الشيخ محمود كرنيب
في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين للهجرة، وفيما كان الإمام السَّجاد علي بن الحسين عليه السلام طريح الفراش، وقد أعياه المرض عن النهوض، ليس فقط لنصرة والده الإمام الحسين عليه السلام وإجابة نداء استنصاره، بل حتى عن القيام لمشاهدة تفاصيل ما يحصل في أرض المعركة. في هذا الوقت ارتفعت أصوات القوم في معسكر الأعداء تبشر عمر بن سعد بقتل الحسين عليه السلام، ووصلت تلك الأصوات إلى معسكر الحسين حيث الحُرَم والعيال... هذا النداء هو بنفسه كان مبتدأ تسلُّم الإمام زين العابدين عليه السلام مقاليد الإمامة. تسلَّمها والجيوش المعادية ترفع رأس أبيه على الرمح، وتتأهب للإغارة على مخيم النساء والأطفال، للسلب والقتل والسبي، فكان أول قرار هو من أوائل قرارات الإمامة وأوامرها، رداً على سؤال للعقيلة زينب عليها السلام عن العمل، هو أن فروا بوجوهكم إلى الفلاة!
* إمامة كربلائية المنبت
إمامة استلم مسؤولية رعايتها ورعاية الأمة من خلالها، في مشهد ملامحه صحراء، تنتشر فيها الأشلاء المقطعة، والأجساد المضرجة، ونساء وأيتام فقدوا الراعي، بل فقد بعضهم حتى الأبناء تحت حوافر الخيل، أو لهيب الخيم. ولو نظرنا في تاريخ الرسالات قد لا نجد شخصية تقلدت منصباً رسالياً، ومهمة مقدسة في أجواء كالأجواء والظروف التي كانت للإمام زين العابدين عليه السلام. ولذا، فلا عجب أن تظل فاجعة كربلاء ومأساتها ماثلة أمام ناظريه، لائحة لعينيه، قد انطبعت في نفسه وضميره، ولم تغب عن باله أبداً، بل ظلَّت متخذة من قلبه الشريف مسكناً لا تبرحه، يفيض حزنها وألمها عن القلب، فيُخرِج زفراتٍ وأناتٍ ودموعاً.
*مظاهر البكاء عند الإمام السجاد عليه السلام
مما لا شك فيه أنّ البكاء غدا، ليس فقط طابعاً يطبع شخصيّة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام، بل أصبح، إن صحّ الوصف والتّعبير، ظاهرة في حياته الشريفة؛ ليصبح أحد بكائين خمسة في مسيرة البشرية. فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله، وعلي بن الحسين عليه السلام". وأما علي بن الحسين عليه السلام فبكى على الحسين عشرين سنة، أو أربعين سنة، وما وُضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال عليه السلام: إنّما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خَنَقتني لذلك العَبرة" (1). وكان عليه السلام إذا أخذ الإناء ليشرب الماء تذكر عطش أبيه ومن معه، فيبكي حتى يمزجه من دموعه، فإذا قيل له في ذلك فيقول: "كيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي هو مطلق للوحوش والسباع" (2). وقال له شخص ذات مرة: "أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال عليه السلام: ويلك، لقد شكا يعقوب إلى ربه في أقل مما رأيت حين قال: "يا أسفي" ولم يفقد إلا ابناً واحداً، وهو حي في الدنيا، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي"(3).
