القائد آية الله السيد علي الخامنئي
* مواقف الإمام في مراحل القمع
يظن البعض أنه فيما لو أراد الإمام أن يقاوم نظام بني أمية لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة، أو أن يلتحق بالمختار أو عبد الله بن حنظلة أو أن يقودهما معلناً بذلك المقاومة المسلحة بكل وضوح. لكننا نفهم من خلال النظر إلى ظروف زمان الإمام السجاد عليه السلام أن هذا ظن خاطئ وذلك بالالتفات إلى هدف الأئمة عليهم السلام الذي سأبينه لاحقاً.
لو قام الأئمة عليهم السلام في تلك الظروف بمثل هذه التحركات العلنية والسلبية، فباليقين لما بقي للشيعة باقية، ولما بقيت الأرضية أو فسح المجال لاستمرار ونمو مدرسة أهل البيت ونظام الولاية والإمامة فيما بعد. لهذا نجد أن الإمام السجاد عليه السلام في قضية المختار لم يعلن التعاون معه، وبرغم ما جاء في بعض الروايات عن ارتباط سري بينهما إلاَّ أنه وبدون أدنى شك لم يكن ارتباطاً علنياً، حتى قيل في بعض الروايات أن الإمام السجاد عليه السلام كان يذم المختار ويبدو هذا الأمر طبيعياً جداً من ناحية التقية وذلك حتى لا يشعر بوجود أي ارتباط بينهما، مع العلم بأنه فيما لو انتصر المختار فإنه بالتأكيد سيعطي الحكومة لأهل البيت عليهم السلام، ولكن في حال هزيمته، ومع وجود أدنى ارتباط واضح وعلني، لكانت النقمة شملت وبشكل قطعي الإمام السجاد عليه السلام وشيعة المدينة واجتثت جذور التشيع أيضاً. لأجل ذلك لم يُظهر الإمام أي نوع من الارتباط العلني معه.
بادر الإمام السجاد عليه السلام إلى تدوين الفكر الإسلامي الأصيل بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.
جاء في رواية أنه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرة، لم يشك أحد على الإطلاق في أن أول شخص سيقع ضحية نقمته هو علي بن الحسين عليه السلام، لكن الإمام السجاد بتدبيره الحكيم تصرف بحيث دفع هذا البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصلي للشيعة.
وهناك روايات في بعض الكتب -منها "بحار الأنوار"- تحكي عن إظهار التذلل من قبل حضرة السجّاد عليه السلام عند مسلم بن عقبة، ولكنني بالقطع أكذب هذه الروايات وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لا تستند هذه الروايات إلى أي سند صحيح.
ثانياً: يوجد روايات أخرى تكذبها وتدفعها من حيث المضمون.
ففي لقاء الإمام عليه السلام مع مسلم بن عقبة يوجد روايات عديدة لا تنسجم أية واحدة منها مع الأخرى، ولأن بعض تلك الروايات تنطبق وتنسجم أكثر مع نهج الأئمة وسيرتهم. فنحن بصورة طبيعية نقبلها.
على كل حال، مع أننا لا نقبل بتلك الروايات التي تتحدث عن صدور مثل هذه الأفعال عن الإمام ولكننا لا نشك أيضاً في أن الإمام لم يقابل مسلم بن عقبة بتصرف معاد، لأن أي تصرف من هذا القبيل سوف يؤدي إلى قتل الإمام، وهذا سيؤدي بدوره إلى خسارة عظيمة لا تجبر بلحاظ الدور الذي ينبغي أن يقوم به الإمام السجاد بالنسبة لثورة الإمام الحسين عليه السلام وتبليغ حقيقتها. لهذا يبقى الإمام -وكما قرأنا في رواية الإمام الصادق عليه السلام- ويلحق الناس شيئاً فشيئاً ويزداد عددهم. وفي ظل تلك الظروف العصبة وغير المساعدة يبدأ عمل الإمام السجاد عليه السلام.
