نسرين إدريس قازان
لم يخطر في بال الصديق أن المزحة التي أحبّ أحدهم أن يضفي بها جواً من المرح في المركز، ستتحول إلى صدمة هزّت قلوب كل من شَهِدَ الحادثة؛ فهو، وقبل بدء عدوان تموز2006 بثلاثة أيام، دخل إلى المركز ونادى على أحمد الذي ما إن التفتَ ناحيته حتى التقطَ له صورة عفوية، وفي اليوم التالي، طبعها ووضعها في إطار كاتباً عليها: "مهداة إلى روح الشهيد أحمد عساف" ثمّ علّقها على الحائط. وما إن رآها أحمد حتى ابتسم ابتسامة لاحت على طرفها دمعة خفيّة تضمنت الكثير من المعاني، فالصورة كانت كالريح التي نفخت فوق الرماد فأيقظت نار شوقٍ قديم.. نظر إلى صورته ليبصر الشّيب قد مدّ خطوطه بين خصلات شعره، فثمّة فارق كبير بين النظر في المرآة، وبين النظر إلى صورة تعكس أمنية دفينة، فكانت تلك الخطوط وكأنها طريق إلى الماضي، وبالتحديد إلى عام 1984، يوم حسم قراره بأنه لا يريد أن يظلَّ مقاوماً إلى جانب حياته الشخصية، بل أن تكون المقاومة كل حياته.
* "مدرسة" في الحياة والسلوك
لم يكن أحمد أيام الشباب يعيشُ على هامش مجريات الأحداث، بل كان متابعاً لها إلى الحدِّ الذي غيّرت فيه بوصلة حياته. وكان هذا أمراً طبيعياً لفتى، حكمت الظروف الاقتصادية الصعبة وخريطة الحرب المرّة، أن يتركَ دفء العائلة بعد أن أنهى المرحلة الابتدائية، لينضم إلى عائلة أخرى في مدرسة الشهيد "مصطفى شمران" الداخلية، ليمكث فيها حتى ينال الشهادة المتوسطة. عكست تلك السنوات، مع ما تحمله من مرارة الغربة، إيجابيات كثيرة، أهمها أنها كانت سبباً أساساً في صقل الروح الإيمانية والجهادية في نفسه، وبلورت التزامه الذي اكتسبه من بيئته المتديّنة بالفطرة. وإلى جانب ذلك تعلّم العديد من المهارات التي أجادها، وأغنته طوال حياته عن طلب خدمةٍ من أحد، فهو كان ينفذ كل شيء بيديه، وبطريقة عالية الجودة. لم يكن الشهيد الدكتور مصطفى شمران بالنسبة لأحمد قدوة ومثالاً فحسب، بل كان مدرسة في الحياة وفي السلوك على حدّ سواء، وربما نستطيع القول إن الكثير من مناحي التفكير عند أحمد إنما استقاها من فكر الدكتور شمران.
* مجاهد بارّ
بعد دراسته لاختصاص "الالكترونيك" في المهنية، انتقل أحمد إلى الجامعة اللبنانية، ولكنه سرعان ما ترك مقاعد الدراسة ليلتحق بصفوف المجاهدين. ومنذ تلك اللحظة عاشَ حياة عملية يكتنفها الغموض والسرّية، ولكنها كانت تشي بانفصاله الواضح عن هذه الدنيا، وعيشه في مكانٍ روحي ومعنوي خاص به، يوصله إلى الشهادة. ابنُ قرية "بوداي" البقاعية، حمل في قلبه رقةً قلّ نظيرها، ومحبّةً لمن حوله جعلتْ من أيامهم أحواضاً مليئة بالذكريات الجميلة، فهو علّم من حوله أن البرّ بالوالدين وطاعتهما هما أساسُ التوفيق في الدنيا والآخرة، وكان رجلاً كلّل تعامله مع الناس بالمداراة، فكثيراً ما كان يقوم بأشياء، يظنُّ بعض الناس أنّها تنازل، ولكنّها لم تكن سوى أسلوب اتّبعه في سبيل الوصول إلى ما يريد بقناعة ورضا الطرف الآخر. وقد اتخذ من كل حادثة تصيبه، أكانت جميلة أم قاسية، درساً له، ما هوّن بعينيه كل ما نزل به، ولم تسلبه الراحة والحذر والترقب.