* البكاء الهادف
مما سبق ترى أن ظاهرة البكاء كانت مصاحبة لحياة الإمام علي بن الحسين عليه السلام مدة إمامته، ومرافقة لخطوات جهاده ونضاله، وحركته في أوساط الأمة. ومما لا شك فيه أن بكاء الإمام عليه السلام نابع من بعده الإنساني العاطفي، حيث لا يتهيأ للإنسان البكاء ما لم يكن ثمة أمر يوجبه، فقد يكون البكاء أحياناً شوقاً إلى محبوب غائب، أو تنفيساً عن هم أو حزن، لكن يمكننا القول إن البكاء الذي مارسه الإمام علي بن الحسين عليه السلام، لم يكن ناتجاً عن إحساس بالضعف والانكسار، ولا تعبيراً عن يأس وقنوط، ولا اعتراضاً على قضاء أو قدر أجراه المولى تعالى، وإنما هو أمرٌ تقتضيه الطبيعة الإنسانية والبشرية، فضلاً عن أنّ مستوى التأثّر الذي يستدرّ الدموع تابع لمستوى معرفة المصاب وأبعاده، ومعرفة الإنسان الذي تعرّض لهذا الجرم، ووقع عليه ذلك العدوان، فالإمام عليه السلام أكثر الناس معرفة بأبيه الحسين عليه السلام وحرمته، وحرمة أهل بيته والحرمة التي انتهكت بقتله، فإذا كان بكاء يعقوب على يوسف عليه السلام كان لمعرفة يعقوب بيوسف، ومقامه وقداسته، فضلاً عن شعور الأبوة وعاطفتها، فإن للإمام السَّجاد بعد البنوة مع أبيه، والائتمام، معرفةً راقيةً وعاليةً بقداسة مقام الإمام السبط الشهيد. هذه المعرفة التي جعلت رسول الله، وعلياً، وفاطمة، يبكونه قبل ولادته. ولعله لذلك كان تركيز الإمام السجاد عليه السلام في خطبه، لا سيما في الشام، وفي محضر الطاغية وجلاوزته وجمهوره، على منزلة الحسين العظيمة عند الله، وأنه سيّد شباب أهل الجنة، وطهر ابن أطهار، أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ولذا أكّد على عظمة الحسين عليه السلام، وعظمة أهل البيت عليهم السلام عموماً، في السماء قبل ما هم عليه من العظمة في الأرض، وعند أهلها. أما بكاؤه عليه السلام فلم يكن اعتراضاً على قضاء الله، وهم المعروفون بالتسليم والرضا لله في أمره وقضائه، بل إن مقامهم أرقى في هذه المقامات، ومما يؤكد على ذلك، ما ورد عن إبراهيم بن سعد قال: "سمع علي بن الحسين واعية في بيته وعنده جماعة، فنهض إلى منزله ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمِن حدث كانت الواعية؟ قال نعم: فعزّوه وتعجّبوا من صبره فقال: إنّا أهل البيت نطيع الله في ما نحبّ ونحمدُه في ما نكره"(4). والبكاء له قيمة عالية، ولا يفترض أن يكون رخيصاً إلى درجة أن يُذرف لأيّ نائبة، أو أيّ نازلة، بل حيث تكون له قيمة، ومؤثّرية. وما يؤشر إلى ذلك في الخبر أنه عليه السلام نظر إلى سائل يبكي، فقال عليه السلام: "لو أن الدنيا كانت في كف هذا ثم سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي"(5).
* من أهداف البكاء
وعليه، نستطيع القول: إنّ الدموع التي يجريها أي إنسان هي ذات قيمة لدرجة أنّ فقد الدنيا بما فيها لا يساوي دموع هذا السائل، فكيف بدموع خير البرية في عصره، الإمام السجاد عليه السلام؟ إذ لا يمكن أن يذرفها إلا لخطب جلل، وأهداف جليلة عظيمة. ويمكن لنا أن نعدّ من أهداف بكائه عليه السلام، ولكن لا على سبيل الحصر، ما يلي.