في تلك الفترة ساد حكم عبد الملك -الذي شمل أكثر مراحل الإمامة لمدة تجاوزت الثلاثين سنة- وكان نظامه يقوم بالإشراف التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجاد عليه السلام، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة التي كانت تنقل إليه أدق التفاصيل حتى المسائل الداخلية والخاصة للإمام.
فمثلاً كان للإمام السجاد عليه السلام جارية تزوجها بعد أن أطلقها. وصل هذا الخبر إلى عبد الملك، فكتب رسالة إلى الإمام السجاد أراد أن يُفهمه فيها أنه مطلع على أعماله ومجريات حياته، وكان يريد ضمن ذلك أيضاً أن يقوم بنوع من البحث والتفاخر والاستعلاء، فيكتب للإمام أن هذا العمل ليس من سترة قريش وأنت من قريش فما كان ينبغي أن تفعل هذا! فيجيبه الإمام جواباً شديداً مُظهراً عدم تقبّله لتصرف عبد الملك الممتزج بالتودد والمكر.
* أهداف الإمام
بعد أن اتضحت أرضية عمل الإمام أشير بشكل مختصر إلى الهدف والمنهج الذي اعتمده الأئمة، وبعد نقوم بدراسة جزئيات حياة ذلك الإمام فيما يتعلق بهذا النهج.
بدون شك أكان الهدف النهائي لحضرة السجاد عليه السلام إيجاد الحكومة الإسلامية وكما جاء في كلام الصادق عليه السلام- العدد الأول- بأن الله تعالى قد وقّت عام 70 لقيام الحكومة الإسلامية، ثم بسبب قتل الإمام الحسين عليه السلام سنة 60 فإن الله أخّرها إلى سنة 147-148، وهذا يحكي بشكل تام عن أن الهدف النهائي للإمام السجاد وسائر الأئمة هو إيجاد الحكومة الإسلامية. ولكن كيف يمكن أن تقام الحكومة الإسلامية في مثل تلك الظروف؟ إن هذا يحتاج إلى عدة أمور:
1- ينبغي أن تدوّن وتدرس وتنتشر المدرسة الإسلامية الحقيقية التي يحمل علمها الأئمة عليهم السلام، هذه المدرسة التي هي أيضاً المبنى الأساس للحكومة الإسلامية.
إذ كيف يمكن أن تقام حكومة مبنية على أساس الفكر الإسلامي الأصيل، والمجتمع الإسلامي قد أبعد لسنوات طويلة عن الفكر الإسلامي الصحيح إضافة إلى أنه لم يكن هناك أية ظروف مساعدة لنشره وتثبيت أركانه بين الناس.
إن أعظم الأدوار التي مارسها الإمام السجاد عليه السلام هي أنه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوة، وحقيقة المقام المعنوي للإنسان، وارتباطه بالله، وأهم دور كان للصحيفة السجادية هو في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصحيفة، ثم جولوا ببصركم في أوضاع الناس على صعيد الفكر الإسلامي في ذلك الزمان ستجدون مدى المسافة التي تفصل بين الاثنين.
ففي ذلك الزمان الذي كان المسلمون في كل أنحاء العالم الإسلامي يسيرون نحو الحياة المادية والملذات بدءً من شخص الخليفة عبد الملك بن مروان إلى العلماء المحيطين به (ومن جملتهم محمد بن شهاب الزهري، وسوف أذكر أسماء علماء البلاط فيما بعد)، نزولاً إلى الجميع الذين كانوا يغوصون في بحر الدنيا والماديات، يقف الإمام السجاد عليه السلام ويقول مخاطباً الناس: "أو لا حر يدع هذه اللمامة لأهلها".
ففي هذه الجملة يوضح الإمام أن الفكر الإسلامي الأصيل كان عبارة عن: جعل الهدف للمعنويات والتحرك نحو الوصول إلى الأهداف المعنوية والإسلامية، وجعل الإنسان يرتبط بالله عبر التكليف. وهذا هو الموقف المقابل تماماً لحركة الناس في ذلك الزمن.
كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم بعمل كبير لأجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلامي. وكانت هذه الحادثة بداية أعمال الإمام السجاد عليه السلام.
2- تعريف الناس على حقانية أولئك الذين ينبغي أن يتسلموا زمام الحكم.
إذ كيف يمكن لأهل البيت تشكيل حكومة في الوقت الذي كان الإعلام والتبليغ ضد آل الرسول قد ملأ العالم الإسلامي طوال عشرات السنين حتى عصر الإمام السجاد عليه السلام وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة عن رسول الله والتي تخالف حركة أهل البيت بل إنها في بعض الموارد تشتمل على سبهم ولعنهم وقد نشرت بين ناس لم يكن لديهم أي اطلاع على المقام المعنوي والواقعي لأهل البيت.
لهذا، فإن أحد الأهداف والتحركات المهمة للإمام كانت ترتبط بتعريف الناس على حقانية أهل البيت وأن مقام الولاية والإمامة والحكومة حق ثابت لهم وهم الخلفاء الواقعيون للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم. وهذا الأمر إضافة لما له من أهمية عقائدية وفكرية فإنه يرتبط بالحركة السياسية المناهضة للنظام الحاكم.
عمل الإمام السجاد عليه السلام على إيجاد التشكيلات المنظَّمة لاتباع أهل البيت عليهم السلام.
3- كان على الإمام أن يؤسس بعض الأجهزة والتشكيلات التي يمكن أن تكون منطلقاً أصلياً للتحركات السياسية المستقبلية.
ففي مجتمع متمزق يعيش تحت أنواع القمع والفقر والتضييق المالي والمعنوي، وبالأخص الشيعة الذين كانوا يعانون من تضييق متزايد، لم يكن باستطاعة الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم وحده أو مع جماعة قليلة وغير منظمة بالثورة والمواجهة. لهذا كان هم الإمام السجاد عليه السلام أن يبدأ بتشكيل هذه التنظيمات التي كانت ـ برأينا ـ موجودة منذ أيام أمير المؤمنين غير أنها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء والحرة وواقعة المختار.
بالنتيجة نجد أن عمل الإمام كان يدور ضمن ثلاثة محاور:
الأول: تدوين الفكر الإسلامي بصورة صحيحة وطبق ما أنزل الله، بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.
الثاني: إثبات حقانية أهل البيت في الخلافة والإمامة.
الثالث: إيجاد التشكيلات المنظّمة لاتباع أهل البيت عليهم السلام وأتباع التشيع.
هذه الأعمال الثلاثة هي التي ينبغي أن ندرسها ونبحث لنرى أي واحد منها قد تحقق في حياة الإمام السجاد عليه السلام.
إلى جانب هذه الأعمال كانت هناك أيضاً أعمال أخرى وتحركات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجو المرعب والقمعي. ففي ظل الإجراءات الأمنيّة المشدّدة التي كان يفرضها الحكم نلاحظ مواقف عديدة للإمام أو أتباعه كان الهدف منها كسر حواجز القمع وصناعة بعض الأجواء الملائمة واللطيفة خاصة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها. مثل المواقف التي حدثت بين الإمام وعبد الملك عدة مرات، أو الأمور التي جرت مع العلماء المنحرفين والتابعين لعبد الملك (من قبل محمد بن شهاب الزهري) كل ذلك لأجل خرق ذلك الجو المتشدد. وفي المقالات اللاحقة ـ إن شاء الله ـ سوف نبحث في جزئياتها.
إن الباحث عندما يستعرض الروايات سواءً الأخلاقية أو المواعظ أو الرسائل التي نقلت عن الإمام أو التصرفات التي صدرت عنه وذلك على أساس ما بيّناه فإنه سوف يجد لها المعاني المناسبة وبتعبير آخر سوف يرى أن جميع تلك التحركات والأقوال كانت ضمن الخطوط الثلاثة التي أشرنا إليها والتي كانت تصب جميعاً في دائرة إيجاد الحكومة الإسلامية. وبالتأكيد لم يكن الإمام يفكر في إيجاد حكومة إسلامية في زمانه لأنه كان يعلم أن وقتها في المستقبل ـ أي في الحقيقة في عصر الإمام الصادق عليه السلام.