* شوق ومسؤولية
كان أحمد منذ صغره فطِناً متفتح الذهن، مرحاً لا يفتأ يفكّر بكيفية فعل المقالب اللطيفة بالآخرين، ولكنه مع ذلك كان يحافظ على توازنٍ ملحوظ بين مرحه وجديته. أحب أحمد قريته كثيراً، ولم يستطع مغادرتها أبداً، حتى في السنوات القليلة التي قطن فيها أهله في الضاحية الجنوبية أثناء دراسته في المهنية، فالشوق كان يأخذه إليها، ممهداً طريق العودة والمكوث فيها. حتى قيل إنه عندما يخرجُ منها، فإن روحه تخرج من بدنه وتضيق به الدنيا. تزوّج أحمد ورزق بخمسة أولاد حرص على أن يربيهم تربية إسلامية واعية، فغذى عقولهم بالمعرفة والإدراك، ورسم لهم طريقاً واضح المسار، وكثيراً ما كان يوصيهم بصلاة الصبح وصلاة الليل..
* سنين التضحية والجهاد
سنوات طويلة قضاها أحمد في صفوف المقاومة الإسلامية، سنواتٌ كان بعضها مريراً وصعباً مليئاً بالتضحيات والصبر والمعاناة، وبعضها الآخر مكللاً بالانتصارات. ولكن أحمد ظلّ ذلك المجاهد المتحمس المليء بالحيوية والمبادرة. فالرجلُ الهادئ نمّ هدوؤه عن حكمة عميقة، ولم تمحُ حساسيته المفرطة حزمه وجرأته وصراحته في العمل، فهو يُصيبُ أوقات الكلام ويجيدُ الصمتَ في حينه. تأثر أحمد كثيراً بشخصية الشهيد السيد عباس الموسوي، وتأثر بتفاصيل حياته الخاصة والجهادية، وكانت كل حكاية يسمعها عنه تشكّل في نفسه دافعاً أقوى في الجهاد، وتؤجج فيه نار الاشتياق للشهادة. شارك أحمد في العديد من الدورات العسكرية والثقافية، ولكن واحدةً كانت مفصلاً مهماً في حياته، وهي دورة ثقافية شارك فيها خلال العام 2000، وخرج منها بتغير واضح انعكس من روحه على تقاسيم وجهه، وصار كثير البكاء وخصوصاً أثناء قراءته لدعاء " العهد"، وتحوّل ليله إلى ساعات تفكّر، وقد حرص على تثقيف نفسه وتطويرها، فكان يقضي معظم وقت فراغه بين الكتب المختلفة المواضيع.
* رؤيا تسكن الفؤاد
قبل أسبوعين من استشهاده رأى في منامه أنه التقى بالإمام الخميني قدس سره ورحل معه، ففتح عينيه على بُشرى غمرت قلبه، وقلّب أيامه مترقباً، لأن شعوراً ما أنبأه بأن الرؤيا ليست أضغاث أحلام، فالإحساس الذي خالجه وهو يمضي مع الإمام قدس سره سكّن فؤاده.. وجاء ذلك اليوم. كان أحمد يحضّر ورفاقه لنزهة إلى نهر العاصي، عندما سمعوا بعملية الأسر، فألغوا الرحلة ليلتحق كلٌّ بمكان عمله. يومها ظهرت فرحة عارمة على محيا أحمد، حتى أنه لا يذكر أحد أنه رآه فرحاً من قبل إلى هذا الحدّ. عاد أحمد إلى منزله، اطمأن إلى عائلته، وانطلق إلى العمل.
لم يطل انتظاره في الحرب، فهو قد أدرك أن حرباً أرادها العدو، لن تكون إلا كما وصّفها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله، مليئة بالمفاجآت.. ولكن شوق أحمد كان أسرع من كل شيء، فارتفعت روحه الطاهرة في أول استهداف للعدو الصهيوني لمنطقة بعلبك ليرتاح أخيراً على أكف رفاق الدرب وهم يشيعونه إلى مثواه الأخير وليكون أول شهداء مدينة الشمس في الوعد الذي سيظل ساطعاً كالشمس.