*البكاء شعيرة وسنة
إن الله تعالى أثبت في القرآن حقاً لقربى رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو بعينه حقّ لرسول الله صلى الله عليه وآله ودَين له في أعناق البشرية، ألا وهو مودة ذوي القربى ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. فكانت كربلاء، وواقعة الطف، لتبيان مراتب هذا الواجب والتي أرقاها أن لا يرغب المؤمنون والمسلمون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل بيته عليهم السلام، حتى لو وصل ذلك حدَّ الشهادة، والقتل، والمعاناة من عسف الحكّام، وظلم الظلَّام، ولذا كان مأثوماً من سمع واعية الحسين عليه السلام ولم يجبه ولم ينصره، وكذلك من سمع بذلك فرضي به، ومن مصاديق المودَّة، المواساة لهم، ومشاركتهم الأفراح والأحزان، وإقامة الرابطة العاطفية حتى من بعيد، والبكاء على مصابهم. وأفضل ذلك البكاء هو البكاء على مصابٍ أبكاهم، وأول من عني بذلك بعد الطفّ هو الإمام علي بن الحسين عليه السلام. ولذا كان لزاماً أن يقوم الإمام عليه السلام بما هو متاح من أساليب المودة، وأقلّها البكاء على مصابهم.
* تمزيق لجدار الصمت
والبكاء هو وسيلة من وسائل إثارة القضية؛ لأنه يدعو الناس إلى التساؤل عن الأمر الذي يجعل شخصاً كالإمام السجاد يسيل ماءُ عينيه أربعين عاماً، وبالتالي تحريك المشاعر الإنسانية والإيمانية. فالحكّام الظالمون عمدوا إلى قتل بطل الثورة، ورفاقه الأبطال، ليتخلصوا منهم ويخرسوا صوتهم، إذا ما غيبوا أشخاصهم، سواء تحت التراب، أو خلف جدران السجون؛ ليحاولوا بذلك بناء جدران الصمت. إلا أن البكاء يصبح فعلاً يمنع من اقتلاعهم بالعواطف، لكأنه رسالة تريد أن تقول: إن المعركة لم تنته بعد. وهو بهذا المعنى يبقي الضوء مسلطاً على قبح الظالمين، وأفعالهم، ومظلومية المظلومين، وبطولاتهم.
* إعداد للثوار، وإحياء لروح الثورة
يقول الإمام الخميني قدس سره: "... إنّما نحن أمّة البكاء السياسي، نحن أمّة تصنع من دموع مآتمها سيلاً عَرِماً يحطّم كلّ السّدود التي تقف في وجه الإسلام". البكاء في رمزيّته كالماء، فكما أنّ الماء يروي النبات لتشتد جذوره، وتقوى أعواده، وتستطيل أغصانه، فيزهر ويثمر، فكذلك الدموع بعد الدماء، تروي قيم الحرية والعدالة والمبادئ التي ارتفع لأجلها الشهداء. فالبكاء على الشهداء الأحرار، بكاء على قضيتهم، وهو الذي يصنع الثورات لتغيير الواقع الفاسد، ويعمل على تكديس النقمة والنفور من الظالمين والقتلة. البكاء كما رآه الإمام الخميني قدس سره، وسيلة لتنمية عناصر الثورية في الأجيال، وعلى مدى الزمن ضد الظالمين.
بكاء رسالي
لقد شبّه الإمام السجاد بكاءه ببكاء يعقوب عليه السلام، فيما ذكر الإمام الصادق عليه السلام أن الإمام السجّاد هو أحد البكّائين الخمسة، يعني أن بكاءه عليه السلام هو مشابه لكلِّ بكاءٍ لمعصومٍ على طول المسيرة البشرية، وهو بذلك بكاء رسالي. بكاء يريد أن لا يسمح بنسيان هذا الحدث، بكل أبعاده البطولية أو المأساوية، وقضاياه الإنسانية والإيمانية، ولعدم السماح بمحوه من التاريخ، أو تشويهه؛ لأنه بكاء يحيي الضمائر والوعي. ألم تنطق زينب عليها السلام بلسان الحسين أمام الطاغية بذلك: "كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها"(6).
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج11، ص204.
2.م.ن، ج 46، ص 108.
3.أعيان الشيعة، ج 1، ص 636.
4.تاريخ دمشق، ابن منظور، ج 1، ص 240.
5.كشف الغمة، ج 2، ص 106.
6.بحار الأنوار، م.س، ج 45، ص 135.