدواهي العظمى، إذ تقول له: "ولئن جَرَّت علَيّ الدواهي مُخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قَدْرَك، وأستَعظمُ تَقريعك، وأستكبر [أستكثر] توبيخك. لكنّ العيون عَبْرى، والصدور حَرّى"(16).

وفيما يلي، إضاءة على بعض مضامين خطبتها:
1- فضحُ يزيد وإعلان كفره وتوعّدها له، حينما خاطبته قائلة: "مُنتَحياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمِخْصَرتك... وتهتف بأشياخك، زعمتَ أنّك تناديهم، فَلَتَرِدَنّ وَشيكاً مَورِدَهم، ولَتَوَدّنّ أنّك شُلِلتَ وبُكِمتَ ولم يكن قلتَ ما قلتَ وفَعَلتَ ما فعلت... ولَتَرِدنّ على رسول الله بما تحمّلت مِن سَفكِ دماءِ ذريّتهِ، وانتهكتَ مِن حُرمته في عِترته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويَلُمّ شعَثَهم، ويأخذ بحقّهم... حَسْبُك بالله حاكماً، وبمحمّدٍ خَصيماً، وبجبرئيل ظَهيراً، وسيعلم مَن سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين، أيُّكم شرٌّ مكاناً وأضعَفُ جُنْداً"(17).

2- التذكير بسلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع أجداده حينما فتح مكّة، وكيف عفا عنهم وأعطاهم الأمان، والمقارنة بين سلوكه وسلوك يزيد مع عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع ما يتضمّن خطابها من الاستخفاف بسلطان يزيد والاستهزاء بجبروته، ووصفه بــ(ابن الطلقاء): "أمِن العدلِ، يا ابنَ الطُّلَقاء، تخديرُك حَرائرَكَ وإماءَك وسَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ؟ تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وَليّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَمِيّ، وكيف يُرتجى مراقبةُ مَن لفَظَ فُوهُ أكبادَ الأزكياء، ونَبَت لحمه بدماء الشهداء؟!"(18).

3- كربلاء محطّة للتمييز بين حزب الله وحزب الشيطان: "أَلا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطِف(19) من دمائنا، والأفواه تتحلَّب من لحومنا... ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّ وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدَّمتَ، وما ربّك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل"(20).

4- الثقة العالية بوعد الله بالنصر في نهاية المطاف: "فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: أَلا لعنة الله على الظالمين"(21).

•ضيّعت عليهم لذّة النصر
وبذلك تكون الحوراء زينب عليها السلام قد ختمت خطابها بفتح باب المواجهة مع نفوذ يزيد على مصراعيه، وبدأ معها العدّ العكسيّ لأيّام الدولة الأُمويّة. ولقد أجادت الدكتورة بنت الشاطئ الوصف عندما قالت: "لم تمضِ زينب إلّا بعد أن أفسدت على ابن زياد وبني أُميّة لذّة النصر، وسكبت قطرات من السُّم الزعاف في كؤوس الظافرين، فكانت فرحة لم تطُل، وكان نصراً مؤقّتاً لم يلبث أن أفضـى إلى هزيمة قضت في آخر الأمر على دولة بني أُميّة، فلم تكد زينب تخرج من عند يزيد، حتّى أحسّ أنّ سروره بمقتل الحسين قد شابه كدر خفيّ، ظلّ يزداد حتّى استحال إلى ندم، كدّر صفو الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته"(22).

•سرّ بقاء الدين
وقد لخّص الإمام الخامنئيّ دام ظله الدور العظيم للحوراء زينب عليها السلام بقوله: "إنّ بقاء دين الإسلام وبقاء الطريق إلى الله ومتابعة السير على هذا الطريق من قِبل عباد الله، تستند إلى العمل الذي قام به الحسين بن عليّ عليه السلام، وما قامت به السيّدة زينب الكبرى عليها السلام"(23).


1.اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص94.
2.الصَلَف: ادّعاء الإنسان فوق ما فيه تكبُّراً.
3.النَطِف: المتلطّخ بالعيب.
4.الشَنف: البغض والتنكُّر.
5.الملَق: أن تعطي باللسان ما ليس في القلب.
6.الغمز: الطعن.
7.الدمنة: الموضع القريب من الدار.
8.أي ميّتة موضوعة في اللحد.
9.بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص109.
10.(م.ن).
11.الشنار: العيب.
12.ترحضوها: تغسلوها.
13.بحار الأنوار، (م.س)، ج45، ص109.
14.لا يبزى: لا يُهلَك ولا يُقهَر.
15.(م.ن)، ج45، ص110.
16.(م.ن)، ج45، ص134.
17.الاحتجاج، الطبرسيّ، ج2، ص37.
18.بحار الأنوار، (م.س)، ج45، ص134.
19.تنطِف (بكسر الطاء وضمّها): تقطر.
20.بحار الأنوار، (م.س)، ج45، ص135.
21.(م.ن).
22.السيدة زينب عقيلة بني هاشم، الدكتورة بنت الشاطئ، ص158.
23.دروس عاشوراء، معهد سيّد الشهداء عليه السلام، ص 111.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع